العصفورة وفراخها

تعوّدت اليمامة الرّمادية على زيارة حافّة الشّباك في صفّ طارق لأنّها شعرت بالأمان وبمحبّة الصّغار لها واهتمامهم بها. فهُم يحملون إليها الطّعام يوميًا.

 

وفي هذا اليوم، عندما عاد الصغار إلى صفّهم بعد انتهاء فسحة السّاعة العاشرة، فوجئوا باليمامة داخل الصّف. لقد رأت بعض الخبز على الأرض، فتشّجعت وقفزت إلى الدّاخل لإلتقاطها، فأسرع طارق وأمسك بها مُحقّقا بذلك أمنيته بأن يتحسّس ريشها النّاعم. وتحلّق الرّفاق حول طارق وكلّ منهم يحاول أن يأخذ اليمامة منه، وهي تضرب بجناحيها محاولةً التّخلص من يد طارق.

 

قالت المُعلّمة بحزمٍ: دعها يا طارق.

 

تَرَك طارق اليمامة، فطارت مُبتعدةً عبر النافذة.

 

تابعت المُدَرّسة قائلةً: أنتَ فتى طيب يا طارق، وكذلك كلكّم طيبون، والإنسان الطّيب لا يؤذي، بل يجب أن يكون رحيمًا مُحبًا يشفق على الضّعيف ويساعد المُحتاج، ولا يغدر بمن يطمأنّ إليه. والحيوانات والطّيور مخلوقاتٌ ضعيفةٌ. وهذه اليمامة قد لجأت إلينا واطمأنّت فلا يصحّ إخافتها.

 

قال طارق: أنا لم أقصد إخافتها أو إيذائها.

 

فأجابته المُعلّمة: لا بأس عليك يا طارق. اسمعوا يا صغاري هذه القصة التي جرت مع رجلٍ حكيمٍ.

 

كان الحكيم جالسًا بين أصحابه فجاءه رجل يلبس عباءةً وفي يده شيء يخبّئه في طرف عباءته، وقال: يا حكيم، كنت أمرّ بقرب مجموعةٍ من الأشجار فسمعتُ أصوات فراخ طير، فأخذتها من عشّها ووضعتها في عبائتي، فجاءت أمّ الفراخ وحامت فوق رأسي، فكشفت عباءتي عن فراخها الصّغار فحامت الأم فوق الفراخ ثم جلست فوقها فلففتها في عباءتي وها هي معي.

فقال الحكيم: ضعها هنا على الأرض.

 

فلمّا وضعها الرجل، كشف الحكيم الغطاء عنها، فرفضت الأم فراق صغارها، فقال الحكيم: أتعجبون لرحمة أمٍ بفراخها؟

 

قال أصحابه: نعم.

 

قال الحكيم: إنّ الله أرحم بعباده من أمّ الفراخ بفراخها. ثم أمرَ الرجل أن يرجع الفراخ وأمّها إلى حيث كانت.

 

قال طارق: أنا آسف فعلاً، ولكن هل ستسامحنا اليمامة؟ هل ستعود إلى حافّة صفّنا كعادتها؟

 

اتّفق الصغار مع المعلمة على إعادة الطّمأنينة إلى اليمامة الرّمادية، وقنِعوا بصداقتها لهم من بُعدٍ. فتابعوا وضع الحَبّ والخبز لها ووضعوا لها وعاء ماء لتشرب.

 

ويومًا بعد يومٍ عادت اليمامة تحطّ قليلاً، تنقر من الحَبّ ثم تطير. ولم يحاول أحدٌ من الصغار أن يقترب منها حتى لا يخيفها، فأَلِفَت اليمامة هذا المكان واطّمأنّت إلى أصدقائها. ومع اقتراب موعد عطلة الفصل الأوّل شغل فكر طارق ورفاقه سؤال هام: مَن سيهتّم باليمامة أثناء غيابهم؟ وإذا افتقدت اليمامة الطعام الذي كانت تجده على حافة شبّاك صفهم فهل تعود إليه؟

 

اقترحت المعلمة على الصّغار أن يحضروا كميةً من الذّرة تكون مؤونةً لليمامة طيلة غيابهم، على أن يتولّى العَم محمود، حارس المَدرَسَة، رشّ الحَب يوميًا لها على شباك صفّهم. وهكذا، وقبل مغادرة الأولاد المدرسة، توجّهوا مع المعلمة إلى العم محمود ليشرحوا له الأمر. استمع العم محمود إلى طلب الأولاد ثم قال، وقد ترقرقت الدّموع في عينيه: يا الله كم أنتم من الطّيبين أيّها الصغار، وأطمئنكم بأنّني لن أنسى أبدًا أن أرشّ الحَب لليمامة، وسأرشّه لها مرّتين في اليوم، صباحًا وبعد الظهر.

