باب الفحص عن أمر دمنة - مثل المرأة والمصور والعبد

قال دمنة: زعموا أنه كان بمدينة باثرون في أرض تدعى كشمير تاجر يدعى حبلاً وكانت له امرأة ذات حيلة ودهاء تختلس من ماله فتبيعه لشؤونها. وكان إلى جانب بيتها مصوّر ماهر بالتصاوير يواطئها على اختلاس المال. فقال المرأة للرجل في بعض أحيانه التي كان يأتيها فيها: إن استطعت أن تحتال بصناعة اطّلع بها على مجيئك إذا جئتني بالليل من غير نداء ولا رمي ولا شيء يرتاب به يكون رفق ذلك بي وبك. فقال المصور: عندي في ذلك من الحيل ما يسرّك، وهو أن عندي ملاءة بتهاويل الصور، وجهها الواحد شبيه باليقق الأبيض الشبيه بضوء القمر، والوجه الآخر حالك السواد شبيه بالظلمة الحندسية منظراً. فبياضها يدعوك في الليلة الظلماء بضوئه وسوادها يبدو لك في الليلة المقمرة، فقال: إذا رأيتها فاعلمني أني صاحبك فتأتيني بالمال دون نداء. فدخل عبد للتاجر وهما يتفاوضان في ذلك فسمع قولهما، فأراد أن يصيب شيئاَ من المال المختلس. فلما كان بعد ذلك وكان العبد صديقاً لأمة المصور طلب إليها أن تعيره الملاءة ليريها صاحباً له ويسرع إلى ردها. فأعطته الملاءة فلبسها ولقي المرأة على نحو ما كان يأتيها المصور. فلما رأته لم ترتب بشيء من شأنه فبذلت له حصة من المال ثم رجع العبد بالملاءة إلى الأمة فوضعتها في موضعها. وكان المصور عن بيته غائباً. فلما مضت هدأة من الليل رجع المصور إلى بيته ولبس الملاءة وأتى بها المرأة. فلما رأت الملاءة دنت منه فقالت: ما شأنك أسرعت راجعاً وقد أخذت المال في أول الليل. فلما سمع المصور كلامها خبت نفسه وانصرف نحو منزله، ثم دعا جاريته فتوعّدها بالضرب فأخبرته بالأمر على وجهه، فأحرق المصور الملاءة وندم على صنعه إياها.

وإنما ضربت لك هذا المثل أيها الملك لتعلم أن الشبهة كذب وأن الكذب يعيب صاحبه. ولست أنت حقيقاً بقتل البريء ذي الصحبة لوشي الوشاة وتحامل الخونة عليه. ولست أقول أيها الملك هذا كراهة للموت فإنه، وإن كان كريهاً، فلا منجى منه، وكل حي ميت. ولو كانت لي مائة نفس وأعلم أن رضا الملك في إتلافهن لطلبت له بهن نفساً. فإن ظننت أيها الملك أن لك بقتلي روحاً وفرجاً فإن العلماء قد قالوا: من اقترف خطيئة أو ذنباً فأسلم نفسه للقتل تكفيراً عن إئمه عفا الله عنه ونجا من الشرّ في الآخرة. فإني وإن كنت أعلم أن الله قد باعد الملك من الجور والاعتداء وإهلاك النفس البريئة بوشي الأشرار وتحميل الفجّار، فإني أحب أن لا يعجّل بأمر دون الفحص والترويه.

فبينما دمنة يقول معذرته إذ اعترض له أحد الحضور من بعض جلساء الملك فقال: أيها الملك إن دمنة ليس ما يقول تعظيماً لحق الملك ولا توفيراً لفضله، ولكنه يريد أن يدفع عن نفسه ما قد نزل به من سوء عمله.

