الجزء التاسع

 وفي ثاني الايام ركب الزير للحرب والصدام وركبت معه اليمامة وقد اخذت معها ثلاثة فتاحات وكان الجرو قد ركب ايضا بالأبطال فصال وجال وطلب الزير للحرب والقتال فبرزت اليه اليمامة بالعجل وقالت انا اقاتلك اليوم دون المهلهل فاستعظم الجرو ذلك ولم يعلم السبب ثم ان اليمامة اخذت تفاحه ولوحتها بيدها وضربته بها فأخذها برجله مع الركاب فطحنها طحنا ثم انها ضربته بالثانية فأخذها على سنان الرمح ثم أخذت الثالثة وقالت اللهم يا خالق الخلق امح الباطل واكشف الحق فأخذها بيده ووضعها في جيبه فلما شاهدت الحال ايقنت انه اخوها لا محاله فنزلت عن ظهر الجواد وتقدمت اليه والقت نفسها عليه وقالت اهلا وسهلا يا أخي ابن ابي وامي فأنت والله ابن كليب دون شك ولا ريب وقد ربيت في دار العدا والحمد لله الذي عرفناك بعد طول المدى فقال لها انا ابن شاليش ايتها السيدة الحرة وامي هي الجليلة بنت مرة فقالت انت ابن الامير كليب ثم انشدت تقول :

 

قالت يمامة من ضمائرها دمع العيون على الخدين هتان

اسمع أخي قصتي وافهم معانيها يا قاهر العدا في وسط ميدان

ابوك خانه جساس أيا سندي بطعنة يا عظيم القدر والشأن

شاليش خالك كل الناس تعرفه اهل الاعارب قاضيها ومن دان

وعمك الزير فخر الناس كلهم وفارس الخيل من عجم وعربان

فاسأل لامك ثم سرك اكتمه وارجع الينا فأنت اليوم في أمان

 

( قال الراوي ) فلما فرغت اليمامة من شعرها تأكدت عنده تلك القضية لان قلبه كان لا يميل إلى جساس ولا إلى أحد من بني مرة ولا سيما انه قد حن قلبه إلى اليمامة فقال لها سرا لقد صدقت بقولك هذا فاذهبي الان وعند الصباح اتبعكم إلى الاوطان ثم توقفت عن القتال ورجع إلى عند امه في الحال واخبرها بذلك الشأن وان تعلمه من هو أبوه من الفرسان وحلف لها بالإله الديان انها ان كتمت عنه حقيقه الخبر قتلها وجعلها عبرة لم اعتبر لفما علمت امه بأتن الخبر قد اتصل اليه وان الامر ما عاد يخفي عليه اعلمته بالقصة من أولها إلى آخرها وأوقفته على باطنها وظاهرها واشارت اليه تقول من فؤاد متبول :

 

الجليله قالت ابيات نار قلبي بالحشا زادت لظا

استمع يا ولدي فيما اقوله يا ضيا عيني ويأكل المني

انت روحي افتهم مني الكلام قول صادق ليس فيه من خفا

ان ابوك كليب سور المحصنات قاهر الابطال في يوم الوغى

واخوته خمسون اعمامك جميع كلهم فرسان طعانه قنا

اربعه من الست يا ابني حقيقي كل واحد سبع ربي بالفلا

منهم المسمى ابوك كليب كان والفتى الزير المهلهل يا منى

والفتى المسمى عدي درعان هذه الأربعة آتا منها سوأ

ثم ست واربعين خلافهم من الجواري والسراري والأما

كلهم يا امير اعمامك لهم كل واحد الف يطعن بالوغا

وابوك كليب سار على الجميع بالفروسية مع جود وسخا

جاء جساس خالك باق فيه وتركني بعده مثل الأما

وطردني عمك الزير بعده فرحت إلى اهلي دون الملا

قد كنت حامل فيك بعد ابيك فولدتك في تلك الحما

رحت سميتك على اسم الكلاب سرت كأنك سبع رابي بالفلا

وانا والله من خوفي عليك قلت أخي شاليش انه لك أبا

وانا اعلمتك افعل ما تريد صفا عيني ووقتي ما تعكرا

 

( قال الراوي ) فلما فرغت الجليلة من هذا الشعر بكى الجرو بكاء شديد ولام أمه على كتمان الامر ثم انه صبر إلى الليل فركب وسار بالعجل إلى عند المهلهل وصحبه العبد أبو شهوان الذي كان ارسله اليه عمه فارس الفرسان وفي اثناء الطريق أراه العبد قصر ابيه وقبره المصفح بالذهب وعينيه واجتمعت جميع شقائقه ومن يلوذ به من اهله واقاربه فوقعوا عليه وترحبوا به وكان الزير افرح الخلق ولما استقر به الجلوس وطابت من القوم النفوس قال الجرو الحمد لله رب الكائنات الذي جمع شملنا بعد الشتات فوالله العظيم رب موسى وابراهيم لا بد لي من قتل جساس واجعله مثل بين الناس لأنه فجعني بابي تاجي وفخري وتركني يتيما طول دهري فقال له الزير لا بد من قتله على رؤوس الاشهاد وانت تكون الحاكم بعد ابيك على هذه البلاد ثم انشد وقال : يقول الزير أبو ليلى المهلهل صفا عيشي وقتي ما تعكر أتاني السعد من رب البرايا واتانا السعد لما النحس ادبر فقبل ظهوره كنا حزانا نقضي الليل في قلق ونسهر على فقد الفتى الماجد كليبا ثوى غدرا له جساس فنظر وفي دمه كتب بالبلاطة وصايا عشر ابيات او أكثر يوصيني بقوله لا تصالح فسالم انت ان صالحت تخسر واطرد الجليلة من حمانا عدوة كعبها ما كان اخضر طردناها وهي بالجرو حامل من يقدر على رد المقدر انا فيهم فتكت بحد سيفي وانت القصد منهم تكبر واني ما بكيت على كليب اخذت بثأره بالسيف مجهر فابكي حيث ما خلف ذكورا بنات الكل ما له طفل يذكر ولما خالقي انعم علينا وجانا الجرو كالسبع الغضنفر صفا عيشي وقد نلت المقاصد وزال النحس عنا ثم ادبر وبعد يا ابني اسمع كلامي انا عمك وانت الليث قسور فقم اجلس على كرسي ابوك وفي احوال اخواتك تبصر.

