باب الأسد والشعهر الصوام

قال الملك للفيلسوف: قد فهم مثل أهل الترات وحذر بعضهم بعضاً فاضرب لي إن رأيت مثل الملوك فيما بينهم وبين قرائبهم، وفي مراجعة من تراجع منهم بعد عقوبة أو جفوة تكون عن ذنب يذنبه أو ظلم يظلمه. 

قال الفيلسوف: إن الملك إذا لم يراجع من أصابته جفوة أو عقوبة عن جرم اجترمه أو ظلم ظلمه أضرّ ذلك بالأمور والأعمال. وكان الملك حقيقاً بالنظر في حال من ابتلي بشيء من ذلك ويبلو ما عنده من العناء والذي يرجو منه النفع. فإن كان ممن يستعان به ويوثق برأيه وأمانته كان الملك حقيقاً بالحرص على مراجعته. فإن الملك لا يستطاع إلا بالوزراء والأعوان. ولا ينتفع بالوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة. ولا تصلح النصيحة والمودة إلا مع إصابة الرأي والعفاف الكثير. ومن يحتاج إليهم من العمال والأعمال كثير. ومن يجمع منهم الذي ذكرت من النصيحة وإصابة الرأي قليل. وإنما التمسك بالوجه الذي به يستقيم العمل أن يكون الملك عالماً من يريد الاستعانة به وما عند كل رجل منهم من الغناء والرأي، وما فيه من العيوب. فإذا استقر ذلك عنده من علمه أو علم من يؤتمن به وعمل ما يستقيم به وجّه لكل عمل من قد عرف أنّ عنده من الأمانة والنجدة والرأي ما يستقل بذلك، وإن الذي فيه من العيب لا يضرّ بذلك العمل. ويتحفّظ من أن يوجه عيوبه وعاقبة ما يكره منه. ثم على الملك بعد ذلك ألا يترك تعاهد عمّاله والتفقد لهم ولأمورهم حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسيء. ثم عليهم بعد ذلك ألا يتركوا محسناً بغير جزاء ولا يقروا مسيئاً ولا عاجزاً على العجز والإساءة، فإنهم إن صنعوا ذلك تهاون المحسن وجترأ المسيء ففسد الأمر وضاع العمل. ومثل ذلك مثل الأسد والشعهر وهو ابن آوى.

قال الملك: وكيف كان ذلك؟

 

قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض كذا وكذا ابن آوى وكان متألّهاً متعففاً في بنات آوى وثعالب وذئاب. ولم يكن يصنع ما يصنعن ولا يغير كما يغرن ولا يريق دماً ولا يأكل لحماً. فخاصمته تلك السباع وقلن: لا نرضى بسيرتك ولا رأيك الذي أنت عليه من تألهك مع أن تألهك لا يغني شيئاً. وأنت لا تستطيع أن تكون أحدنا فتسعى معنا وتفعل فعلنا. فما الذي يمسك كفك عن الدماء واللحم؟

قال ابن آوى: إن صحبتي إياكم لا تؤثمني إذا لم أؤثم نفسي لأن الآثام ليست من قبل الأماكن والأصحاب، ولكنها من قبل القلوب والأعمال. ولو كان صاحب المكان الصالح يكون عمله فيه صالحاً وصاحب المكان السوء يكون عمله فيه سيئاً، إذاً كان من قتل الناسك في محرابه لم يأثم ومن استحياه في معركة القتال أثم. أترونني إن صحبتكم بنفسي لم يصحبكم مني قلب ولا عمل لأني أعرف ثمرة الأعمال.

فما عاش ابن آوى على حالته تلك وشهر النسك والنبالة في الرأي حتى بلغ ذلك الأسد، وكان ملك السباع بتلك الناحية. فرغب فيه للذي بلغه عنه من العفاف والصدق والأمانة. فأرسل إليه فكلّمه وفحصه ثم دعاه بعد أيام إلى صحبته، وقال: إن ملكي عظيم وأعمالي كثيرة وأنا إلى الأعوان محتاج، وقد بلغني عنك عقل وعفاف. ثم قدمت عليّ فازددت فيك رغبة، وأنا موليك من عملي جسيماً ورافع منزلتك إلى منزلة الأشراف وجاعل لك مني خاصة.