وشكرت المُعلّمة والأولاد العَم محمود، وودّعوه.

 

 

"ما رأيكم بصنع بيتٍ لليمامة؟ "

 

اقتراح تقدّم به طارق ولاقى التّرحيب من الرّفاق والمعلمة، فأقبلوا على تنفيذه بنشاطٍ في ساعات الرّسم والأشغال اليدويّة. أسبوع مرّ وأصبح البيت جاهزًا. إنّه مصنوع من علبة بسكويت كرتونيّة، ومُلوّن بألوانٍ زاهيةٍ حمراء وصفراء، وقد جعل له الصّغار بابًا مفتوحًا. ووضعوا البيت على حافّة الشباك وبداخله قشّ وذرة وقمح.

 

أخذت اليمامة تتردّد على البيت الصغير، تنقر من الحب وتطير. وشيئًا فشيئًا أَلِفَت اليمامة بيتها الجديد، بل أصبح زوج حمام يتردّد على حافة الشباك، وبدأت اليمامة تبني لنفسها عشًا في البيت الجديد. فسعد الصغار بالبيت الذي صنعوه لليمامة، وبتردّد زوج اليمام معًا على شبّاك صفّهم.

 

ويومًا اكتشف الصغار ريشًا رماديًا متناثرًا على حافّة الشّباك، والذّرة لا تكاد تنقص شيئًا. قلق الصغار على صديقتهم اليمامة، وبخاصةٍ عندما لاحظوا ضمور جسمها وميله إلى الهزال بعد أن كان ممتلئًا. تساءل طارق قائلاً: أهي مريضة؟ أجاب مالك: أظنّها صائمة. سلحفاتي تصوم كلّ سنة.

 

المُعلمة: لا. اليمامة ليست صائمة، إنّها فقط تبدّل ريشها كطبيعة الطّيور في مثل هذا الوقت من كلّ عامٍ. وهي مثل كلّ الطيور، يقلّ أكلها في هذه المرحلة...

 

 

الصّغار واليمامة

 

لم يدم انتظار الأولاد طويلاً، فبعد ستّة عشر يومًا من احتضان اليمامة للبَيض، فوجئوا برؤية فرخين صغيرين في العشّ يغطّي جسميهما زغب رمادي. راقب الصغار اليمامة وهي تحتضن الفرخين تحت جناحيها، أو تطعمهما الحَب بمنقارها. وأعجبوا بها وهي تهمّ بالدفاع عنهما كلّما خَطَر للصّغار الإقتراب من العش، وقد شارك الوالد الأم في العناية بالصّغيرين، بإطعامهما أو بالدّفاع عنهما أو بتدريبهما على الطّيران عندما قوّيت أجنحتهما. لم يملّ الأولاد تأمّل زوج اليمام والفرخين الصغيرين، وأصبح الفرخان الصّغيران شغل الأولاد الشّاغل. وقد دفعتهم الرّحمة بهما إلى زيادة كميّة الحَب التي يحضّرونها يوميًا، وإلى تنافسهم في ملء وعاء الماء وتنظيف العش. لكن مشكلةً كبيرةً بدأت تواجههم: فعطلة الصيف التي اقتربت حَمَلت طارقًا على التّساؤل: تُرى هل أستطيع أن آخذ الفرخين معي إلى البيت فأضعهما في قفصٍ وأعتني بهما؟

 

إعترضت المعلمة قائلة: لا يا طارق. الصّغيران بحاجةٍ إلى أمّهما وأبيهما لتعليمهما كيف يأكلان، ولتدريبهما على الطيران. كما إن اليمام يحبّ الحريّة ولا يعيش في قفصٍ طوال الوقت.

 

ولكن مَن سيهتم بهما؟ مَن يضع لهما الماء والحَب كلّ يومٍ؟

 

سنطلب ذلك من العَم محمود، كما فعلنا سابقًا، أتذكرون؟

 

أخاف أن ينسى العم محمود ذلك، فتترك اليمامة حافّة شبّاكنا ولا تعود إليه أبدًا.

 

لتكن مشيئة الله يا أولادي.

 

وغادر الأولاد المدرسة لقضاء عطلة الصّيف وفي أذهانهم سؤال: أتراهم سيعودون ليجدوا اليمامة وفرخيها الصّغيرين على حافّة شباك الصف، أم تراها ستغادر المدرسة لتبحث عن الرّزق في مكانٍ آخرٍ يسوده الأمن والسلام؟!