الخيل الأصيلة -- الجزء الرابع من الفصل الاول من القصة الاولى

الخيل الأصيلة

الحصانان جاءا إليهما بعد أن تعرفّا على فرسانهما ورَكَنا رأسيهما على أكتافيهما وبديا وكأن فرحتهما باللقاء تزيد عن فرحة”ورد” و”المحارب”  وكانا بعيون الصيادَين من أجمل الخيل التي عرفوا ؛ وعند سؤال ”المحارب” عنهما أخبرهما بأنهما من أنبل  الخيل  وأقواها وأسرعها وإن أصولهما وأرسانهما مسجلة منذ مئات السنين في سجلات الخيل الأصيلة وأن أحدهما كحيلي عجوز "صقلاوي" إسمه "عمران" والآخر من كحيلة "أم عرقوب" واسمه "أركان" ، والرسنان لا مثيل لهما في تاناناريف،  الجزيرة التي جاؤوا منها،  ولا في غيرها من البلدان المعروفة. وبهذا تم لمُّ الشمل بعد أن كان غرقهم مؤكدأً وهذا ما أفرح " المُعَزِّبان" الصيادَان وأثلج صدورهما وقاداهما لتعريفهما في سوق المدينة وأدخلا ”المحارب” ضيفا مكرما في بيتهما لينضم إلى ضيفهم ”ورد”.

 

وبدأت القصة

وهكذا سارت الأمور ببطء ولكن بترَّوي لأن”ورد” و”المحارب” جاءا لغاية وهدف، وهما لا يريدان أن تُفسِد العجلة مهمتهما. وبدأ الجمع، الصيادان و”ورد” و”المحارب” رحلتهما داخل الجزيرة ليرتقيا في علاقاتهما إلى حيث يتمكنا من لقاء”الأميرة ياسمين"  و أبواها الملكان ويتقدمان خطوة خطوة في عملهما  ليثبتا موقعهما بعد أن يصبحا محبوبان من أهل البلد.

 

كان لركوبهما  حصانين "عمران" و"أركان"  وقع حسن عند الناس. فالكل يهتم بالخيل وهي وسيلتهم للتنقل والتنزُّه والسباق والمبارزة، وهي رياضة يحترمها  الكل ويلعبها من له القدرة والشجاعة والحرفة والمعرفة بأصولها وظهر للناس خيّالان فارسان  يمتطيان حصانين جوادين واضحٌ أنهما من أجمل الخيل وأنبلها. والفارس المقدام هو من يمتطي مثل هذين الجوادين وبالتالي حازا دون تعب ولا حتى محاولة المركز السامي الذي يُخصص للفرسان المُجَلِّين. ولكن لم يدعوهما أحد إلى مبارزة واكتفى الكل بالنظر والتفرُّج إلى أن يحين الحين ويُسبَرُ غورهما.

 

سارت الأمور كما رأينا على أحسن ما يرام ومع أن ظهورهما على شاطيء الجزيرة أثار الكثير من التكهنات فإن أحداً لم يسألهما عن أمر عدا عما سبق وعلموا من الصيادَين. وقرر”ورد” أن يبادر ويقوم بعمل يلفت إنتباه الناس فقال أمام بعض الناس شعرا بالياسمين، وكان الشعر عندما أنشده مميزا من حيث سبكِه ومعناه وجودته فسار مسرى النار في الهشيم ولم تمضِ أيام حتى ردده الناس في الساحات والخلوات والمقاهي  وكأنه معروف عندهم من زمان.

 

الشعر

والشعر كما نعلم وسيلة الإتصال والتواصل الأكثر شيوعا بين  الناس وقبولهم للشيِّق منه،  وكان يثير الهمم ويشحذها عند اللزوم عند المناداة لغزوة أو حرب أو إجارة لمظلوم وحتى أن بعض أحسنه قيل لترويج بضاعة كسُدت في السوق فأنزلها الشعر من مخازنها إلى سوق راجت، فبيع ما كان كاسدا خلال أيام.  فالشاعر المعروف،  مسكين الدارمي،  بعد أن سمع شكوى صديق له في أسواق دمشق يشكو كسَاد بضاعة ثمينة أتى بها من أقاصي بلاد الشرق، طمأنه ونظم قصيدة حلوة يتغنى فيها بالخمار الأسود الكاسد،  من أبياتها:

 

قل للمليحة في الخمار الأسود       مـــاذا صـنـعــت بــزاهــد مـتـعـبـد
قـــد كـــان شـمــر لـلـصـلاة ثـيـابـه       حتى وقفت له بباب المسجد
ردي عـلـيــه صــلاتــه وصـيـامــه      لا تـقـتـلـيــه بـــحـــق ديــــــن مــحــمـــد

 

فما إن سمعت صبايا العرب بالقصيدة حتى نزلنَ إلى السوق واشترين بأيام كل ما كَسِد سابقا كما إشترين من البضائع الأخرى الشيء الكثير.

 

شياطين الشعراء

وبما أننا طرقنا مواضيع الشعر وشجونه فلا بد أن نُذَكِّر أن لكل شاعر شيطانه، وشياطين الشعر يلهمون الشاعر ويلقنونه ويبقون في جواره يسعفونه عند الحاجة. هم كما أوحينا من الجِّن. شعراء الطبقة الأولى كأصحاب المعلقات السبعة وجرير والفرزدق والأخطل وأبو نواس والأعشى والمتنبي والأخير أشهرهم، إصطفتهم طبقة من أمراء عشائر الجِن فكان شعرهم عالي الجودة ولا ندري إذا كانت كل عشائر الجن تعمل في هذا المجال ولكننا نظن أن إختلاف المستويات والمضامين الشعرية يشجع على الإعتقاد بأن شياطين الشعر من بيئات مختلفة ولربما كان لكل قبيلة وعشيرة شياطين شعر.