قال ابن آوى: إن الملوك أحقاء باختيار الاعوان لما يهتمون به من أعمالهم وأمورهم من غير أن يكرهوا على ذلك أحدا، لأن المكره لا يستطيع المبالغة في العمل. وأنا لعمل السلطان كاره وليست لي به تجربة ولا بالسلطان رفق. وأنت ملك السباع عندك من أجناس السباع عدد كثير، وفيهم أهل نبل وقوة وبهم على العمل حرص ولهم به رفق، فإن استعملتهم أغنوا عنك واغتبطوا لأنفسهم بما أصابوا من ذلك.

قال الأسد: دع عنك هذه المقالة، فإني غير معفيك من العمل.

قال ابن آوى: إنما يستطيع صحبة السلطان رجلان: أحدهما فاجر مصانع ينال حاجته ويسلم بمصانعته، والآخر رجل مهين مغفل لا يحسده أحد. فأما من أراد صحبة السلطان بالصحة والنصيحة والعفاف، ثم لا يخلط ذلك بمصانعة، فقلّ ما يسلم بصحته لأنه يجمع له عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد. فأما الصديق فينافسه في منزلته ويبغي عليه فيها ويعاديه لها. وأما عدوّ السلطان فيضطغن عليه بنصيحته لسلطانه وإغنائه عنه. فإذا اجتمع عليه هذا الصفان تعرّض للهلاك.

قال الملك: لا يكونن بغي أصحابي عليك وحسدهم إياك وعداوة أعدائي لك مما يعرض في قلبك، فإني كافيك وبالغ بك في الكرامة والإحسان بهمتك.

قال ابن آوى: إن كان الملك يريد بي الإحسان والكرامة فليتركني أعيش في هذه البرية آمناً راضياً بعيشتي من الماء والحشيش. وقد علمت أن صاحب السلطان يصل إليه في ساعة واحدة من الأذى والخوف ما لا يصل إلى غيره طول عمره. وإن قليل العيش في أمر وطمأنينة خير من كثيره في خوف ونصب.

قال الأسد: قد سمعت مقالتك فلا تخافنّ شيئاص مما أراك تتخوفه. فلا بد من الاستعانة بك.

قال ابن آوى: أما إذا أبى الملك أن يعفيني فليجعل لي عهداً إن بغى علي أحد من أصحابه ممن هو فوقي خوفاً على منزلته، أو ممن هو دوني فنازعني منزلتي وذاكر الملك بلسانه أو لسان غيره مما يريد به تحميل الملك عليّ ألاّ يعجّل عليّ ويتثبّت فيما يرفع إليه من ذلك، ويفحص عنه ثم يقضي الملك فيما بدا له. فإني إذا وثقت بذلك من الملك أعنته بنفسي وعملت له فيما ولأني بنصيحة واجتهاد وحرصت على أن لا أجعل على نفسي سبيلاً.

قال الأسد: إن ذلك لك علي. فولاّه خزائنه واختصّه دون أصحابه في المشاوة والرأي في المنزلة وازداد به على الأيام عجباً وزاده كرامة وعملاً. فثقل ذلك على من يطيف بالأسد من قرائبه وأصحابه وعمّاله وعادوه وحسدوه وائتمروا به ليهلكوه. فلما أجمعوا على ذلك لكيدهم دسّوا ذات يوم للحم كان الأسد استطرفه واستطابه فأمر برفعه في موضع طعامه ليعاد عليه فسرقوه ثم أرسلوا به إلى بيت ابن آوى فخبأوه مخبّأ لا يطّلع عليه أحد. فلما كان من الغد ودعا الأسد بغدائه التمس ذلك اللحم فلم يجده وابن آوى غائب والقوم الذي أرادوا المكر به والمكيدة حضور. فألحّ الأسد في طلب اللحم حتى غضب. فنظر بعضهم إلى بعض، فقال أحدهم قول المخبر الناصح: إنه لا بد لنا من أن نخبر الملك بعلمنا فيما يضره وينفعه وإن شقّ ذلك عليه. إنه بلغني أن ابن آوى كان ذهب بذلك اللحم إلى منزله.

قال آخر: أراه شبيهاً أن يكون فعل هذا، ولكن انظروا وافحصوا فإن معرفة الخلائق شديدة.