قال دمنة: وهل، وليك، على امرئ في العذر لنفسه عيب؟ وهل أحد أقرب إلى الإنسان من نفسه؟ إذا لم يلتمس لها العذر فمن يلتمسه لها؟ وقد أحق بنصيحتي من نفسي، أو من أحق أن أنصح عنه منها؟ وقد قالت العلماء: إن المستهين لنفسه المبغض لها هو لغيرها أقطع وأبغض ولمن سواها أغش وأرفض. وقولك هذا مما يستدل به من حضر على قلة عقلك لما قلت ولجهالتك لما يدخل عليك فيه. ولقد ظهر منك ما لا تملكه من الحسد والبغضاء، وعرف من سمع قولك أنك لا تحب أحدا، وأنك عدو نفسك فمن سواها. فمثلك لا يصلح أن يكون إلا مع البهائم فضلاً من أن تحضر مجلس الملك أو تكون ببابه.

فلما سمع المقول له هذه المقالة من دمنة سكت فلم يحرْ جواباً وخرج مستحياً.

فقال أم الأسد لدمنة: إن من العجب انطلاقك بالقول مجيباً لمن تكلّم وقد كان منك ما كان.

قال دمنة: علام تنظرين بعين واحدة وتسمعين بأذن واحدة لشقاوة جدي؟ كذا كل شيء قد تنكّر وتغير. فليس ينطق أحد بحق ولا يقوم به ولا يتكلم إلا بالهوى. ومن بباب الملك لثقتهم به وطمأنينتهم إليه وتعطفه عليه لا يتّقون أن يتكلّموا بأهوائهم فيما رافق الحق أو خالفه وهو لا يغير عليهم ولا ينهاهم.

قالت أم الأسد: انظر إلى هذا الفاسق الفاجر الذي ركب الأمر العظيم كم يأخذ بأعين الناس ويبرّئ نفسه.

قال دمنة: إن الفاسق الفاجر من يذيع ولم يدفنه، والرجل الذي يلبس لباس المرأة والمرأة التي تلبس لباس الرجل، والضيف الذي يزعم أنه رب البيت، ومن ينطق في مجتمع عند الملك بما لا يسأل عنه.

قالت أم الأسد: يا شقي، أما تعلم من نفسك سوء عملك ومكرك وفجورك.

قال لها دمنة: الشقي الذي يرتكب المنكر ولا يريد لأحد خيراً ولا يدفع عن نفسه المكروه.

قالت أم الأسد: أيها الخائن الفاجر، إنك لتجترئ على مثل هذا القول. عجباً للملك أن يتركك حياً.

قال دمنة: إن الخائن الفاجر الذي يؤتى بالنصيحة ويمكّن من عدوه ثم لا يشكر ذلك ولا يعرفه لمن أتاه به، ولكن يريد قتله على غير ذنب.

قالت أم الأسد: لسمع موعظتك وضربك الأمثال لمن كلّمك أعجب عندي من الذي سلف من خلابتك ومكرك وحسدك.

قال دمنة: هذا موضع العظة إن قبلت وموضع الأمثال إن نفعت.

قالت أم الأسد: أيها الغادر الفاجر إن في سوء عملك لشاغلاً لو عقلت من ضرب الأمثال.

قال دمنة: إنما الغادر من أخاف من عمل في أمنه وعادى من كشف له عداوة أعدائه.

قالت أم الأسد: كأنك ترجو أيها الكاذب أن تنجو بتسطير المقال مما اجترمت.

قال دمنة: إن الكاذب من كافى بالإحسان إساءة بالخير شراً وبالأمن خوفاً. وأما أنا فقد أنجزت ما وعدت ووفيت العهد.

قالت أم الأسد: ما وعد الذي أنجزت وعهدك الذي وفيت؟

قال دمنة: سيدى يعلم أني لو كنت كاذباً لم أجترىء على الكلام عنده بالباطل وانتحال الكذب.

فلما رأت أم الأسد أن كلام دمنة لا يزيد الأسد إلا لينا ارتابت وداخلها الخوف شفقاً على أن يرى بعض ما يقول دمنة في براءته وعذره فقالت للأسد: إن الصمت على حجج الخصم لشبيه بالإقرار بحقيقة ما يقول. ومن هنالك قالت العلماء: أقرّ صامت. ثم قامت وهي غضبانة تريد الخروج.

فأمر الأسد بدمنة فجعلت الجامعة في عنقه وحبس وأمر بالفحص عنه.