 

(قال الراوي) فلما فرغ الزير من الشعر والنظام قال الجرو اطال الله بقاك ونصرك على جميع حسادك واعداك وبلغت قصدك ومناك انني والله يا عم في قلق وغم فلا تزول احزاني وانال اربي حتى آخذ بثأر ابي واقطع راس جساس واجعله مثل بين الناس فشكره جميع اهله واعمامه وبعد ذلك قال له الزير ما هو الراي عندنا يا ابن أخي قال الراي عندي اني اغير عليكم نهار غد واخذ نوقكم وجمالكم إلى جساس واقول له باني اتيت اليوم بأموالهم ومواشيهم وغدا اتي اليك براس الزير ثم احاربك وتكون انت واضع قربه من الدم تحت جانبك فأطعنك بالرمح فخذه تحت ابطك والقي نفسك على الارض فتنشق القربة ويهرق الدم وانا اصيح على جساس واقول له قد قتلت عدوك يا خال انزل اليه واقطع راسه لقد زال الكدر وبلغنا اليوم الوطر وعندما يأتي اليك فتقوم اليه بالعجل وتعدمه الحياة لأنه لم يعلم بقدومي عليكم وبهذه الوسيلة تتم الحيلة وتتخلص من هذه الورطة الوبيلة فاستصوب الزير رايه ثم انه ودعهم وسار وحده الي الديار بني مره وعند الصباح ركب الجرو في جماعه من الفرسان وساق مواشي بني قيس من الرعيان باتفاق الامير مهلهل ليث الميدان. فخرج الامير جساس وسادات من بني مره وشكروا الجرو على هذه الغنيمة.

 

( قال الراوي ) فاتقف في تلك الليلة بان جساس رأى حلما غريبا وهو انه ابصر ذاته بانه كان قد ربى عنده جرو وذهب واكان يوده ويحبه فلما انتهى وترعرع وتصاحب مع سبع كاسر على فألفه إلى ان كان في بعض الايام اغار السبع على مواشي بني مره وهجم على نسائهم واولادهم وجعل يفترس كبارهم وصغارهم وكان الذئب يساعده عليهم فاغتاظ جساس من فعال الاسد فسل السيف وهجم عليه يريد قتله واعدامه فوثب عليه الذئب من ورائه ونهشه فالقاه صريعا على الارض ففاق جساس مرعوبا من هذا الحلم فنهض في الحال وسار إلى الديوان وجمع اخوته وباقي السادات والاعيان واعلمهم بذلك المنام فقالوا هذه اضغاث احلام وما زالوا يرهنون عليه حتى راق وزال عنه القلق والكدر ولما اصبح الصباح ركب الزير يطلب الحرب والكفاح وركب الامير جساس وهو في قلقل ووسواس وكان الجرو قد اوعد بهلاك القوم وقتل المهلهل في ذلك اليوم ولما التقى الفريقان برز الجرو إلى ساحه الميدان فبرز اليه المهلهل فالتقاه الجرو وصال وجال وطعنه بالرمح طعنه كاذبه فسحبها المهلهل من تحت ابطه فراحت خائبة والقى نفسه على الارض من فوق ظهر الحصان خديعة على عيون الفرسان ليظهر لهم انه قد مات وحلت به الافاق فعند ذلك صاح الجرو الله أكبر على من طغى وتجبر فقد ظنا المراد بقتل الزير الذى اهلك العباد ثم صاح على جساس وقال له انزل يا خال واقطع راس عدوك فقد قتلته وكفيتك شره فلما راه يختبط بدمه نزل عن ظهر القميرة وهو يظن انه قد بلغ غايه مراده ولما اقترب منه نهض الزير على قدميه وقبضه من لحيته وهجم الجرو ايضا عليه ووضع الرمح بين كتفيه فعند ذلك علم جساس انها حيله قد تمت عليه وتأكد عنده صحه المنام فاخذ يخاطب الجرو بهذا الشعر والنظام.

 

قال جساس الذي شاهد وفاه ياسياج البيض في طعن القنا

انني بك يا ابن اختي مستجير فاجرني يا ابن اختي من القنا.

