الجزء الأول

 

أما بعد حمدا لله والصلاة والسلام على رسله وأنبيائه وبعد فهذه سيرة الاسد الكرار والبطل المغوار الذي شاع ذكره في الاقطار وأذل بسيفه كل صنديد وجبار المهلهل بن ربيعه صاحب الاشعار البديعة والوقائع المهولة المريعة وماجري له في تلك الايام مع ملوك ال الصدام من الحوادث والوقائع التي تطرب القارئ وتلذ السامع ولكن قبل الشروع في هذه السيرة الغريبة وأخبارها المطربه الغريبة رأينا أن نذكر طرفا من أخبار العرب أهل الفضل والادب أفاده للطالعين ونزهة للسامعين فنقول والله المستعان:

 

 أن أصل العرب من قديم الزمان وسالف العصر والاوان من اليمن قوم قحطان سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام ويلقب بأبو العرب وهو أول من تتوج من العرب واول من اعتدل لسانه ليتكلم العربية كان أعظم ملوك العرب وقيل انه اسلم قبل ان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقد اسلم و كان يتمنى بشعره المشهور انه يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ويناصره ويؤازره وقد امر قومه بأن يسلموا عليه ويؤازروه عندما يظهر ، وولد له عشرة من الذكور ستة منهم استقروا باليمن ومنهم كانوا التابعة العظام ومن شاع ذكرهم بالأقطار وقهروا كل جبار عنيد وأربعة  منهم هاجروا إلى الشام ليصبحوا ملوكها ويلقبون بجبابرة الشام ومن هؤلاء العشرة انتشرت العرب بما يسمون بالعرب العاربة و سادت وحكم ارض الجزيرة العربية والشام قرونا طويله وكانوا اكثرها شعوبا و اكثرها تفرعا و سيطروا على طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب.

 

 اما العدنانيين فهم ينتسبون إلى عدنان بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وولد نزار بن معد بن عدنان وكان قد ولد لنزار المذكور أربعة أولاد ذكور وهم : مضر أنمار وأبار وربيعه وفارس الطرار من نسل ربيعه ومضر وأنمار عرف الحجاز ونجد والعراق وسكان القفار وكانت العرب في تلك الزمان منقسمه إلى قسمين وهما قيس ويمن فكان اليمن هم اليمنيون وينتسبون إلى قحطان وباقي العربان القيسيون ومازالت العرب تنمو وتكثر وتمتد في البر الاقفر حتى اشتهرت العشائر والقبائل وظهر الامير ربيعه وأخوه مرة وأبناء وائل و ربيعه المذكور هو أبو الزير الفارس المشهور صاحب هذه السيرة `الشهيرة .

 

(قال الراوي) وكان ربيعه في ذلك الزمان من ملوك العربان وأخوه عروة من الامراء والاعيان وكانت منازلهم في تلك الايام في أطراف بلاد الشام وكانا يحكمان على قبيلتين من العرب وهما بكر وتغلب وولد لربيعة خمسة أولاد مثل الاقمار وهم كليب الاسد الكرار وسالم البطل الشهير الملقب بالزير وعدي ودرعان وغيرهم من الشجعان وكان له بنت جميله الطباع شديدة الباع تعارك الاسود والسباع أسمها اسماء وتلقب بضباع وأما الامير مرة له عدة أولاد أبطال أمجاد وقد اشتهروا بالشجاعة وقوة البأس منهم همام وسلطان وجساس وله بنت جميلة فاضله نبيله يقال لها الجليلة فاتفق في بعض الايام أن الاميرة مرة دخل على أخيه ربيعه في الخيام وخطب أبنته ضباع لابنه همام وخاطبه بهذا الشعر والنظام.

 

 

يقول أمير مرة في قصيدة معانيه حكت درر الجواهر

ربيعة يا أخي اسمع كلامي أيا قهار فرسان الجبابر

أريد بنتك ربيعه إلى همام يا فخر الاكابر

ولما ينتشي ابنك كليبا ويركب يا أخي الخيل الضوامر

وتكبر يأملك بتي الجليلة مر فخذها له زوج لا تشاور

وهذا يا أخي أقصى مرادي أيا صدام آساد الكواسر

تبدي له ربيعه ثم قال له كلامك يا أخي مثل العنابر

تريد ضباع خذها يا  مسمى وزوجها لابنك لا تشاور

ومعها مائة خادم يخدمونها ومائة جاريه غير السرائر

ومعها مائة حر كالعرائس ومائة قعود مع ميتين جوائر

ومعها محمل الفاخر وأطلس زياد ومسك فايح ودم عاطر

وهمام ابن مرة مثل ابني لغيرك ما أناسب أو أصاهر

هلم انهض وزوجها بسرعه وأفرح فيه وأعمل عرس فاخر.