فقالت أم الأسد له: إني لم أزل أسمع بمكر دمنة منذ زمان، ثم حقق عندي ما سمعت من إفكه وافتعاله المعاذير وكثرة مخارجه بغير صدق ولا براءة. فإنك إن أمكنته من الكلام دافعك عن نفسه بالحجج الكاذبة. وفي قتله لك ولجنودك راحة عظيمة، فاجل قتله. ولا تأخذك فيه هوادة ولا توقفك عنه شبهة؛ فإن الصغير والكبير من جندك عرفوا بنميمة دمنة وعلموا بفضائحه خاصة في أمر البريء الناصح وخير الوزراء شتربة. فقد استعاد الكذب وهو منه خلقٌ راسخٌ وطبيعة لازمة. والراحة لك ولجندك ترك المناظرة والقتل له بذنبه.

قال الأسد: إن من شأن بطانة الملوك وقرابتهم التنافس في المنازل بينهم ودخول البغي والحسد من بعضهم على بعض ولا سيما على ذي الرأي والنبالة منهم لخاصته. وقد علمت أن مكان دمنة قد ثقل على غير واحد من جنودي وأهلي، فلست أدري لعلّ الذي أرى وأسمع من جماعتهم وإجماعهم عليه لبعض ذلك. وأنا أكره العجلة في أمره. فإن العلق الصالح لا يستهلك إلا في حقه وموقع القدر فيه لمن استهلكه. ولا أجدني معذوراً باتباع نفسي والمعاجلة له دون الفحص والثبات. ولكن كوني بخير واسلمي فإني قد بدا لي من الرأي ما ينبغي.

فانصرفت أم الأسد بسكون جأشها وطيب نفسها وأخذ الأسد مضجعه.

ولما أدخل دمنة السجن وغلظ عليه الوثاق أخبر كليلة أن دمنة دق ردّ إلى السجن فداخلته له رقة وأدركته فيه رحمة لطول الصحبة والممالحة والإخاء الذي كان بينهما. فانطلق له مستصفياً حتى لقيه في السجن. فبكى كليلة لما نظر إليه وإلى ما هو فيه من الغم والضيق والبلاء، ثم قال له: إن ما أنت فيه لكافيك من عظتي، ولكن لا يمنع ذلك إنذارك والنصيحة لك. فإن لكل مقال موضعاً. ولو كنت قصّرت في عظتك حين احتجت إلى ذلك مني في حال العاقبة لكنت اليوم شريكك في الذنب، ولكن الإعجاب بنفسك دخل بك مدخلاً قهر رأيك وغلب على عقلك. وقد كنت أضرب لك مثلاً قول العلماء: "إن المحتال يموت قبل أجله"، وليس قولهم "يموت قبل أجله"، انقطاع الحياة، ولكنهم أرادوا دخول الأشياء التي تفسد الحياة كنحو ما أنت فيه مما الموت أروح منه.

قال دمنة: لم تزل منذ كنت تقول الحق بجهدك وقد كنت تعظني وتنصحني ولكنّ شدة النفس والحرص على طلب المنزلة فيّلا رأيي وسفّها نصحك عندي، كالمريض المولع بالطعام الذي عرف أنه يغلّط مرضه ويضرّ بجسمه فيدع معرفته وينقاد لشهوته. وقد عرفت أني زرعت لنفسي هذا البلاء، والزرع إنما ينبت لأوانه وزمانه وإن تقدم في زرعه. وهذا أوان حصاد ما زرعت لنفسي. وإنما يشتد عليّ البلاء لخوفي أن تتهم في أمري لما كان بيني وبينك، وأخاف مع ذلك إن بسطت عليك العقوبة أن تعترف بما كنت اطّلعت عليه من أمري. وأما الأخرى فإنك ممن لا يتهم في صدق مقالته على البعيد فكيف على من منزلته مثل منزلتي.

قال كليلة: عرفت، وقالت العلماء إن الأجساد لا تصبر على حلول العذاب ولا تمتنع عنده من القول بكل ما تستطيع أن تدفعه. وإني لأرى إذ نزلت بك هذه النازلة أن تبوء بذنبك وتعترف بإساءتك فتخرج نفسك من تبعة الآخرة بالتوبة مما صنعت، فإنك لا محالة هالك. فلا تجمع على نفسك هلاك العاجل والآجل. ولخير لك أن تعذّب في الدنيا بجرمك من أن تعذّب في جهنّم مع الإثم.