قال آخر: لعمري ما تكاد السرائر يطّلع عليها أحد ولعلكم إن فحصتم وجدتم ذلك وثبت عندنا كل شيء كان يذكر لنا من عيوبه وخيانته، ونحن أحقاء أن نخذله ونقضي بكل ما كان يقال عنه.

قال آخر: ما ينبغي لأحد أن يغترّ بما يعلم في نفسه من المختالة. فإن المختالة لا يسلم صاحبها ولا تخفى له.

قال آخر: وكيف يسلم من خاتل السلطان أو كيف يخفي ذلك، ومخاتلة الأصحاب لا تكاد تخفى؟

قال آخر: لقد أخبرني مخبرٌ عن ابن آوى بأمر عظيم مما وقع في نفسي حتى سمعت كلامكم.

قال آخر: لكني لم يخف عليّ أمره وخبّه أول ما رأيته وقد قلت مراراً واستشهدت فلاناً أن هذا المخادع المتخشّع لا يسلم من الحيلة والخيانة.

قال آخر: لئن وجد هذا حقاً ما هي الخيانة فقط بل مع الخيانة كفر النعمة والجرأة على الذنوب.

قال آخر: أنت أهل العدل والفضل ولا أستطيع أن أكذبكم، ولكن سيتبين صدق هذا وكذبه لو أرسل الملك إلى بيت ابن آوى ففتشه.

قال آخر: إن وجب تفتيش منزله فالعجل العجل. فإن عيونه وجواسيسه مبثوثة بكل مكان.

قال آخر: إني قد علمت بأن ابن آوى لو فتش منزله واطلع على خيانته سيحتال بحيلته ومكره حتى يشبه على الملك فيعذره ويكفّ عنه.

فلم يزالوا بهذا الكلام وأشباهه حتى أوقعوا ذلك في نفس الأسد بالأتهام لابن آوى فدعاه فقال له: ما صنعت باللحم الذي أمرتك بالاحتفاظ به؟

فقال: دفعته إلى صاحب الطعام فلان ليقرّبه إلى الملك.

فدعا الملك صاحب الطعام وكان ممن شايع القوم، فسأله الملك عن اللحم فقال: ما دفع إليّ شيئاً.

فأرسل الملك أمناءه ليفتشوا منزل ابن آوى فوجدوا فيه اللحم فأتوه به. فدنا من الأسد ذئب لم يتكلم في شيء من تلك الأمور، وكان يظهر أنه من أهل العد ل والذين لم يتكلموا إلا فيما استبان لهم أنه حق فقال للأسد: إذا اطلع الملك على خيانة ابن آوى فلا يعفونّ عنه، فإنه إن عفا عنه لم يعد أحد يطلع الملك على خيانة خائن أو ذنب مذنب.

فأمر الأسد بابن آوى أن يخرج من عنده ويحتفظ به حتى يرى رأيه فيه.

قال عند ذلك بعض جلساء الأسد: إني لأعجب من رأي الأسد ومعرفته بالأمور وكيف خفي عليه أمر هذا فلم يعرف خبثه ومخادعته.

قال آخر: بل أعجب من هذا أني لا أراه إلا بتنصّل عنه بعد الذي ظهر عليه منه.

ثم إن الأسد أرسل بعضهم إلى ابن آوى يسأله عن عذره فرجع إليه من ابن آوى برسالة كاذبة غضب منها الأسد فأمر بابن آوى أن يقتل.

فبلغ ذلك أم الأسد فعرفت أن الأسد قد عجّل في أمره فأرسلت إلى الذين أمروا بقتله أن يؤخروه ودخلت على ابنها فقالت: لأي ذنب أمرت بابن آوى أن يقتل؟ 

فأخبرها الأسد بالأمر.

قالت: "عجّلت يا بني وإنما يسلم العاقل من الندامة بترك العجلة وبالأخذ بالأناة. وليس أحد أحوج إلى التؤدة والتثبيت من الملوك. فإن المرأة بزوجها والولد بالوالدين والمتعلم بالمعلم والجند بالقائد والناسك بالدين والعامة بالملوك والملوك بالتقوى والتقوى بالعقل والعقل بالتثبيت. ورأس الحزم للملك معرف أصحابه وإنزاله إياهم منزلتهم واتهام ببعضهم ببعض. فإنه إن وجد بعضهم إلى هلاك صاحبه سبيلاً وإلى تهجين بلاء المبلين وإحسان المحسنين والتغطية على إساءة المسيئين لم يدعوا ذلك ويؤثر ذلك سريعاً في ضياع الأمر وانتشاره وجلب عظيم الضرر والعيب.