 

 

 فلما فرغ ربيعه من كلامه وشعره ونظامه أعتنقه أخوه وشكره على حسن اهتمامه ثم باشر القوم بأمر العروس من ذلك اليوم وعقدوا عقد الامير همام على ضباع بنت الكرام كما جرت العادة فأولموا الولائم وذبحوا الذبائح وأطعموا كل آت ورائح ومازالوا في سرور وأفراح وبسط وانشراح ودق طبول ولعب خيول وشرب مدام مدة عشرة أيام ثم زفوا ضباع على الامير همام فكانت ليلة عظيمة ودخل همام على ضباع وحظي بحسنها وجمالها ونالت منه غاية آمالها لأنها كانت تحبه محبة شديدة وتوده مودة أكيده وسوف يظهر لهما ولدان وهما شيبون وشيبان وسيأتي حديثهما بعد الان . هذا ما كان من خبر بني قيس المدعوين بالقيسية ولنتكلم الان عن حديث اليمنية وما جرى لهم في تلك الايام من الامور والاحكام والحروب والاهوال في ميادين القتال فنقول وعلى الله الاتكال.

 

أنه كان في قديم الزمان في بلاد اليمن ملك شديد البأس عظيم الشأن صاحب جند وأعوان وأبطال وفرسان يقال له الملك حسان ويكنى بالتبع اليماني ولم يكن له بين الملوك ثاني وهو من نسل قحطان كان شديد الأس قوي المراس كويل القامه عريض الهامه ولا يعرف الحلال من الحرام ولا يحفظ العهد والزمان وكان يحب النساء الملاح والمزاح منهن في المساء والصباح ومن أعماله الغريبة واصطلاحاته العجيبة كما ذكر أصحاب الروايات أنه كل ليله يتزوج بصبيه من بنات الملوك والسادات و كانت تحيط به الاسود عن يمينه وشماله وكانت الملوك تخافه وتخشاه وتحسب حسابه وتترضاه وتحمل له الخراج وتعلل له الخاطر والمزاج وكان عنده من الابطال والفرسان ألف ألف عنان ( وقيل اذا غضب غضب ألف ألف-مليون- سيف يماني ) معه وهم عشرة كرات مستعدين للحرب والغارات وكان له وزير عاقل خبير قوي الجنان اسمه نبهان قد امتاز على الاقران بفعل الخير والاحسان وكان كثيرا ما ينهى الملك حسان عن ارتكاب الظلم والعدوان فاتفق في بعض الاعوام وفي يوم من الايام أن ألتقى تبع مع نبهان وقال له في الديوان بحضور الامراء والاعيان هل سمعت أيها الوزير والعاقل الخبير عن ملك كبير عنده رجال كرجالي أو أموال كعدد أموالي فقبل الوزير الارض ووقف في مقام العرض وقال أعطني الامان يا ملك الزمان وانا أحدثك بأخبار ملوك الامم أصحاب البطش والهمم وما عندهم من الجيوش والعساكر والمهمات والذخائر فقال قل وعليك الامان من نوائب الزمان:

 

فقال أعلم أيها الملك المعظم أنه لا يوجد مثلك في هذه الاقطار من الملوك الكبار أصحاب الدين والامطار ولكن يوجد خارج البحار عرب من أهل الشجاعة والاقتدار عددهم كثير وجيشهم غفير يقال لهم بنو فيس وسيدهم اسمه ربيعه ولهم في الحرب والغارات وقائع مهولة مريعه ،فلما انتهى الوزير من الكلام وسمعه من حضر في ذلك المقام أغتاظ الملك اليماني وتأثر وكان عليه أشد من ضرب السيف الابتر فصاح على الوزير وزعق وقال له بكلام الحنق هكذا يا تيس تفضل علي بني قيس مادام الامر كذلك لابد أن أقدهم بفرسان المعارك وأقتل ملكهم ربيعة وأوردهم وأورد المهالك وأخرب بلادهم وديارهم وأمحو بالسيف آثارهم وأتملك الديار بالقوة والاقتدار ثم أنشد هذه الأبيات على مسامع الامراء والسادات.