 

فاجابه الجرو بهذه الابيات:

 

أيا خال أقصر عن ملامك دنى اجلك وقد وافى حمامك

تقول اجرني يا ابن اختي الا يا جرو اعطينا زمانك

قتلت كليب ظلما وعدوانا تظنوا بانني اسمع كلامك

وبعد كليب اصبحت حاكم تسامى في الملا ايضا كلامك

طغيت وجرت في حكمك علينا فأذني لم تعد تسمع كلامك

تريد اليوم منا ان نجيرك فهذا ما تشوفه في منامك

 

( قال الراوي ) فلما فرغ الجرو من كلامه جعل جساس يتوسل إليه بأن يعفو عنه وقال بالله عليك أن تصفح عني فأن الذي مضى قد مضى وهل اذا قتلتني يعيش كليب ويقوم فاتركني لوجه الله الواحد القيوم فقال الجرو لابد من قتلك كما قتلت أبي حتى أكون قد بلغت أربي فلما أطال بينهما الخطاب قال لهما الزير أراكما قد أطلتما الكلام والعتاب فعند ذلك طعنه الجرو بالرمح في صدره فخرج يلمع من ظهره وتقدم اليه الزير بالسيف على راسه فقطعه ثم وضع فمه على عنقه وجعل يمصه حتى شرب جميع دمه وكان الجرو ينهش في لحمه حتى بلغ مراده وشفى فؤاده وبعد ذلك أعطى الرأس إلى الجرو ليأخذه إلى شقائقه فسلمه الجرو الي بعض عبيده وهجم مع قومه في باقي الابطال على جموع بني مرة في الحال واذا قومه الوبال بلغوا منهم الآمال وكانت بنو مرة لما علمت بقتل جساس أيقنت بالموت الاحمر لأنه كان القائد الاكبر وعليه الاعتماد في الحرب والطراد فولت الادبار وطلبت الهزيمة والفرار وكان المهلهل قد قتل منهم في ذلك النهار خلقا كثيرا بهذا المقدار فمنهم أمراء وقواد وسادات وأمجاد وأما الذين سلموا منهم فانهم طلبوا الزمام من الزير والجرو فأجاروهم وعفوا عنهم بشرط أن يكونوا مثل العبيد لا ينقلون سلاح ولا يحضرون حربا ولا كفاحا ولا يوقدون نارا لا ليلا ولان نهارا ولأي عرف لهم قبر ميت في جوار لا في مقبرة ولا في دار ألا مشتتين في البراري والقفار يقضوا حياتهم بضرب الطبل ونفخ المزمار وأن غابت نساءهم طول النهار لا يسألها فين كانت بل يسألها أيش جابت وليس لهم صفه سوى الرقص والخلاعة فقبلوا على هذا الشرط بكل رضا وقناعه وبعد هذه الشروط تسلطن الجرو على كل القبائل نظير أبيه وطاعته العباد وشاع ذكره في البلاد وفرحت بنات كليب كل الفرح وزال عنهم الغم والترح وخلعن عنهم ثياب السواد وكان ذلك النهار عندهم من أعظم الأعياد .

 

وكان الجرو قد تزوج بثلاث بنات وولد له ولدان فسمي الاول تغلب والثاني مالك ولما بغا سن الرجولية زوجهما ببنتين شقيقتين وهما بنات الامير هلال حاكم حماة وزوج أخته اليمامة للأمير مفلح أبن الأمير مذكور وهذا ما جرى بينهم وهكذا أتصل الحسب والنسب وخمدت نيران الحروب بين قبائل العرب وكان أفرح الناس الأمير مهلهل وكان الجرو قد عرض عليه الزواج فامتنع وكان منعكفا على الجلوس في الخيام وأكل الطعام وشرب المدام وأقام له عشرون عبدا في رسم خدمته وكان يرقد وينام وهو لابس آلة الحرب والصدام لأنه كان قد أعتاد عليه مدة الحروب والشهور التي أستمرت اربعين سنه وكسور كما في التاريخ مذكور هذا ما كان من أمر المهلهل في تلك الايام وسوف يقع له حديث وكلام واما الجرو فأنه قد زوج أربعة من شقايقة إلى جماعة من الامراء وصنع لهن ولائم وأفراح مدة طويله وأما ولداه مالك وتغلب بقيا مدة خمسة عشر سنة ولم يرزقا بأولاد من بنات الامير هلال المذكور وبعد نهاية المدة طلبت نساءهما زيارة أهلهما في حماة فطلب أزواجهما من أبيهما الجرو أن يأذن لهم بذلك فأمر لهم فساروا مع نسائهما إلى تلك الاطراف ولما بلغ الامير هلال بقدوم أصهاره بنسائهما خرج للتفاهم مع ولده الامير مفلح وخرجت معهما اليمامة الامير مفلح المذكور وخرج أيضا أكابر المدينة فالتقوهم بالترحاب والاكرام وأنزلوهم في أحسن مكان وقاموا في تلك الاوطان مدة من الزمان وهم في سرور وأفراح وبسط وانشراح ولما صمم الامير مالك وتغلب على الرجوع إلى الاطلال مات الامير مفلح مع أبيه الامير هلال فأقاما يحكمان في تلك الديار وأنقادت لإمرهما أهل تلك البلاد وكانا محبوبان من جميع العباد وكانت اليمامة بعد وفاة بعلها ذهبت إلى عند أهلها .