فقال دمنة: صدقت ونصحت وأنا مفكر فيما ذكرت. ولكن العمل فيه شاق مهول وعقاب الأسد شديد أليم.

فانصرف كليلة إلى منزله مغموماً تحدس نفسه بكل بلاء وشر. فلم يزل كذلك حتى هاج عليه بطنه فمات قبل أن يصبح. وكان في السجن فهد محبوس كان نائماً قريباً من دمنة وكليلة حتى اجتمعا في السجن، فاستيقظ بكلامهما فسمع كل ما دار بينهما من معاتبة كليلة لدمنة على سوء فعله وإقرار دمنة بإثمه فحفظ ذلك وكتمه فلم يذكره.

فأصبحت أم الأسد فذكرت للأسد أمر دمنة وعذره وقالت: إن استبقاء الفجار بمثابة قتل الأبرار، وإن من استبقى فاجراً شاركه في فجوره أو برّا شاركه في برّه.

فلما سمع الأسد كلام أمه أمر القاضي والنمر بتعجيل النظر في أمر دمنة والمسألة عنه في عامة الناس، وأن يرفعا إليه ما يلحق بدمنة من ذنب أو سبيل، وما ادعى دمنة من عذر ومخرج.

فخرج النمر والقاضي نظران في ذلك من أمره وبعثا إلى دمنة من يأتي به. فلما أتوا به توسط محفل مجلسهم فانتصب قائماً فهجر النر بصوته وقال: إنكم قد علمتم معشر الجند ما دخل على الملك من الحزن في قتل شتربة شفقاً من أن يكون أحد أنهى إليه باطلاً في أمره وشبّه عليه دمنة بالكذب في السعاية به. وقد نصبا للنظر في ذلك، وأنتم محقون ألا تكتموه سراً ولا تذّخروه نصحاً ولا تخفوا عليه جرماً. فليقل كل امرئ منكم بما يعلم وليتكلم به على رؤوس الجمع والأشهاد، فإنه لا يجب أن تفرط بده بعقوبة أحد لهوىً له أو لغيره من غير استحقاق المعاقب للعقوبة بجنايته.

قال القاضي: قد سمعتم الذي قيل لكم فلا ينبغي لأحد منكم كتمان شيء مما علم من خصال ثلاث: إحداهن الصدق فيما استشهدتم عليه وألا تجعلوا العظيم من الحق صغيراً. فأي عظيم أعظم من ستر ذنب من أورط الأخيار واستزلهم وأهلك بعضهم ببعض بسعايته كذباً وميناً. فالكاتم عليه ليس بريئاً من ضرّ جنايته ولا بعيداً من أن يكون شريكاً له في عمله. والثانية معاقبتنا المذنب مقمعة لأهل الريبة، مصلحة للملك والرعية. والثالثة أن الأشرار إذا نفوا من الأرض زاد ذلك الرعية تواصلاً والصالحين سروراً وأهل التناصح اغتباطاً. فليقل كل امرئ منكم ما علم لكيما يكون القضاء في ذلك على الحق لا على الهوى والظن.

فلما قصّ قائلهم قوله سكت من حضر فلم ينطق منهم أحد بكلمة لأنهم لم يعلموا من أمره علماً واضحاً يتكلمون به، وكرهوا القول بالظنون خوفاً من أن يدخل قولهم حكماً أن يوقع قتلاً. فلما رأى دمنة سكوتهم تكلم فقال: إني لو كنت مجرماً لسررت بسكوتكم عن القول في أمري إذ لم تعلموا لي جرماً لأن كل من لم يعلم له جرماً فلا سبيل عليه، فهو البريء المعذور. ولك قول عاقبة عاجلة أو آجلة. فمن عرّضني لعطب بغير علم أو قال في أمري بالشبهة والظن أصابه من عاقبة قوله ما أصاب المتطبب الذي انتجب علم ما لما علم له به.

قال القاضي: وكيف كان ذلك؟