 

يقول النبي اليمني المســمى بحنان فما للقول زورا ملكت الأرض غصبا واقتدارا وصرت على ملوك الأرض سورا وطاعتني الممـالك والقبـائـل وفرسان المعامع والنمور لقد أخبرت عن بطـــل عنـيد شديد البأس جبارا جسورا وقـــالوا انـه يدعـى ربــيعـه أمير قد حوى مدنا ودورا تولى الأرض في طول وعرض فكم خرب وكم شيد قصورا فقصدي اليوم أغزوه بجيشي وأترك ارضه قفرا وبورا أيا نبهان أجمع لي العـساكر فيأتوا فوق خيل كالنمورا وجهز الف مركب يا وزيري واوسقهن في وسط البحورا ثلاث شهور أسرع لا تطول يكون كل ما قلته حضورا أسير بهم إلى تلك الأراضي وأملك القلاع والقصورا ويغنم عسكري منهم مكاسب وأزوجهم بنات كما البدورا ويبقى لي الحكم برا وبـحرا ويصفي خاطري بعد الكدورا.

 

( قال الراوي ) فلما انتهى السبع من شعره ونظامه وفهم الوزير ما حوى حديثه وكلامه ندم وتكدر الذي أعلمه بهذا الخبر ولم يعد يمكنه الا الامتثال وتجهيز الفرسان والابطال الي الحرب والقتال فنزل من الديوان وهو مقهور غضبان وأمر بدق الطبل والنحاس لاجتماع العساكر وباقي الناس وكان هذا الطبل يقال له الرجوج وهو من أعظم الطبول وكانت تدقه عشرة من العبيد الفحول وهو من صنعه ملوك التبايعة العظام وكانت الناس تسمع صوته عن مسافة ثلاث أيام وكان الملك حسان اذا غزا قبيلة من العربان يأخذ ذلك الطبل معه وأين ما ذهب يتبعه ولم يزل هذا الطبل في ذلك الزمان يتصل من ملك إلى ملك حتى أتصل إلى الامير حسان سيد بني هلال المشهور بالإحسان والافضال فلما دقت العبيد الطبل وسمعت صوته قواد الفرسان اقبلت على الوزير من كل جهة ومكان فساموا عليه وتمثلوا بين يد يه وسألوه عن سبب دق الطبل الر جوع فحدثهم بذ لك الأيراد والمسير إلى تلك البلاد للغزو والجهاد .

 

ثم بعد ذ لك فرق عليهم السلاح وآلات الحرب والكفاح ولما تكن المدة قصيرة حتى تجهزه المراكب وتجمعت العساكر من كل جانب وكان من جملتهم عشرة من الملوك كبار كل ملك يحكم على ألف ألف بطل مغوار وحضروا إلى أمام الملك تبع حسان وسلموا عليه وقبلوا الأرض بين يديه وقالوا له نحن بين يديك ولا نبخل بأرواحنا عليك فشكرهم وخلع عليهم الخلع الفاخر والتحف الباهرة ووعدهم بالمال الجزيل وبكل خير جميل ثم أمر الوزير بالاستعداد والرحيل على غزوة بني قيس وتلك البلاد وطلب منها أن يأتي بالعساكر من تحت القصر وهي نازلة الي البحر ليشاهد احوالها ويرى سلاحها واثقلها فيمتثل الوزير لما أمر وفعل كما ذكر فانشرح صدر الملك عند رؤية العساكر والجحافل وهي في السلاح الكامل والاستعداد للحرب والقتال فأنشد وقال يقول التبع الملك اليماني:

 

صفا عيشي وقد طاب فؤادي أتتني عساكر كالأسد

تسري ألوف راكبين على جياد عليهم كل درع من حديد له زرد

كما عين الجراد وبهم كل جبار عنيد يقال ألف ليث في الطرد

برؤيتهم فقد زاد انشراحي وزال الهم عني بابتعادي

أسير بهم لذاك البر حالا وأقتل كل من يطلب عنادي

وأرجع غانما في طيب عيش ولا يبقى لتبع من يعادي

ألا يا عسكر قروا وطيبوا على نيل المقاصد والمرادي

ومني أبشروا فيما تريدون مهما تطلبوه بازديــــاد.