 

(قال الراوي ) فاتفق ذات يوم ان الامير مالك قال لأخيه تغلب أعلم يا أخي انه قد مضى علينا مدة من الزمان ولم نرزق بولد ذكر حتى يبقى لنا ذكر يذكر بين البشر فدعنا نتزوج الان على نساءنا فلعل الله يرزقنا بأولاد والا أنقطع نسلنا من بين العباد فقال تغلب من الصواب ان نصلي إلى الله في هذه الليلة ونتضرع اليه أن يرزقنا أولاد من نسائنا لأنه على كل شيء قدير فامتثل أخوه رأيه وصليا تلك الليلة بحراره قلب وأشار تغلب يقول وعمر السامعين يطول :

 

يقول الفتي تغلب على ما جرى بدمع جرى فوق الخدود نهور

أقول وفي قلبي من البين لوعه وبي حسرات طي الفؤاد تثور

الفراق أبينا الجرو والزير عمنا عليهم قلبي والحشا مكسور

يا رب يا رحمن يا سامع الدعاء عليك أتكالنا يا جابر المكسور

سألناك ربي بالخليل وأبنه بحق الذي اليه العبيد تزور

فيا رب يا رحمن اجير قلوبنا بجاه عيسى وموسى والفضل المشهور

بجاه داود مع يحيى مع الخضر وبالعرش والكرسي وبحر النور

ترزقنا بولدين يحيوا ذكرنا أيا من ترزق كل وحش كسور

 

(قال الراوي ) وكان الامير تغلب ينشده هذه الابيات وأخوه مالك يقول آمين يا رب العالمين فاستجاب الله دعاهما ولم يخيب شكواهما فما مضت مدة يسيرة وبرهه قصيرة حتى حبلت نساءهما ولما تمت ايامهما ولدنا الاثنان في يوم واحد فولدت زوجة مالك بنتا وزوجة تغلب ولدا ذكرا فقامت في الحي الافراح والمسرات وكان جناب الاميرين في الصيد والقنص فأرسلوا لهما بعض العبيد يبشرهما بذلك وكان اسمه مسرور فلما اقبل عليهما العبد قالا له علامك يا مسرور ابشير ام نذير فقال اني بشير واشار اليهما بهذه الابيات :

 

قال الداعي المسمى مسرور يا سادتي اتيتكم قاصد بشير يا أمير

مالك اتاك بنت كالقمر ووجها كالشمس والبدر المنير

وانت يا تغلب اتاك غلام يفرح القلب المتيم يا أمير

اتيت اليكم حالا بلا بطا فوق حمرا كأنها طير يطير

اريد منكم ياكرام بشارتي اجبروا بالله قلبي الكسير

 

( قال الراوي ) فلما سمعا كلام العبد فرحا فرحاً شديدا واعتقا العبد واعطوه الف دينار ولما حضرا إلى الحي امرا بذبح الذبائح وأولما الولائم وأقاما الفرح والسرور لمدة شهرين كاملين وارسلا حالا يعلما اباهما وعمهما الزير ويبشرهما بذلك وسميا الغلام الاوس والبنت مي وتعاهدا الاخان على زواج البنت بالغلام اذا كبر ولما بلغ الجرو والمهلهل ذلك الخبر فرحا جداً وشكرا الله على هذه النعمة العظيمة وركب الجرو في جمع غفير من قومه وابطاله وسار جهت اولاده لانه كان لديه غاية الاشتياق لمشاهدتهما ولما اقترب من تلك الديار وبلغ ولديه قدومه خرج لملاقاته في موكب عظيم وعند وصوله سلما عليه ووقعا على يديه يقبلانه فقبلهما بين عينهما ودعا لهما ثم سألاه عن عمهما فقال انه في خير وعافيه وانه مازال في خيامه وهو ملازم طعامه مع مدامه ثم سار إلى المدينه وكان ذلك اليوم اعظم من يوم الزينه ونزل الجرو في القصر الكبير ووقف بخدمته الصغير والكبير والمأمور والامير وأقام في تلك الديار مدة شهرين كوامل وكان في آخر هذه المدة مرض ابنه تغلب فأقام عشرة اياما في الفراش ومات فحزن عليه الجرو حزنا عظيما وعملوا عليه مناحة عظيمه ودفنوه بكل احترام  ووقار ولما عزم الجرو على الرجوع إلى بلا ده استدعى ولده مالك واوصاه با لرعيه وان يكون عادلا في حكمه وان يزوج ابنته مي بالأوس ابن اخيه وبعد ذلك سار وحده في قطع القفار إلى ان وصل اطلاله واجتمع باهله وعياله واما الامير مالك فانه اعتنى بتربيه ابنته وابن اخيه كما اوصاه جناب ابيه حتى كبرا وبلغا درجه الكمال.

 

 وكان الاوس يركب ظهور الخيل ويتعلم الفروسية مع الفرسان واستمر على ذلك مده من الزمن حتى صار من صناديد الرجال وشاع ذكره في كل مكان وكانت ابنه عمه مي من اجمل النساء والرجال وكان الاوس يحبها محبه عظيمه فكانا كروحين في جسد واحد فلما شاع ذكرها في قبائل الاعراب وتواردت على ابيها الخطاب وكان قد سمع بها الصنديد بن الاكوع وهو ابن عم الملك تبع حسان فعشقها على السماع وكان من الملوك العظام فارسل وزيره ليخطبها من ابيها فلما وصل الوزير وعلم مالك بالخبر فقال ولله هو نعم الصهر وبه انال الفخر على طول الدهر غير انه لا خفاك اطال الله عمرك وبقاك باْن ابنتي مخطوبه لأبن عمها الأوس ونحن الآن مباشرين بأمر العرس فلا يمكنني أن أنقض الكتاب وهذا الذي يمنعني عن اجراء الايجاب فقال له الوزير اكتب لي الجواب فكتب اليه هذه الأبيات :

 