"وقد كنت بلوت ابن آوى واختبرت أدبه ومروءته قبل استعانتك به وتفويضك إليه، فلم تزل عنه راضياً ولا تزداد على مر الأيام إلا استصلاحاً وإليه استرسالاً وفيه رغبة. فأمرت بقتله في طابق من لحم فقدته. عسى أصحابه أن يكونوا قد ألزموه عندك ذنباً باطلاً لحسدهم وتعاونهم عليه.

"فاعلم أن الملوك إذا وكلوا إلى غيرهم ما ينبغي مباشرته من أمورهم والزموا أنفسهم مباشرة ما ينبغي لهم تفويضه إلى الكفاة ضاعت أمورهم ودعوا الفساد إلى أنفسهم. إن الملوك يحتاجون إلى النظر في وجوه شتى من الأمور، فإذا آثروا بعض تلك الوجوه على بعض لم يأمنوا خطأ البصر وزلل الرأي، كصاحب الخمر الذي إذا أراد أن يشتريها احتاج إلى اختيار لونها وريحها. فإن هو أهمل الاختيار أو بعض ذلك لم يأمن الغبن والخسران. وكاليراعة يراها الجاهل في ظلمة فيقضي عليها بالمعاينة قبل أن يلمسها أنها نار، فإذا لمسها تبين له خطأ قضائه. وكنت حقيقاً أن تنظر في أمر ابن آوى نظر تثبيت فتعلم أنه لم يكن يأكل اللحم الذي كنت ربما أمرت له بالكثير منه بل يجلعه في طعامك وطعام جندك، وأنه ليس خليقاً لسرقة قليل من اللحم أمرته بالاحتفاظ به. فافحص عن أمره فإنه لم تزل عادة الأرذال والأنذال حسد أهل المودة والفضل والأذى لهم والاشتغال بهم. ولابن آوى مروءة وفضل فعسى أعداؤه من أصحابك أن يكونوا ائتمروا لوضع ذلك اللحم إذا أصابت البضعة من اللحم نافسها كثير من الطير. والكلب إذا أصاب العظم وأخذه في فيه اجتمعت عليه عدة من الكلاب. فإذا لم تنظر إلى أعداء ابن آوى من أصحابك فانظر لنفسك ولا تنقادنّ لهم فيما تدعو به الضرر إلى نفسك. فإن أعظم الأشياء على الناس عامة والولاة خاصة أمران: أن يحرموا صالح الأعوان والوزراء والأخوان، وأن يكون وزراؤهم وأخوانهم غير ذوي مروءة ولا غناء. ولم يزل غناء ابن آوى عنك عظيما يؤثر منفعتك على هواه ويشتري راحتك بمصلحته ورضاك بسخط الأصحاب ولا يكتمك سراً ولا يطوي عنك أمراً ولا يرى شيئاً إلا احتمله منك أو بذله وإن عظم عظماً كبيراً. فمن كان من الأصحاب هذه صفته فإنما منزلته منزلة الآباء والأبناء والإخوان".

فبينما أم الأسد في كلامها إذ دخل على الملك بعض ثقاته فأطلع الأسد على براءة ابن آوى. فلما علمت أم الأسد أن الأسد قد وقف على براءة ابن آوى قالت: "أما وقد اطلعت على جرأة أصحابك وتعاونهم عليه فلا ترضينّ بذلك منهم ولا تدعنّ تشتيت ذات بينهم حتى تقطع منك الشفة عليهم. فلا يتخذوك مركباً فتعوّدهم الاحتمال على ضرك بوشهيم. ولا تغترّنّ بسلطانك فيدعوك ذلك إلى استصغارهم والتهاون بأمرهم. فإن الحشيش الضعيف إذا جمع فقتل صار منه الحبل القوي الذي يوثق به الفيل الشديد.