 

 

 

فلما فرغ من شعره ونظامه صرخت الامراء وأكابر القواد والجيوش والعساكر والاجناد ودعوا للملك بالنصر وطول العمر وقد استبشروا في غزوة تلك البلاد وايقنوا بالنجاح وبلوغ المراد ثم نزلت العساكر والاجناد في المراكب مع الامراء والقواد، وكان الملك حسان قبل خروجه من الاوطان فقد سلم زمام ملك اليمن الي الصحصاح بن حسان وهو ملك كبير وفارس شهير كان يميل اليه ويعتمد عليه فأوصاه أن يجمع له المال في كل عام ويرسله الي بلاد الشام ثم نزل مع الوزير في مركب كبير وأقلعوا من الأوطان وقصدوا بلاد الجبشة والسودان . وعند وصولهم الي ذلك الجانب القوا المراسي ونزلوا الي البر بالقوارب ونصبوا الخيام والمضارب وفي الحال ارسل الملك تبع وزيرا اسمه زيد بن عقبه بألف فارس منتخبه ليعلم ابن أخته الرعيني بقدومه الي تلك الأقطار لأنه كان ملك هاتيك الديار ويأمره بسرعة الحضور وتقديم الذخر الي الجيش والعسكر فلما علم الرعيني بذلك الخبر بادر في الحال بالفرسان والابطال والمهمات الثقال الي أن التقى به في الصيوان ومن حوله الوزراء والاعيان فدخل وسلم عليه وقبله بين عينيه وقدم له الذخائر والمهمات لتلك الجهات فأعلمه بواقعة الحال وأنه قاصد غزو بني قيس وتلك الاطلال ثم باتوا تلك الليلة في الخيام .

 

وفي الصباح أمر الملك العشرة ملوك العظام ان يتأهبوا للرحيل الي بلاد الشام وان ينقسموا الي قسمين ويتفرقوا الي فريقين فخمسة تسير من اليمين وخمسة تسير من على الشمال وأوصاهم أنهم كل ما أقبلوا الي مدينة يملكوها في الحال ويقيمون فيها نائبا من سادات الرجال فأجابوا أمره بالخضوع والامتثال فعند ذلك دقت الطبول والزمور وركبت الفرسان ظهور الخيول وارتفع الصياح ولمع السلاح وترتبت الكتائب وسارت المواكب في تلك البراري والسباسب وكانوا كلما وصلوا الي مدينه او بلد امتلكوها بحد السيف المهند حتى ملكوا البلاد وطاعتهم العباد ومازال تبع يتقدم حتى أقبل الي مدينة الشام فأحاط بها من جميع الجوانب بالمواكب والكتائب وكان نائب الملك ربيعه في الشام يدعى يزيد بن علام وكان ربيعة واخوه مرة في وادي الانعمين وهو مكان بعيد عن المدينة مسافة يومين.

 

 فأرسل الملك تبع الي نائب الامير ربيعة أحد الوزراء العمد يطلب منه الخضوع لأمره وتسليمه . فلما وصل اليه ودخل عليه وأعلمه بالخبر وما قال تبع وأمره فأجاب بالسمع والطاعة ونهض مسرعا في تلك الساعة وأخذ معه الاموال والذخائر وخرج في جماعة من الاكابر حتى التقى بتبع في الخيام فحياه بالسلام فترحب به غاية الترحيب وأمر له بالجلوس فجلس بمكان قريب منه فقال تبع هل أنت حاكم الشام قال نعم أيها الملك الهمام فساله عن حكم ربيعه فقال له ظالم على قومه وكل الرعايا تشكوا من ظلمه وتتمنى له الاذى والضرر والموت الاحمر والحمد لله رب البريه الذي أعاننا بك حتى نتخلص من نير العبودية فسنخدمك خدمة مرضيه ونصير لك من جملة الرعية وما قوله ذلك لتبع الا من الخوف والفزع فتبسم تبع من هذا الكلام وقال ابشر ببلوغ المرام فانك ستكون نائبي في بلاد الشام وتحمل لي الخراج في كل عام فقال سمعا وطاعه يا ملك الزمان وجوهرة هذا الاوان ثم عرض عليه الذخائر وما جاء به من نفيس الجواهر فانشرح صدر تبع وخلع عليه وقال له أذهب الان إلى وجوه اهل المدينة وباشر في الضيافات والزينة فأننا سنحضر إلى عندك بعد ثلاثة ايام ونتفرج على الشام ونرجع إلى المضارب والخيام فقال اهلا وسهلا الارض ارضك والبلاد بلادك ثم ودع الملك وسار بمن معه من الاكابر والتجار وأخذ يسعى في امر الوليمة وقد خامرت معه اهل الشام خوفا من السبي والهزيمة.