يقول الفتى مالك على ما جرى له بدمع جرى فوق الخدود صدود

أيا غاديا مني على متن ضامر تسابق لضرب المرهف المبرود

تهدي هداك الله خذلي رسالتي اعطيه مكتوبي تنال سعودي

اذا جيت لصنديد فقل له باني على طول الزمان ودود

ومي ترى مخطوبة لأبن عمها ومعها تربى والانام شهود

فحاشى لمثلي ان يخون اقاربه وافسح زمامي ثم اكون عنود

ترى روحي يا امير ومهجتي وهو عندنا احلى من المولود

فلو كنت اعطيها لغير ابن عمها لكنت انت اليوم اولى بالمقصود

 

ثم ان الوزير اخذ هذا الجواب ورجع إلى عند الصنديد واعطاه اياه فلما وقف على حقيقة الحال خرج عن دائرة الاعتدال فغير زيه وتنكر وركب جواده وسار الى تلك الديار وحده وعن وصوله إلى مضارب الأمير مالك لم يجد هناك ولم يكن في الحي الا النساء والبنات فسأل بعض النساء عن غياب الرجال فقالت منهم من سار إلى القبائل ليعزموا الناس إلى العرس والفرح ومنهم من ذهب مع الامير مالك لصيد والقنص ففرح بهذا الاتفاق وتقدم نحو الصيوان واركز رمحه ووقف على الباب ونادى هيا ياأ صحاب البيت فقد اتاكم ضيف من ابعد مكان وكانت مي داخل الخيام وحدها فما ردت جوابا وما أبدت خطابا ولما ابطئت عليه الجواب وعرف ان الصيوان خاليا من الرجال انشد يقول :

 

قال الفتى الغريب الذي شكا ولي قلب من بين الجوانح ذاب

اتيت قاصد مالكا في حاجه ولي ساعة واقف انا في الباب

يا أهل هذا البيت اين اميركم واين مضى من الديار وغاب

يا ربة البيت الذي داخل الحمى ما بالكم لا تردوا الجواب

الا فاخبروني يا بنات بحالكم قلبي غدا من أجلكم مرتاب

اذا كان اهل الحي غابوا جميعهم اما فيكم كريمة ذات حجاب

فتقر ضيفا قد اتى غريبه وتستر أهاليها مع الغياب

اكيد ما كل النساء تستر الفتى ولا كل من يحوي الردية صاب

 

(قال الراوي) فلما سمعت مي شعره ونظامه وعرفت قصده ومرامه أخذتها الغيرة والمروءة لتستر عرض أهلها من القيل والقال وأشارت تقول:

 

تقول فتاة الحي مي التي شكت الا فاسمع للقول يا نجاب

يا مرحبا بالضيف لما زارنا لك الخير والاكرام والترحاب

نزل مكانك حتى احضر لك الغدا وتأكل من زادنا والشراب

انا بنت مالك راح للصيد والدي مع ابن عمي الاوس والاحباب

انزل حتى يرجعوا رجالنا ويأتوا لنحو الحي بعد غياب

فكم جاء الينا يا أمير مثالكم خلائق كثيرة ما لهن حساب

نحن نحب الضيف اذا جاء محلنا انزل واجلس جانب الاطناب

 

( قال الراوي ) فلما فرغت من شعرها ونظامها وقع الصنديد في حبها وغرامها ورفع ستار الخيمة بسنان رمحه فوجد صبيه بديعه الجمال فزاد به الوجد والبلبال فصاحت عليه من خلف الستار وقالت علامك تنظر بنات الملوك يا غدار ثم ردت منديلها على وجهها وقالت له لاشك انك قليل الحياء كامخ فا كنت ضيفا كما تقول فانزل كي آتيك بالغداء والا فما هذه الوقاحة ثم قالت لجاريتها اطلعي افرشي له حتى يجلس ويتغذى لبينما يأتي ابي من البريه فخرجت الجارية اليه وسالته كي ينزل في الصيوان فقال لها انه عيب علي ان انزل عند الحريم وانا سيد عظيم لئلا ادعي بكامح هذا من اعظم القبائح وما اتيت إلى هذه الديار الا لأمر ضروري وهو ان اتزوج الاميرة ولما تأكدت الاميرة من مرامه قالت يا نجيب ان كنت الضيوف فاقعد في الصيوان حتى يأتي ابي من البريه هذا فلم يسمع لها كلام وقال لابد من أخذك إلى الاطلال وهناك اتزوج بك بالحلال لأني اتيت من بلاد بعيده لأجل هذه الغايه الوحيدة وقد نلت مرادي وحصلت على مسرة فؤادي ثم انه قام تلك الليلة في ذلك المكان وهو مسرور فرحان.

 