 

ونعود فنروي ما سمعنا

ونعود لقصيدة”ورد” في الياسمين بعد أن أطلنا الحديث عن الشعر وشياطينه وهو موضوع جذَاب ومريحٌ لمن يستذوِفه . لأ أدري إن  كانت هذه القصيدة بنت ساعتها أنشدها دون تحضير ولكنها على كل حال تُظهر ما له من خيال وقدرة على التعبير. وهو فيها حقق غرضه ولفت الإنتباه ولن يفوت الوقت قبل أن تعطي هذه البادرة ما أُريد لها أن تعطي. الواقع ، أو هكذا قيل في ذلك الوقت وقبل أن نعلم علم اليقين أن القصيدة وصلت إلى أذن الأميرة  ياسمين وأنها أُعجبت بها لرقتها ووصفها الجميل للزهرة النبتة التي أعطت إسمها للأميرة وللمملكة ويحبها الناس ويحافظون عليها ويهتمون بها .

 

حَنانَيكِ يَا زَهرةَ اليَاسَمِينْ      مَكانُكِ بِالقَلبِ لَو تَعلَمينْ

دُمُوعُكِ؟ أمْ ذاكَ لَثمُ النَّدَى       عَلى وَجنتَيكِ بِعشقٍ دَفِينْ؟

بَياضُكِ صُبحِي إذا طالَ لَيل      وَناحَتْ دِيارِي كَطَيرٍ حَزِينْ

إذا فاحَ مِنكِ الشَّذا هامَ قَل         بِي وعَاودَهُ للِّقاءِ الحَنِينْ

شُغِلتُ عنِ الرَّوضِ والطَّيرِ       والزهرِ إلاَّكِ يا بُغيَةَ الحَالِمينْ

فرُدِّي فُؤادِي فَمُنذُ التَقَينا          ومَثواهُ عَيناكِ يا يَاسَمِينْ

 

وكان للناس على ما يبدو  شغفٌ ب ”ورد” لشكله وشعرِه وقيافته وفروسيته كما كانوا ينظرون إلى "محارب" نظرة إحترام يشوبها بعض الوجل،  أيضا لشكله وقوته وفروسيته. والزائران معا ، كانا وكأنهما من أبطال الأساطير وكان الناس يتسامرون ويتحدثون وربما يبالغون في حديثهم عنهما. المهم أنهما إكتسبا عند الناس قبولا ومحبة وإحتراما، ويعود أكثر ذلك للصيادَين اللذين وجداهما وإستضافاهما وقرباهما من الناس.

 

والصحيح وإن طال الزمن بانتظار لقاء "ورد"  و"الأميرة" ، فإن الوقت كان  برأيه  يلعب في صالح تخطيطه تاركاً ذلك ظاهريا  للصدف حتى لا يبانُ الغرض ولا تدخل الشكوك عند”الأميرة"  أو الملكين أبويها عندما يلاحظ أحدهم أو كلهم ما يجري ويقرروا بشأنه ما يريدون.  طبعا، "ورد” كان بصفته من كبار أهل الجِن يعرف كل شيءٍ عن الجزيرة وأهلها ولم يكن بحاجة لإستكشاف ما يعرف لكن ظهوره بمظهر المتعلم  المستكشف للجزيرة وأحوالها يؤكد حسن نيته وصُدفة وجوده فيها.

 

تاناناريف

وهكذا سارت الأمور وبقي”ورد” وصاحبه”المحارب” يترددان على ساحة المدينة يَلقَيان الناس ويروِيان قصصا عن جزيرة تناناناريف التي قالوا أنهم  جاؤوا منها، عن أهلها وعاداتهم وأكلهم وشربهم ومركوبهم المُفَضل وأعيادهم وبيوتهم وكيف بُنيت،  وعن القصور التي بناها حكامهم وملوكهم منذ فجر الزمن على قمم جبالها كما على شواطيء سواحلها وهي لا تزال قائمة. وحدثوهم عن تجاراتهم وركوب البحر لزيارة بعض أهلهم في جزرٍ وأماكن أخرى ولكن أكثر ما أبحروا له كان للتجارة بالحرائر والأحجار الكريمة ومنها اللؤلؤ والماس والزمرد وغيرها. وأخبروهم أيضا عن زراعتهم والتي تشبه زراعات جزيرة الياسمين أو يختلف عنها قليلا،  والحيوانات الموجودة فيها وبعضها غريب على السامعين لهذه القصص كالفِيَلة التي دُجِّنت وأصبحت أداة تساعدهم في أعمال كثيرة وبالأخص نقل أو جَرّ الثقيل من الأشياء ولركوبها أيضا،  والحيوانات الضارية وأسباب وجودها وكيفية التعامل معها. ولأنهما أفاضا بهذه الروايات والقصص فإنها أصبحت في التداول وصار الناس يروونها لأنها تشبه الحلم ولم يروا أو يسمعوا بمثلها سابقا.

 

وإذا ما إنعطفنا إلى الجزء الخامس من قصتنا العجيبة الغريبة

نرى كيف "لعب الفأر بِعُب كبير الشرطة"

و بنيت قصور وتغيرت أحوال.