 

هذا ما جرى لهؤلاء من الاخبار وأما ما كان من ربيعة وبني قيس الاخيار فانهم لما سمعوا بقدوم الملك تبع إلى الديار وافتتاحه المدن والامصار اخذهم القلق والافتكار وكان قد بلغ ربيعه قول زيد إلى تبع حسان وكيف انه نسبة إلى الظلم والعدوان مع انه كان من أعدل ملوك الزمان اخذه الغضب والقلق وزاد به الحنق فجمع اكابر قومه واخيه مرة ومن يعتمد عليهم من أهل الشجاعة والقدرة وجعل يخاطب الامراء والسادات بهذه الابيات:

 

غنا ربيعه شعرا من ضمايره ودمع العيون على الوجنات طوفان

يا قومنا اسمعوا وامتثلوا قولي انتم بنو قيس ابطال وشجعان

كنا بخير والسعد يخدمنا نقري الضيوف ونكسي كل عريان

والجوخ والخز السمور يأتي لنا من ساير الارض والملبوس ألوان

جاءنا من البحر ذا التبع يحاربنا صعب المراس شديد البطش سلطان

معه رجال عوابس ألف ألف بطل من كل ضرغام قلبه مثل صوان

حاز البلاد وما أمير خالفه الكل طاعته القاصي مع الدان

أتى الينا وما حسب حساب لنا منا ومن غيرنا هو ليس فزعان

معاه عسكر كثير ما له عدد ابطال حرب وفرسان شجعان

انا بقيت كبير السن يا عربي مالي جلد في اللقا وسط ميدان

مرة أخرى بهذا الرأي ساعدني همام يا أبن أخي ماكنت كسلان

ما يترك الكأس من يديه ولا ساعة الا بوقت اللقا أو بعض أحيان

كيف العمل ننهزم أو نقابله شوروا للصواب أخوتي وخلان

 

 

فلما فرغ ربيعه من شعره قالت السادات والفرسان عن فرد لسان أن هذا الامر لا يطاق وعلقم مر المذاق وليس لنا غير الهزيمة فهي أوفر غنيمه والا حكم سيفه ولاشانا عن بكرة أبينا وبعد مداولة طويلة وجلسه مستطيله استقر رأي الجمهور على أن يذهبوا إلى عند تبع المذكور فيسلموا عليه ويقبلوا يديه ويطلبون لأنفسهم الامان ويقدموا له التحف الحسان لعلهم يتخلصون بهذه الوسيلة من تلك الورطة الوبيلة هذا ما كان من أمر بني قيس وأما الملك تبع فانع في اليوم الثالث ركب في وجوه قومه وتوجه إلى مدينة الشام لأجل الزيارة كما تقدم الكلام.

 