 ولما كان الصباح ركب ظهر الحصان واردفها خلفه وصار يقطع القفار ويوصل سير الليل بسير النهار حتى وصل الديار ولما سمعت اكابر قومه بقدومه ظافرا غانما اجتمعوا اليه وهنئوه بالسلامة وسألوه عن سفرته وما جرى له في غربته فقال اني عند وصولي إلى تلك الاطلال هجمت علي الفرسان والابطال ومددت اكثرهم على بساط الرمال وفعلت فعل تذكر على طول الاجيال وقتلت الامير مالك وابن اخيه واتيت بالعروس إلى هنا وقد بلغت المني فلما سمعت مي منه هذا الكلام كان عليها اشد من ضرب الحسام فنهضت على الاقدام فقالت له امام الاعيان لقد نطقت بالزور والبهتان فوحق الاله الديان لو كان ابي وابن عمي حاضران لما كنت رجعت سالما إلى اوطانك ولا اجتمعت بأهلك وخلانك ولكنك خطفتني بالاحتيال وهربت في الحال قبل ان تدركك الر جل ويحل بك الوبال ثم انها بعد هدا الكلام بكت بدمع سجام ولما سمع الحاضرون فحوى كلا مها خافوا من العواقب وعلموا بأن كلام الصديد ليس له صحة فهو في حديثه كاذب واما الصنديد فانه اغتاظ من هذا الكلام فنهض والطمها على موجهها وقال هكذا تتكلمين يابنت اللثام امام السادات الكرام ثم سل سيفه وغمده واراد أن يعد مها الحياة فعتد ذلك وثب الوزير وباقي الا مراء بالعجل وردوه عن ذلك العمل وقالوا له انت امير اتجمل عقلك كعقل النسوان فما تقول عنك ملوك الممالك اذا سمعت بذلك وما زلوا يتوسلون بالكلام حتى لان وكان له سجان أقسى من الصوان فاستدعاه اليه فحضر وكان اسمه عمران بن الازور فقال خذ هذه الملعونة إلى بيتك وسلمها إلى زوجتك لتقيدها بالحديد وتعذبها العذاب الشديد وتلبسها ثياب الشعر وتضربها خمس مرات في النهار وتطعمها خمس ارغفة من الشعير فقال يا مولاي ان هذه الصبية لا تستحق الضرب والانتقام ولا تستأهل غير الاعزاز والاكرام وهي كأنها البدر التمام فقال لها كيف العمل ومانحن الا عبيد الملك الصنديد فعند ذلك نزعت عنها ثيابها الحريرية والبسها ثوبا من شعر الخنزير وأرادت ان تضربها بالسياط على قدميها فوقعت على رجليها وجعلت تبكي وتثني عليها ثم انشدت من فؤاد متبول :

 

با الله ان ترثي إلى احوالي فالدهر فرق صحبتي وعيالي

يا وحدتي يا ذلتي يا غربتي قد صرت بعد العز بالأغلال

قد كنا في جاه ورفعه منصب والله ربي عالم الأحوال

فترفقي هذا النهار بحالتي فلعل ربي يستجيب لحالي

أنى كريمة من اكابر معشر فاقوا الورى بالجاه والافضال

ويعيدني بعد العناء إلى الوطن وأرى جميع الاهل والاخوال

ولهم وقائع في البلاد جميعها بين الملوك وزمرة الابطال

 

( قال الراوي ) فلما فرغت من شعرها ونظامها ورق قلبها وقالت لها قري نفسا وطيبي قلبا سأصنع معروفا لوجه الله تعالي ثم انها جاءت بجلد جاموس يابس فصلته ثوبا والبستها اياه من تحت الثياب وقالت اني متى ضربتك فانك لا تشعرين بألم الضرب وما قصدت بذلك الا ليسمع الملك صوت الضرب وانت تصيحين وتستغيثين وانا أقدم لك ما تحتاجين اليه من المأكل والمشرب ومتى دخل الليل تخلعين ثوب الجلد ترقدين براحه بال إلى ان يأتي الله بالفرج فشكرتها مي على معروفها ودعت لها بطول العمر وأوعدتها بالجميل والخير هذا ما كان من مي وما جرى لها أما ما كان من أبيها فأنه عند رجوعه من الصيد سمع صياح والبكاء فسأل عن ذلك فأخبرته زوجته بواقعة الحال فغاب عن الصواب من شدة الغيظ واما الاوس ابن عم الصبية فأنه غشي عليه لانه كان يحبها محبة عظيمة ولما أفاق من غشوته انشد يقول :

 

يقول الاوس ابن تغلب قصيد الا يامي من هذا دهاك

اتاك اللص في غيبة ابيك ولم يعلم بمن يسعى وراك

الا يا بنت عمي لو تدري بي على فقدك انا محزون باكي

ترى في أي أرض قد حللت فما قلبي غدا يطلب سواك

فلا بد لي أغزو دياره بالعجل واقتله وافرح في لقاك

وابذل كل مجهودي لا جلك وروحي بعد ذلك هي فداك

لما قال الفتى الاوس بن تغلب فقلبي قد تعلق في هواك

 

( قال الراوي ) فلما فرغ الاوس من هذا الشعر والنظام وقع مغشيا عليه وبقي طول ذلك الليل في هم وغم وقلق شديد ما عليه من مزيد فجعل عمه يلاطفه بالكلام ويقول له طيب قلبك يا ولدي فما يصلح الحزن الا إلى النساء فاصبر لبينما نرسل من يكشف لنا خبر ذلك الرجل وبعد ذلك نسير إلى دياره فنخربها ونسبي حريمه وعياله فقال الاوس من يذهب غيري فوالله لا سرت الا وحدي ولا اريد رفيق ولامعين سوى رب العالمين ثم نهض فاعتد جلاده وركب ظهر جواده وودعهم وسار وجدّ في قطع القفار ودموعه تجري على خديه كالأنهار وهو لا يدري إلى اين يذهب والى اي حلة يقصد من قبائل العرب إلى ان وصل إلى وادي عميق ضيق الطريق كثير الاشجار والوحوش والاحجار فبينما هو يتأمل ذلك المكان واذا قد ظهر عليه أحد الفرسان وهو بالسلاح الكامل والفروسية عليه علائم ودلائل فلما رأى الاوس منفردا مال اليه وقصده وقال له انزل يا جبان عن ظهر الحصان واخلع ما عليك من الثياب وفز بنفسك في هذه الهضاب قبل ان اسقيك كأس العطب فأنا جمرة بن غمرة فارس العرب .