"وأعد لابن آوى منزلته وخاصته ولا يؤيسنّك من مناصته ما فرط إليه منك من الإساءة. فإنه ليس كل من أساء ينبغي له أن يتخوف غشّ من أسيء إليه وعداوته وييأس من نصيحته ومودته. ولكن ينبغي أن ينزل الناس في ذلك منازلهم على اختلاف ما بينهم. فإن منهم من إذا ظفر بقطيعته كان الرأي أن تقطع صلته ويمتنع عن معاودته، ومنه من لا ينبغي تركه وقطيعته على حال من الأحوال. ومن عرف بالشرارة ولؤم العهد وقلة الوفاء والشكر والبعد من الورع وقلة الاحتمال للأصحاب والإخوان وإن لم يكن عليه منهم مؤونة، فهذا حقيق أن تغتنم قطيعته ويمنع من وصله. ومن لم يكن فيه شيء من هذه الخلال وبذل الإخوانم معروفة واحتمل مكروهاً إن كان منهم ومؤونتهم وإن ثقلت، وعرف فضله على غيره في الورع والمساعدة على الدهر في جميع الأمور والحالات، فهذا حقيق أن يغتنم وصله ويمتنع من قطيعته".

فدعا الأسد بابن آوى واعتذر إليه مما كان منه وأخبره أنه معيده إلى منزلته وولايته. فقال ابن آوى: "إن شرّ الأخلاء من التمس منفعة نفسه بضر أخيه ومن كان غير ناظر له كنظره لنفسه أو كان يريد أن يرضيه بغير الحق واتباع هواه. وكثيراً ما يقع ذلك بين الأخلاء وقد كان من الملك إليّ ما علم فلا يغلظنّ على نفسه ما أخبره به أني به غير واثق. فإن من كان قد أصيب بعظيم من البلاء غير مستوجب له أو كان قد أزيل عن مرتبته وولايته أو كان قد سلب ماله ظلماً أو كان مقرّباً فأقصي من غير علة أو كان قد استحق من نظرائه ثواباً فأثيبوا دونه وفضّلوا عليه، أو كان معروفاً بإفراط الحرص والشره أو كان يرى في منفعة السلطان ضراً أو في ضره له نفعا، كل هؤلاء يحق على السلطان ألا يسترسل إليه ويثق بهم، لأن كل هؤلاء حقيق أن يكونوا عليه مع عدوه. وقد صرت اليوم في بادئ الرأي عرضاً لأعداء الملك وليس ما أنا عليه للملك من المودة والنصيحة بمناع الملك اتهامي وسوء الظن بي. وليس ما ظهر له من مودتي ونصيحتي يؤمّنني من عودة أعدائي بحمل الملك عليّ بالباطل والكذب إشفاقاً من مكافأتي لهم وحرصاً عليّ ألا يتقرر عند الملك كذبهم فيما حملوا به علي. فإن فعلوا ذلك لم يحتاجوا في قبول الملك ذلك منهم إلى عون أقوى من هذه التهمة التي قد وقعت في نفس الملك من تخوّفه لصحبتي وسوء ظنه بي وسرعته إلى تصديق أعدائي فيما نسبوه إلي. فإذا كان حال الملك بالثقة بي وحالي في الثقة به على ما وصف فلينظر أي وجه يريدني عليه من صحبته. فإن الملوك لا ينبغي لهم أن يصحبوا من عاقبوه أشدّ العقاب".

قال الأسد: إني قد بلوت طبائعك وأخلاقك، فمنزلتك في نفسي منزلة الكرماء الأخيار. والكريم تنسيه الخلة الواحدة من الإحسان ألف خلّة من الإساءة، واللئيم تنسيه خلة واحدة من الإساءة ألف خلة من الإحسان. فأنا واثق بك أنه سينسيك ما سلف من إحساننا إليك الذي فرط منا في أمرك وقد عدنا إلى الثقة بك فعد إلى الثقة بنا وبما قبلنا فإنه لك في ذل غبطة وسرور.

فعاد ابن آوى إلى ولاية ما كان يليه من أمر الأسد فلم تزل الأيام تزيده ارتفاعاً واغتباطاً حتى هلك.

فهذا باب وزراء السلطان وأعوانه وقرائبه.