فلما بلغ الغايه ووصل السراية التقاه زيد بالتعظيم والاكرام واجلسه في أعز مقام وصنع له وليمه عظيمه ذات قدر وقيمه فأحسن اليه وخلع عليه وفرق التحف الثمينة على اكابر اهل المدينة ثم رتب الخراج في كل عام وبعد ذلك رجع إلى المضارب والخيام وهو مسرور الفؤاد على المرام وأما بنو قيس فانهم جمعوا التحف الحسان والاموال التي يكل عن وصفها اللسان من عقود وجواهر ومهمات وذخائر وقماش فاخر وحملوها على مائة جمل وركب ربيعه مع أخيه مرة في مائة بطل وسار معهما جماعه من الامراء والقواد الذين عليهم الاعتماد وجدا في قطع البراري والقفار حتى وصلوا إلى تلك الديار وعند وصولهم إلى المضارب نزلوا عن ظهور الجنائب واجتمعوا بخازندار الملك تبع وكان اسمه ثعلبه حسان ويعلمه ابن الابشع فقدموا له التحف الحسان ليقدمها إلى الملك تبع حسان ويعلمه بقدومهم إلى الديار فقدمها الخزندار وليعلم بمجيء القوم في مثل ذلك اليوم مرادهم الدخول عليه ليتشرفوا بتقبيل يديه ورجليه ويحصلوا على أمانة ويكونوا من جملة خدامه وأعوانه فتبسم تبع والتفت إلى وزيره نبهان وقال له اين ملوك قيس العظام الذين كنت قلت عنهم ما هو كذا وكذا من كلام واني لا أصلح ان اكون من جملة خدامهم وهم قد حضروا الان لتقبيل أقدامي ليكونوا من جملة أعواني وخدامي فقال الوزير وقاك الله من كل شر وضير وجعل عاقبة هذا الامر إلى خير.

 

 فبينما هم في الحديث والكلام أذا دخل على الملك أمراء بنو قيس الكرام فقبلوا الارض بين يديه ووقعوا على رجليه فأخذ تبع ينظر إليهم ويتأمل فيهم فحانت منه التفاته فنظر الامير ربيعه واقف في باب الصيوان وهو مثل الاسد الغضبان وكان الامير ربيعه لم يدخل مع قومه على الملك حسان لان نفسه ما كانت تطاوعه على الذل والهوان فالتفت الملك تبع إلى الترجمان وقال من يكون هذا الانسان فأني أراه معجب بنفسه غاية الاعجاب ولا حاسب لي أدنى حساب فسأل الترجمان عنه فقالوا العشمشم سيد بني قيس الامير ربيعه المعظم.

 

فلما سمع تبع هذا الخبر شخر ونخر وتبدل بكدر واحمرت عيناه حتى صار مثل الجمر ثم ناداه فحضر وقد تعجب من عظم هيبته وبياض لحيته فسلم ربيعه عليه ووقف بين يديه فقال تبع أأنت سيد بني قيس الكرام فقال نعم أيها البطل الهمام وقال ولماذا أسأت الادب واحتقرتني دون باقي أمراء العرب الذين تمثلوا أمامي وقبلوا يدي وأقدامي فتقدم الان وقبل رجلي يا مهان وإلا قتلتك بحد الحسام وجعلتك عبرة بين الانام. فقال ربيعه وقد استعظم ذلك الامر واحمرت عيناه من الغيظ حتى صارت مثل الجمر لأنه كان من اشرفهم حسبا واعلاهم نسبا ثم قال اعلم يا ملك الزمان بأنني ملك من ملوك العربان صاحب قدر وشان وما ذلت نفسي لأنسان وهذه هي وبلادي وملك أبائي واجدادي وأنا ما تعديت عليك وما أوصلت أذيتي اليك بل أنت شنيت علينا الغارة وامتلكت بلادنا والحقت بنا الخسارة وذلك بدون سبب من الاسباب فكفى الذي فعلته أيها الملك المهاب وقد بلغت منا قصدك فلا أنت تقبل يدي ولا أنا أقبل يدك فلما سمع هذا المقال خرج عن دائرة الاعتدال وقال يا نذل بني قيس ومن هو أذل من التيس أني ما أتيت من بلادي بهذا الجمع المتزايد الا لأجعل زمام الدنيا في قبضة ملك واحد ثم بعد هذا الكلام صاح على الاعوان والخدم بصوت كالرعد في الغمام يا ويلكم اقبضوا على هذا الشيخ الكبير ومن معه من بني قيس الطناجير وقيدوهم بالجنازير فامتثلوا أمرة في الحال وقيدوا ربيعه وباقي الرجال وبعد أن قيدوه وأوثقوه أمر الملك بشنقه فشنقوه وهكذا انتهت حياته وانقضت أيامه وساعاته وبقي معلقا ثلاثة أيام حتى جاء نائبه الامير زيد إلى الشام فغسله وكفنه ثم وراه التراب ودفنه ثم جاء في باقي الرجال وأرادوا أن يفعلوا بهم مثل تلك الفعال فانهزم الامير مرة من بين أيدي الفرسان وتقدم إلى عند الملك تبع حسان وقال الامان يا ملك الزمان نحن الآن عبيدك وطوع يديك وجميع أمورنا راجعة اليك فاعفوا عنا فقد صرت لنا ملك ثم انه ابعد هذا الحديث والكلام أشار يخاطبه بهذا الشعر والنظام:

 

مقالات لمرة في بيوت صروف الدهر قد جارت علينا

أيا أمير تبع يا مسمى أيا ملك الورى في العالمينا

انا في جيرتك يافخر قومك أجبرنا لا تشفي الضد فينا

قتلت أخي ربيعه يا مكنى وأسقيت العداء والحاسدينا

وتقتلني أنا يا أمير بعده تهد رجالنا طول السنينا

ونحن يا ملك حكام مثلك على كل القبائل حاكمينا

فليس بواجب تهدم بيوتي ولا هذه فعال الماجدينا

وقد حاربنا وحكمت فينا ونحن اليوم في حكمك رضينا

وبعد اليوم صرنا لك رعايا على طول الليالي والسنينا

وندفع كل عام عشر المال كله فاحكم ما تريد اليوم فينا

 

(قال الراوي) فلما سمع تبع شعره ونظامه وعرف قصده ومرامه عفى عنه وأعطاه الامان وكذلك صفح عن باقي الامراء والاعيان وجعلهم من جملة الرعايا والخدام يدفعون له الخراج في كل عام وقال لمرة يا سيد القوم قد صممت أن أتخذ مدينة كرسي مملكتي بعد هذا اليوم فسر أنت وأهلك من هذه الديار وتفرقوا في سائر الاقطار وكونوا لأوامري طائعين ولحكمي خاضعين سامعين . ثم أنه قسمهم إلى عدة فرق وأقام على كل فرقه ملك من سادات بني قيس الاعيان فجعل الامير مرة على الفرقة الاولى وأمرة أن يسكن مع قومه في نواحي بيروت وبعلبك والبقاع وجعل الامير عدنان على الفرقة الثالثة وأمره أن يقيم في بلاد العراق وتلك المنازل والافاق وكان الملك تبع قد شتت بنو قيس بهذه الوسيلة خوفا من أن يقع في مكيدة أو حيله ثم أنه التفت على الامير مرة وباقي السادات وأشار إليهم بهذه الابيات:

 

يقول التبع المدعو اليماني أبا مرة لكم مني الأمان

الا يا قيس روحوا لا تخافوا فقد سدتم على أهل الزمان

ربيعه أنت يأمره بداله كبير القوم من قاص ودان

وأولادهم لهم موضع أبوهم وأنت أكبرهم فيهم تعاني

ولكن خلق لا تسكنوها وكونوا في أمان مدى الزمان

 

فلما فرغ تبع من كلامه وشعره ونظامه أجابت بنو قيس أمره بالامتثال وتفرقت جموعهم في البراري والتلال وهم يبكون على ما جرى عليهم وما وصل من الاذى اليهم كانوا في أرغد عيش وأهناه وفي عز وجاه كلمتهم بين الناس مسموعة وروايتهم فوق هام المجد مرفوعة لا يعرفون الهم والكدر ولا يأخذهم قلق ولا ضجر إلى ان اصابتهم البلية وحلت بهم تلك الرزيه فبكوا على تفرق بعضهم البعض وتشتتهم في أقطار الأرض.

 

ومن غريب الاتفاق المستحق التسطير في الاوراق هو ما جرى للأربعة أخوة الذين اشتهروا من بني قيس بالحميه والنخوه وذلك أنه كان لزوجة الامير ربيعه المذكورة والد كليب والزير الفارس المشهور أربعة أخوه من الذكور وهم جوشن وناجد وجودر والامير منجد الاسد الغضنفر وكانوا من أجود الناس قد اتصفوا بالشجاعة وقوة البأس.

 

فلما رأوا أفعال تبع الشنيعه وكيف أنه قتل صهرهم ربيعه ساءهم ذلك الامر وتوقد قلبهم من الغيظ بلهيب الجمر ولكنهم أخفوا الكمد وأظهروا الصبر والجلد فحملوا بيوتهم وعيالهم وساقوا غنمهم وجمالهم وجدوا في قطع البراري والاكام حتى وصلوا بلاد الشام فنزلوا بقرب صيوان.