 

فلما سمع الاوس هذا الكلام صار الضيا في عينيه كالظلام وهجم عليه في الحال وصدمه صدمة تزعزع الجبال فالتقاه جمرة في الحال والتحما في ساحة المجال واشتد بينهما القتال وتجاولا ساعة من الزمان وهم في ضراب وطعان تقشعر منه الابدان فاختلفا بينهما طعنتين قاتلتين وكان السابق الاوس بن تغلب فجادت في صدره خرجت تلمع من ظهره فوقع قتيلا وفي دمه جديلا فأخذ عدته وجواده وجد في المسير وهو يقطع القفار والاكام مدة خمسة ايام واتفق في اليوم الخامس انه التقى بقارس وهو يجد في قطع القفار كالسهم الطيار فتقدم اليه وسلم عليه وقال له إلى اين سائر والى من تنسب من القبائل والعشائر فقال انني من بني عبس وعدنان أصحاب الفضل والاحسان واني ساير إلى ديار بني عامر لأستدعي حامينا عنتر فارس الخيل لانه سار من عشرة ايام ليحضر وليمه دعاه اليها عامر بن الطفيل وفي غيبته غزانا عمرو بن معد يكرب في خمسة الاف فارس فحاربنا محاربة شديدة وجرى بيننا وبينه وقائع عديدة فأرسلني مولاي قيس بن زهير لأستدعيه للحضور قبل ان يظفر عامر المذكور فقال الاوس وقد تعجب ومن هو عنتر بن شداد فارس الصدام الذي اشتهر ذكره في هذه الايام بطعن الرمح وبضرب الحسام وقهر كبار الجبابرة وحارب الملوك والاكاسرة والقياصرة وافتخر على الابطال في ساحة الميدان فلما سمع الاوس هذا الخبر وانبهر ثم ودعه وجد في قطع البر الاقفر ومازال يقطع البراري والاكام مدة سبعة ايام حتى اشرف على جماعه من العبيد ترعى الاغنام فحياهم بالسلام واخذ يسألهم بهذا الشعر والنظام :

 

يقول الفتى المضنى الفائض ما به فدمعي جرى فوق الخدود سائح

الا ياعبيد الخير بالله اشفعوا لصب بعيد الدار ولهان نازح

فجيع وجيع مستهام ملوع تركه البين مضنى كثير الجرايح

لقد ضاع لي حرة عفيفة من الحنا فهل من يبشر بها يا فوالح

ويخبرني لأي البلاد توجهت من أجلها ناري تزيد اللقايح

لقد احرقت قلبي والبي مهجتي وكل عظامي أوثقهم جرايح

 

( قال الراوي ) فلما فرغ من كلامه تقدم اليه كبير الرعيان وكان اسمه مرجان وقال له اعلم يا غلام انه من برهة عشرة ايام سبى اميرنا الصنديد ابنة اسمها مي لا يوجد اجمل منها في نساء هذا الحي فأراد ان يتزوجها فامتنعت عنه فلم تميل اليه فقيدها بقيود من حديد وهو كل يوم يعذبها عذاب شديد فعسى تكون الحرة التي ذكرتها في نظمك افرج الله همك وغمك فلما سمع الاوس هذا الكلام استبشر ببلوغ المرام ونزل عن ظهر الحصان وقبل العبد مرجان وأوعده بالجميل والاحسان فبينما هو بالحديث والكلام واذا بسعد ابت أخت الصنديد قد جاء ليكشف أخبارها ويرجع بها إلى ديارها فلما سمع هذا الكلام رجع عند خاله وأعلمه بما سمع ورأى وأشار اليه يقول :

 

قال سعد قد اتيتك عارا يا خال مي فاسمع الاخبارا

البنت التي غربتها من أهلها من خلفها فارس اتاك جهارا

يا خال فارس في اللقا مجرب وعيونه يا خال تقدح نارا

ان كان راقت لك ليالي الصفا فبصفوها تأتي لك الا كدارا

قد جاء إلى عند العبيد يسأل انبوه فجاء كالأسد هدارا

لما سمعت اتيت نحوك عاجل هذا الذي يا خال تم وصارا

 

( قال الراوي ) فلما فرغ سعد من شعره ونظامه وفهم الصنديد فحوى كلامه قال له فارس واحد قال نعم ايها السيد الماجد فشتمه خاله وقال ارجع وخذ من بين جنبيه فأنه لا يليق بي ان اركب لقتال صعلوك من صعاليك العرب فخرج سعد من عند خاله وقصد الاوس . فلما اجتمع به وصاح فيه وحمل عليه فالتقاه كالأسد وضربه بالحسام المهند فألقاه على الارض قتيلا فأخذ عدته وسلبه ثيابه ولما بلغ خاله الخبر طار من عينيه الشرر فركب ظهر جواده واعتد بعدة جلادة وقصد الاوس حتى التقى به وانطبق عليه كليث الاجام وأخذ معه في القتال والكفاح ولم تكن الا ساعة حتى اثخنه بالجرح فولى وطلب لنفسه الهرب فتبعه مثل السرحان حتى وصل الصيوان واحتما عند النسوان فلما دخل على الحريم قالت له زوجته سعد علامك دخلت وانت مرعوب كل هذا لأجل الابنة التي خطفتها وما نالت المرغوب فقالت انك تستحق أكثر من ذلك وبخته بالكلام وقالت له انت تدعي الفروسية على كل واحد وتهرب من امام امرد هذا والاوس يصيح عليه ويقول اخرج يا  لئيم من بين الحريم حتى اجازيك على تلك الفعلة يا غدار يا محتال فخاف الصنديد وقال لزوجته سعده اعطيه ابنة عمه وكافينا همنا وهمه وخرجت زوجته اليه وقبلته وطلبت منه العفو والسماح فأعطاهما الامان فجاءوا له بابنة عمه مي بعد ان لبسوه الثياب الفاخرة وذبحوا له الذبائح وقدموا له الأطعمة المتكاثرة ولما اجتمع به زال عن قلبه الكدر من كثرة فرحته اخذ يسكب العبر وهكذا فعلت مي،  وكان ذلك النهار عنده كيوم العيد حيث التقت بحبيبها الوحيد .

