باب البوم والغربان

قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف. قد ضربت لي مثل إخوان الصفا المتعاونين المتحابين، فاضرب لي، إن رأيت، مثل العدو الذي ينبغي أن لا يغترّ به وإن أظهر حسن الصفح تضرّعاً وملقاً في العلانية.

قال الفيلسوف: من اغترّ بالعدو الأريب المعروف بالعداوة أصابه من ذلك ما أصاب الغربان.

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

 

قال الفيلسوف: إنه كان بأرض في جبل من الجبال شجرة عظيمة كأعظم ما تكون من الدوح، ذات أغصان ملتفّة. وكان فيها وكرٌ لألف غراب عليهم ملك منهم. وكان في ذلك الجبل أيضاً مكان فيه ألف بومة عليهن أيضاً ملك منهن. فخرج الملك البوم ليلة لبعض أموره وفي نفسه عداوة لم تزل بين البوم والغربان. فأغار على الغربان بمن معه من البوم فقتل منهم كثيراً وجرح منهم كثيراً. فلما أصبح ملك الغربان جمع ذويه فقال لهم: قد رأيتم ما لقينا من البوم وكم أصبح فيكم من قتيل وجريح ومنتوف الرأس والجناح والذنب. وأشد من ذلك كله في نفس ضراوتهن ثم علمهن بمكانكم وجرأتهن عليكم مثل الذي ذقتم وهنّ غير غافلات عنكم فانظروا في أمركم في مهل.

وكان فيهم خمسة غربان معترف لهم بفضيلة الرأي، كان الغربان يسندون إليهم أمورهم ويفزعون إليهم فيما نزل بهم، وكان الملك يشاورهم في أموره ويأخذ برأيهم. فقال الملك لأحدهم: ما رأيك في هذا الأمر؟

قال الغراب: هذا رأي سبقتنا إليه العلماء فقالوا: ليس لعدوّ الحنق الذي لا يطاق له حيلة إلا الهرب منه. 

قال الملك للثاني: ما رأيك أنت في هذا الأمر؟ قال: أما ما أشار به هذا من الفرار فلا أراه م الصواب. فكيف نجلو عن بلادنا وعن أوطاننا ونذلّ لعدوّنا عند أول نكبة أصابتنا، ولكنا نجمع أمرنا ونستعدّ لمجاهدة عدونا ونذكي العيون فيما بيننا وبينه ونحترس من العودة والغرّة، فإن أقبل إلينا عدونا لقيناهم مستعدين لقتالهم فقاتلناهم مزاحفة حتى تلقى أطرافنا أطرافهم، ونتحرز منهم تحرّزاً حصيناً وندافع عدونا بالأناة مرة وبالجهاد أخرى حتى نصيب فرصتنا أو يعيينا ذلك فنهرب وقد مهّدنا لنا عذراً.

قال الملك للثالث: وأنت ما رأيك؟ قال: ما أرى ما قال، ولكني أريد أن تذكى العيون والطرائع بيننا وبين عدونا فنتجسس ونعلم هل يريد عدونا صلحاً أو يقبل منا ديةً. فإن رأينا من ذلك أمراً موافقاً لم أكره أن نصالحهم على خراج نؤديه إليهم، فندع عن أنفسنا بأسهم ونطمئن في وطننا. فإنّ من الرأي للمولك إذا اشتدت شوكة عدوهم وخافوا على أنفسهم الهلكة والفساد على بلادهم والدمار على رعيتهم أن يجعلوا الأموال جنةً للملوك والبلاد والرعية.

قال الملك للرابع: فما رأيك في هذا الصلح؟ قال: لا أراه رأياً بل ترك أوطاننا والاصطبار على الغربة وشدة المعيشة خير من وضع أحسابنا والخضوع للعدو الذي نحن أشرف منه وأكرم. مع أني قد عرفت أن لو قد عرضنا ذلك عليهم لم يرضوا فيه إلا بالشطط. وقد كان يقال: قارب عدوك بعض المقاربة تنل حاجتك، ولا تقارب كل المقاربة فيجترئ عليك عدوّك ويضعف جندك ويذلّ نفسك. ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس إذا أملتها قليلاً زاد ظلها وإن جاوزت الحد في إمالتها نقص الظل. وليس عدونا براض منا بالدون من المقاربة. فالرأي لنا المحاربة والصبر.

