باب الأسد والثور - مثل التاجر المستودع حديدا

قال كليلة: زعموا أنه كان بأرض كذا وكذا تاجر مقلّ فأراد التوجه في وجه من الوجوه ابتغاء الرزق. وكان له مئة منّ من حديد فاستودعها رجلا من معارفه ثم انطلق. فلما رجع بعد حين طلب حديده، وكان الرجل قد باعه واستنفق ثمنه، فقال له: كنت وضعت حديدك في ناحية من البيت فأكله الجرذان. قال التاجر: إنه قد كان يبلغني أن ليس شيء أقطع للحديد من أسنانها وما أهون هذه الرزيّة فاحمد الله على صلاحك. ففرح الرجل لما سمع من التاجر وقال له: اشرب اليوم عندي. فوعده أن يرجع إليه. فخرج التاجر من عنده فلقي ابناً له صغيراً فحمله وذهب به إلى بيته فخبّأه ثم انصرف إلى الرجل وقد افتقد الغلام وهو يبكي ويصرخ.

فسأل التاجر: هل رأيت ابني: قال له: لقد رأيت حين دنوت منكم بازياً اختطف غلاماً فعسى أن يكون هو. فصاح الرجل وقال: يا عجباً، من رأى أو سمع أن البزاة تختطف الغلمان. قال التاجر: ليس بمستنكر أن أرضاً يأكل جرذها مئة منّ حديد قد تختطف بزاتها الفيلة، فكيف غلاماً. قال الردل: أكلت الحديد وسمًّا أكلت فاردد ابني وخذ حديدك.

وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أنك إذ غدرت بملكك ذي البلاء الحسن عندك فلا أشك بغدرك بمن سواه. فلا طمع لذي عقل في وفائك لأحد. وقد علمت أنه ليس للمروءة عندك موضع. فإنه لا شيء أضيع من مودة تمنح لمن لا وفاء له، أو بلاء حسن يصطنع عند من لا شكر له، أو أدب صالح يؤدّب به من لا يستمع له، أو سرّ يستودعه من لا حصافة له. ولست في شك من تغير طباعك لأني أعرف أن الشجرة المُرّة لو طلبت بالعسل والسمن لم تثمر إلا مراً. وقد خفت صحبتك على رأيي وأخلاقي. فإنّ صحبة الأخيار تورث الخير وصحبة الأشرار تحدث كل شرّ كالريح إذا مرّت على النتن احتملت نتناً وإذا مرّت على الطيب احتملت طيباً. وقد عرفت ثقل كلامي عليك فلم تزل السخفاء تستخف العلماء واللؤماء تعيب الكرماء وذوو العوج يُضرّ وعجهم باستقامة من خالطهم.

فانتهى كلام كليلة إلى هذا وقد فرغ الأٍد من الثور. فلما قتله راجع رأيه وفكّر فيما صنع بعد سكون غيظه وضاق به ذرعاً وقال في نفسه: لقد كان الثور ذا عقل وخلق ولا أدري لعله كان بريئاً مبغياً عليه، وقد فجعت نفسي بفجيعة ما أصبت منها عوضاً. فحزن وندم وعرف دمنة ذلك من الأسد فترك محاورة كليلة وتقدم إليه فقال له: ما يحزنك أيها الملك وقد أظفر الله يدك وأهلك عدوك.

فقال الأسد: حزنت على عقل الثور وكرم خلقه وذكرت صحبته وحرمته فداخلني له رأفة.

قال دنة: لا ترحمنّه أيها الملك. فإن العاقل لا يرحم من يخاف غائلته. وإن الملك الحازم ربما أبغض الرجل وكرهه ثم يقبل عليه فيقرّبه ويولّيه الأمور لما يعرف عنده من الغناء والعقل، كما يقبل الرجل على الدواء البشع الكريه رجاء منفعته. وربما أحب الرجل وعز عليه فأقصاه وابعده مخافة ضرّه كفعل الرجل تلسع الحية إصبعه فيقطعها ويرمي بها مخافة أن ينتشر سمّها في جسده كله فيقتله. 

فأقرّ الأسد بقوله. ثم إن الأسد فحص عن أمر الثور وعما كان من قول دمنة وبغيه عليه فاستبان الأسد كذب دمنة وسوء عمله وخيانته له فقتله شرّ قتل. فهذا حديث الأخوين المتحابين يقطع بينهما الخؤون الكذوب.