باب البوم والغربان - مثل الناسك والفأرة المحولة جارية

قال البوميّ: زعموا أن ناسكاً عابداً كان مستجاب الدعوة. فبينما هو قاعد على شاطئ النهر إذ مرت به حدقة في رجلها درصة. فوقعت من رجلها عند الناسك فأدركته لها رحمة، فأخذه ولفها في ردنه وأراد أن يذهب بها إلى منزله، ثم خاف أن يشقّ على أهله تربيته فدعا ربه أن يحولها جارية فأعطيت حسنا وجمالا، فانطلق بها الناسك إلى بيته فقال لامرأته: هذه يتيمة فاصنعي بها صنيعك بولدك. ففعلت ذلك حتى إذا بلغت اثنتي عشرة سنة قال لها: يا بنية فقد أدركت ولا بد لك من زوج فاختاري من أحببت من إنسيّ أو جني أقرنك به. قال: أريد زوجاً قوياً شديداً. فقال لعلك تريدين الشمس. فقال للشمس: هذه جارية جميلة هي عندي بمنزلة الولد زوّجتكما لأنها طلبت زوجاً قوياً منيعا. 

قالت الشمس: أنا أدلك على من هو أقوى ني: السحاب الذي يغطي نوري ويغلب عليه. فانصرف الناسك إلى السحاب فقال له مثل تلك المقالة، فقال له السحاب: أنا أدلك على من هو أقوى مني وأشد: الريح التي تقبل بي وتدبر. فانصرف الناسك إلى الريح فقال لها مثل مقالته: فقالت الريح: أنا أدلك على من هو أقوى مني: الجبل الذي لا أستطيع له تحريكاً. فانصرف الناسك إلى الجبل فقال له مثل مقالته تلك، فقال الجبل: أنا أدلك على من هو أقوى مني: الجرذ الذي يثقبني فلا أستطيع الامتناع عنه. قال الناسك للجرذ هل أنت متزوج هذه الجارية؟ فقال له: كيف أتزوجها وأنا صغير ومسكين ضيق والجرذ يقترن بالفأرة. فطلبت الجارية إلى الناسك أن يدعو ربه ليحوّلها فأرة، فأجابها إلى ذلك ودعا ربه فتحولت فأرة ورجعت إلى أصلها الأول فتزوجها الجرذ. فهذا مثلك أيها المخادع.

فلم يلتفت ملك البوم ولا غيره إلى هذه المقالة، ورفقت البوم بالغراب فلم يردن إلا إكرامه، حتى استأنس بهن ونبت ريشه وسمن وصلح، وعلم ما أراد أن يعلم، واطلع على ما أراد أن يطلع عليه الغربان، فطار سراً وعاد إلى أصحابه فأخبرهم بما رأى وسمع، فقال لملك الغربان: أبشرك بفراغي مما أردت الفراغ منه وإنما بقي ما قبلكم فإن أنت جددتم وبالغتم في أمركم فهو الفراغ من ملك البوم وجنده.

فقال ملك الغربان: نحن عند أمرك فمرنا بما بدا لك.

قال الغراب: إن البوم بمكان كذا وكذا، وهن يجتمعن بالنهار في مكان كذا وكذا من الجبل، وقد علمت مكاناً فيه الحطب اليابس كثيراً فليحمل كل غراب منكم ما استطاع من ذلك الحطب إلى باب الثقب الذي فيه البوم بالنهار. وقرب ذلك الجبل قطيع غنم، فإني أمضي آخذ منه ناراً فآتي بها باب الثقب فأقذّفها في الحطب المجموع. ثم تعاونوا فلا تفتروا واضربوا بأجنحتكم ضرباً ترويحاً ونفخاً للنار حتى تضرم في الحطب، فما خرج من البوم احترق بالنار وما بقي مات بالدخان.

ففعلوا ذلك فأهلكوا البوم ثم رجعوا إلى أوطانهم آمنين سالمين. ثم إن ملك الغربان قال لذل الغراب: كيف صبرت على صحبة البوم ولا صبر للأخيار على صحبة الأشرار؟

قال الغراب: إن ذلك كذلك، ولكن العاقل إذا نابه الأمر العظيم المفظع الذي يخاف منه الجائحة الجائفة على نفسه وقومه لم يخرج من شدة الصبر عليه رجاء عاقبته، ولم يجد لذلك مساً ولم تكره العيشة مع من هو دونه حتى يبلغ حاجته وهو حامد لغبّ أمره، مغتبطٌ لما كان من أمر رأيه واصطباره.

قال الملك: أخبرني عن عقول البوم.

قال الغراب: لم أجد فيهن عاقلاً إلا الوزير الذي كان يحرص على قتلي ويحرضهن على ذلك مرارا. فكنّ أضعف شيء رأياً، إذ لم ينظرن في أمري ولم يذكرن أنني كنت ذا منزلة في الغربان أعد من ذوي الرأي. فلم يتخوّفن مني المكر والحيلة. فأخبرهن الحازم الناصح المطّلع على ما في نفسي برأيه، وأشار عليهن بالنصح لهنّ فرددن رأيه فلا هن عقلن ولا من ذي العقل قبلن، ولا حذرنني ولا حصّنّ أسرارهن دوني. وقد قالت العلماء: ينبغي للملك أن يحصّن دون المتهم أسراره وأموره فلا يدنو من مواضع أسراره وأموره وكتبه ولا من الماء والحوض الذي يعدّ لغسله ولا من فراشه ودثره ولا من كسوته ولا من مراكبه ولا من سلاحه ولا من طعامه وشرابه ولا من دوائه ولا من ذهبه وطيبه ورياحينه، ولا يؤمّن على نفسه إلا الثقة الأمين السالم الباطن والظاهر ويكون بعد ذلك كله على حذر منه، لأن عدوه لا يتوصل إليه إلا من جهة ثقاته. وربما كان الثقة صديقاً لعدوه فيصل العدو إلى مراده منه.

قال ملك الغربان: لم يهلك ملك البوم عندي إلا بغيه وضعف رأيه وموافقته لوزراء السوء.

قال الغراب: صدقت. فإنه كان يقال: قلّ ما ظفر أحد بغنى ولم يطغ. وقلما حرص الرجل على النساء فلم يفتضح. وقلّ من أكثر من الطعام ولم يسقم. وقلّ من ابتلي بوزراء السوء فلم يقع في المهالك. وكان يقال: لا يطمعنّ ذو الكبر في الثناء الحسن، ولا الخبّ في كثرة الصديق، ولا السيء الأدب في الشرف، ولا الشحيح في البرّ، ولا الحريص في قلة الذنوب، ولا الملك المختال المتهاون الضعيف الوزراء في ثبات ملكه.

قال ملك الغربان: لقد احتملت مشقة شديدة بتصنعك للبوم وتضرّعك لهن.

قال الغراب: لقد كان ذلك كذلك ولكن صبرت على ذلك لما رجوت من حسن منفعته، لأنه يقال: لا يكبر على الرجل حمل عدوّه على عاتقه إذا وثق بحسن عاقبته. وقد قيل: إنه من احتمل مشقة يرجو لها منفعة صبر على ذلك، كما صبر الأسود على حمل الضفدع على ظهره.

قال الملك: وكيف كان ذلك؟