الغولة والشقيقان

مات فلاح تاركا لولديه الصغيرين عاصم وباسم منزلا متواضعا وقطعة أرض كانت مورد الرزق الوحيد لتلك العائلة الصغيرة.

 

وجدت الأم نفسها في وضع صعب لا تحسد عليه.. فقد مات زوجها فجأة ولم يكن لها ما يساعدها على العيش مع ولديها القاصرين، سوى هذه القطعة من الأرض التي تحتاج إلى من يفلحها ويزرعها.. شمرت عن ساعديها وقررت أن تعمل في حراثة الأرض لكي تكسب ما يقيها الجوع.. استمرت في عملها الشاق هذا سنوات حتى غدا ولديها في سن الشباب.

 

ذات يوم، وبعد أن عادت من الحقل، قالت لهما: الآن قد أصبحتما قادرين على العمل، فعليكما أن تقوما بحراثة الأرض حتى أتفرغ أنا لشؤون البيت.

أجاب الشقيقان بصوت واحد: نحن جاهزان للعمل يا أماه.

ضمتهما إلى صدرها بحنان وقالت: الآن إلى النوم، وغدا إلى العمل..

 

في الصباح الباكر، نهض الولدان وعلامات السرور والنشاط بادية على وجهيهما.. جهزت لهما كل حاجات العمل الزراعي.. من الفأس إلى المحراث، وإلى حمار الحراثة، وناولتهما زاد الغداء متمنية لهما التوفيق والنجاح.

 

وصل الولدان إلى الحقل عند شروق الشمس. تناول كل منهما فأسه وبدآ باقتلاع الأشواك. لم يتحملا وخزها.. نظر عاصم إلى أخيه الأصغر باسم وقال:

- إن هذا العمل قاس ومتعب، ولا قدرة لنا على القيام به.

- صدقت يا أخي.. فنحن لم نخلق لمثل هذه الأعمال الشاقة.

- هيا بنا نلعب يا باسم، وعندما تدركنا حرارة الشمس، نتفيأ ظل هذه السنديانة الوارفة.

 

راح الولدان يلعبان ويركضان تارة، ويركبان الحمار تارة أخرى، ثم يسترخيان تحت ظلال السنديانة.. وظلا على هذه الحال من اللهو والكسل، والأم المسكينة لا تعرف شيئا عن تصرفهما الطائش.. إلى أن حل موسم الحصاد، وظهرت الأمور على حقيقتها المرة القاسية.. كانت الصدمة عنيفة للأم الحنون الصابرة التي فجعت بفقد زوجها، وها هي الآن تواجه فاجعة أشد هولا وأكثر مرارة، تمثلت في خداع ولديها لها. فقامت بتوجيه اللوم والعتاب لهما، وهما صامتان صمت الأصنام لا يرف لهما جفن ولا ينطقان بكلمة.

 

قرر الولدان الهرب من المنزل. وعندما حل الليل خرجا خلسة وسارا يقودان الحمار، بينما الوالدة كانت تغط بنوم عميق..

 

وصل عاصم وباسم إلى غابة كثيفة الأشجار، وقد أضناهما التعب واستبد بهما النعاس فناما إلى جذع شجرة ضخمة وإلى جانبهما الحمار. استيقظا صباحا ولم يجدا الحمار.. راحا يبحثان عنه في الغابة.. فجأة وجدا نفسيهما أمام غولة مخيفة دب منظرها الرعب في قلبيهما..

قالت لهما: أهلا وسهلا بكما، لأنكما ستحلان في داري ضيفين مكرمين معززين.

 

عقد الرعب لسانيهما، فاستسلما لإرادة الغولة التي قادتهما إلى دارها، وقدمت لهما طعام العشاء الفاخر، أكلا وشبعا أخذتهما إلى غرفة النوم حيث استسلم باسم لرقاد طويل. بينما أخوه الأكبر عاصم غرق في تفكير عميق بحثا عن وسيلة تمكنه من الهرب من بيت هذه الغولة المخيفة.

 

في صباح اليوم التالي، قدّمت لهما الغولة طعام الفطور وهي جالسة بالقرب منهما. فقال لها عاصم: أرى يا عمتي أنك تحبين كثيرا هذا الحصان الأسود، أليس كذلك؟ قالت: فعلا إنه الجواد المفضل عندي. قال: إذا، إن كنت تحبينه فلا تطعميه سوى الفحم لأن في ذلك ما يبعد عنه كل الأمراض التي تفتك بالحيوانات.

 

صدّقت الغولة كلام عاصم، فراحت تطعم جوادها الأسود الفحم.. أما عاصم فأخذ يطعم الحصان قطع السكر، فأحبه الحصان وأصبح صديقه الحميم..

 

لاحظ عاصم أن الغولة تنام دائما عند مدخل دارها، فقال لها: يا عمتي، أنت لا تغمضين عينيك ليلاً ولا نهاراً، فكيف أعرف أنك نائمة، حتى لا أزعجك في أثناء نومك؟ فأجابته: عندما أنام، فإن الحيوانات التي أبتلعها في النهار تتحرك في بطني وتبدأ في الصياح.

 

أدرك عاصم أنه وجد الطريقة المناسبة للهرب.. وعندما سمع أصوات الحيوانات تنبعث من بطن الغولة، أيقظ أخاه، وذهبا خلسة إلى الاسطبل حيث كان الحصان الأسود ينتظر صديقه كل ليلة، فقفز إلى ظهره وخلفه أخوه، وانطلق بهما الجواد يسابق الريح بينما كانت الغولة نائمة تصيح الحيوانات في بطنها.

 

كانت الأم في قلق واضطراب منذ غادر ولداها عاصم وباسم المنزل وتركاها وحيدة. فكانت لا تعرف للنوم طعما، ولا لراحة البال سبيلاّ. صحيح أنها حزنت لأن الأرض لم تفلح، ولكن حزنها لغياب ولديها كان أكبر.

 

عندما دقا عليها الباب ليلا، فتحت لهما والفرح يملأ قلبها، فارتمى الولدان في حضنها يبكيان فرحا وخجلا. ومنذ ذلك الحين وهما يعملان في الحقل بجد ونشاط، ويجنيان ثمر أتعابهما خيرا وبركة.