 

( قال الراوي ) فباتا تلك الليلة في الحلة وعند الصباح اركب مي في هودج وسار معه جماعة من العبيد وتوجهوا قاصدين دياره ولما اقترب من بلاده ارسل يبشر عمه الامير مالك بقدومه وشاع الخير في الحي وخرجت النساء والبنات واكابر السادات ولما اجتمعوا ببعضهم البعض نزل الامير مالك فسلم على الاوس وابنته وشكر ابن اخيه على افعاله وعند وصوله إلى الخيام حدثهم بحديث عنتر وما سمع عنه من الخير فقال عمه والله سمعنا بذ كره وأنه من أ فرس فرسان عصره وبعد ذلك ذبحوا الذبائح واولموا الولائم ثم زفوا الاوس على ابنة عمه فكانت الليلة من أعظم حضرها جمهور من السادات والموالي فزادت أفراح الاوس بتلك العروس وحظى بدلك الحسن والجمال وعاش معهما بارغد عيش وأحسن حال وبعد ذلك وضعت له غلا ما سماه ما لك وله حديث طو يل فاتفق بعد عشرة ايام أن ابن الاوس ضعف ضعفا شديدا فمات فحزن الاوس عليه ودفنه بالاحترام والوقار بكت عليه الكبار والصغار وكان موصوفا باللطف والايناس ومحبوبا من جميع الناس وأرسل الاوس وأعلم جده بذلك الخبر فحزن وتكدر فقالت أختك اليمامة أرسل يا أخي وأحضر أبن عمك الاوس مع أهله ليجمع شملنا بشمله أجابها إلى ذلك وفي الحال أرسل رجلا من بني عمه ليحكم مكانه .

 

فجاء الاوس مع أهله وسكن عند الجرو جده وراق لهما الزمان واما ما كان للبطل الهمام صاحب الذكر الشهير المدعو بسالم الزير فأنه كان قد أخناه الدهر وضعفت قواه وهو مع ذلك مواظب على أكل الطعام وشرب المدام وكان لا ينام الا وهو لابس عدة الحرب والصدام وما زالوا على تلك الحال حتى برز له أسنان جدد وصار عقله مثل عقل الولد وكانت بنات أخيه تخدمه وتداويه فاجتمع يوما بالجرو وقال له يا ابن أخي قد ضاقت أخلاقي من الوحدة والانفراد فأريد منك أن ترسلني مع بعض الاتباع لتنزه في البلاد فأجابه إلى ما طلب وأركبه في هودج وأعطاه عبدان برسم الخدمة وجميع ما يحتاج اليه من لوازم السفر فودعه المهلهل وما زال يجول حتى أقترب من بلاد الصعيد وكان العبدان قد تعبا من مشقة الطريق وهما يلاقيان من التعب أشد الضيق فصمما على قتله وأعدامه بالكلية وانما يقولان لأهله قد ادركته المنية فعرف الزير منهما فقال قد دنى همامي وليس الا القبر امامي فإذا ادركتني منيتي اريد منكما ان تبلغا اهلي وصيتي قالا وماهي وصيتك فعاهدهما على حفظها وتأييدها فحلفا له بأعظم الاقسام بأنهما يبلغونها بالكمال والتمام فقال اذا وصلتم الحي فاقريا أهلي من السلام وانشدوهم هذا البيت وقولا لهم اني في القبر قد أختبيت .

 

من مبلغ الاقوام ان مهلهلا لله دركما ودر ابيكما

 

وكرره عليهم حتى حفظاه ولما دخل الليل ذبحوه ودفناه تحت التراب ورجعا إلى ديارهما ودخلا على سيدهما الجرو وأعلماه بموت عمه الزير فبكأ بكاء شديدا ومن حضر ثم ان العبدان اقتربا من الجرو وانشداه البيت المذكور. فلما سمع الجرو هذا استغربه حيث لا معنى له فاستدعى بأخته اليمامة وكانت من اذكى نساء العرب وعلمها عمها وانشدها ذلك البيت فلطمت على وجهها وبكت قالت ان عمي لا يقول ابيات ناقصه بل اراد ان يقول:

 

من مبلغ الاقوام ان مهلهلا أضحى قتيلا الفلاة مجندلا

لله دركما ودر ابيكما لا يبرح العبدان حتى يقتلا

 

ثم انهما قبضا على العبدان والقوهما تحت العذاب والضرب الشديد إلى ان أقر بأنهما قتلاه ودفناه فقتلهما الجرو في الحال وهكذا انتهت حياة الزير وقد أخذ ثأره في حياته وبعد مماته.

 

تمت قصة الزير أبو ليلى المهلهل بعون الله تعالى