قال للخامس: ما ترى، ألقتال أو الصلح أو الجلاء؟ فقال: أما القتال فلا سبيل إلا قتال من ليس المرء بقرن له لأن من يعرف نفسه وعدوّه فقاتل من ليس هو قرناً له فنفسه أجهد مع أن العاقل لا يستضعف عدواً. ومن فعل ذلك اغتر، ومن اغتر لم يسلم وإنا للبو شديدو الهيبة، ولو أضربت عن قتالنا وكنت أهابها قبل إيقاعها بنا. فإن الحازم لا يأمن عدوه على كل حال. فإن كان بعيداً لم يأمن معاودته، وإن كان قريباً لم يأمن مواثبته، وإن كان كثيفاً لم يأمن استطراده وكربه، وإن كان وحيداً لم يأمن مكره. وأكيس الأقوام من لم يلتمس الأمر بالقتال إذا وجد غير القتال سبيلاً. فإن النفقة في القتال إنما هي من الأنفس. وسائر الأشياء إنما النفقة فيها من المال. فلا يكونن قتال البوم من رأيك. فإن من يرى القتل لا يرى كل الخير.

قال الملك: إذا كرهت القتال ماذا ترى؟ قال: تؤامر وتشاور. فإن الملك المؤامر المشاور يصيب في مؤامرته نصحاً من ذوي العقول فيظفر بما لا يصيبه بالجنود والزحف وكثرة العدد. والملك الحازم يزداد في المؤامرة والتشاور ورأي الوزراء والحزمة، كما يزداد البحر بالسواعد من الأنهار. ولا يخفى على الحازم قدر أمره وأمر عدوّه وفرصة قتاله ومواضع رأيه ومكايدته، ولا ينفك يعرض الأمور على نفسه أمراً أمراً يتروّى في التقدم على ما يريد منه الأعوان الذين يستعين بهم عليها والعدة التي يعدها لهم. فمنلم يكن له رأي كذلك ولا نصيحة من الوزراء العقلاء الذي يقبل منهم، لا يلبث، وإن ساقت إليه الأحوال حظاً، أن يضيع أمره. فإن الفضل المقسوم لم يقيّض للجهّال ولا للحسب، ولكنه وكّل بالعاقل المستمع من ذوي العقلاء.

وأنت أيها الملك كذلك وقد استشتني في أمور أريد أن أجيبك في بعضها سراً وفي بعضها علانية. فأما ما لا أكره أن أعلنه فكما أني لا أرى القتال كذلك لا أرى الخضوع بالخراج والرضا بدل القهر. فإن العاقل الكريم يختار الموت صابراً محافظاً على الحياة عرياناً ذليلاً. وأرى ألا يؤخر النظر في أمرنا ولا يكونن من شأنك التثبط والتهاون، فإن التثبط والتهاون رأس المعجزة. فأما ما أريد إسراره فليكن سراً. فإنه قد كان يقال "إنما يصيب الملوك الظفر بالحزم، والحزم بأصالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار أو الرسل المستمعين للكلام أو من قبل الناظرين في أثر الرأي أو مواقع العمل أو من التشبيه والتطنّز. ومن حصّن سره فله من تحصينه إياه أمران: إما ظفر بما يريد وإما أن يسلم من ضره وعيبه إن أخطأ".

ولا بد لصاحب السر من مستشار مأمون يفضي إليه بسره ويعاونه على الرأي. فإن المستشير وإن كان أفضل من المستشار رأياً فإنه يزداد برأيه رأياً كما تزداد النار بالودك ضوءاً. وعلى المستشار موافقة المستشير على صواب ما يرى والرفق في تبصيره خطأ إن أتى به وتقليب الرأي فيما يشكل حتى يتفق شأنهما. فإذا لم يكن المستشار كذلك فهو على المستشير مع عدوه، كالرجل الذي يرقي الشيطان ليرسله على الإنسان، فإذا لم يحكم الرقية أضحى هو أسيراً للشيطان. وإذا كان الملك محصّناً للأسرار متحيّزاً للوزراء مهيباً في أنفس العامة بعيداً من أن يعلم ما في نفسه لا يضيع عنده حسن بلا مثلى. وإن كان ذا حزم مقتدراً لم يقتّر فيما ينفق ولم يسرف، كان خليقاً أن لا يسلب صالح ما أوتي. وللأشرار منازل. فمن الشر ما يدخل في الرهط، ومنه ما يدخل فيه الرجلان، ومنه ما يستعان فيه بالقوم. ولا أرى لهذا السرّ في قدر منزلته ألا يشترك فيه أربع آذان ولسانان.

فنهض الملك وخلا به واستشاره فكان فيما سأل عنه أن قال: هل تعلم ما كان بدء عداوة ما بيننا وبين البوم، قال: نعم، كلمة تكلّم بها غراب.

 

قال الملك: وكيف كان ذلك؟