الفأر يلعب بِعُبّ كبير الشرطة -- الجزء الخامس من الفصل الاول من القصة الاولى

الفأر يلعب بِعُبّ كبير الشرطة

يجرنا الحديث الذي لا بنضب إلى رواية ما نتج عن الشعر وقَرضُه والحصانان الأصيلان الجميلان القويان ، وتاناناريف وما فيها من غرائب، ومن حياة أهلها وجمال”ورد” وقوة ”المحارب” وفروسية كل منهما وغيرها من القصص التي شاء الرواة على مرِّ الزمن  أن يضيفوها، كله جلب إنتباه الجميع وكان أول من بادر بالإتصال كي يستكشف كبير شرطة "جزيرة الياسمين" الذي "لعب الفأر بِعُبِّه" وارتأى أن يتعرف إلى ما جدَّ من أمور وهو لم يقُم في حياته المهنية كلها بأي عملٍ يستدعي الشك أو التأمل أو الخوف، فالجزيرة لم تشهد ما يستدعي هذا النوع من الإنتباه فهي في سلام دائم وأهلها لا يختلفون مع بعضهم لدرجة تحتاج تدخلا رسميا ومن النادر أن تستأثر الأخبار بالإنتباه فهي تتكرر ولا تتجدد.

 

وهو، أي كبير شرطة الجزيرة ، قرر أن يُخطط لما سيقوم به وكيف يطرح أسئلته عن مواضيع لم يسمع بها سابقا فإنشغل باله ولم يُكَوِّن خطة يستطيع السير بموجبها. ولما طال الأمر عليه وزاد عجزه في فهم المهمة والتخطيط لما يتوجب عليه،   بدأ الوهن ثم المرض يدبُّ في جسمه فقعد في بيته ضائعا تراوده أفكار تزعجه ولا يدري كيف يتخلص منها. القضية هذه جاءته ونغَّصت حياته ولم تتركه إلا عاجزا ضائعا يُهَلوِس ويتوهم ويعيش كابوسا لم يعتده.

 

وكان صديقنا ”ورد” على علمٍ بما يعاني كبير الشرطة منه نفسيا وجسديا وكان هذا مدخلا له ليَفُك أسره ويخفف عليه من متاعبه وربما، إذا الأمر إقتضى ، يشفيه من عِلَّته ويروي له القصة بشكل يفرح من سماعها ويرويها بدوره لمن هو أعلى منه رتبة  بحيث تصبح قصته هي ما يؤخذ به فتتحقق أولى مراتب مخططه.

 

وهكذا كان، بعد أن جلس مع زميله " المحارب” وتشاورا واقتنعا بما قررا وتركا الأمر إلى الغد ليراجعا ما قررا ليعدلانه أو يغيرانه  أو يسيران بموجبه، وعادا إلى حيث يقيمان وناما ليلتهما والنجاح ورائحته تدغدغ أنوفهما وعقولهما. وبالمناسية فقد نسينا أن نذكر مكان إقامتهما بعد أن إستضافهما الصيادان الكريمان لمدة طولة.

 

“ورد” و”المحارب” إنتقلا إلى بيت بنيناه

واقع ما جرى وما لم نحكيه لكم أن الصيادَين لم يتركا مجالا ل”ورد” و”المحارب” أن يجدا مأوى آخر لهما،  وقاما بالضيافة على أكمل وجه . إلاّ أن الضيفين شعرا بأن من واجبهما أن يتركا المضيفان ويجدا مقرّأ  لإقامتهما ووعدا الصيادَين أن يبقيا على تواصل دائم معهما فهما أول الأصدقاء ولهم عليهما فضلٌ كبير ولكنهما أطالا الإقامة عندهما وجاء الوقت ليريحهما من هذه المسؤولية ويتركانهما يعيشان حياتهما التي إعتادا عليها. وافق الصيادان إنما أبلغا ضيفيهما أن لا فنادق في الجزيرة ومن يأتي من مكان بعيد في الجزيرة ينزل عند أهله ويبقى معهم إلى أن يعود إلى قريته.

 

لم يكن ل”ورد” و”المحارب” إلا أن يبنيا  بيتا يقيمان فيه ولم يكن ذلك بالأمر الهيِّن إذ أن البناء يحتاج أرضا يمكن شراؤها من مالكها وتعهد الصيادان بأن يفتشا عن أرض وعن مالك يرغب في بيعها، وشاءت الصُدف أن يكون كبير الشرطة راغبا في بيع قطعة أرض في مكان معزول من المدينة لا يرغب أحدٌ في إستثماره لبناء بيت. ولكن”ورد” و”المحارب” وافقا وزارا كبير الشرطة في منزله واتفقا معه على شرائها منه بالسعر الذي طلبه وكان ثلاثة قراريط من الماس الأبيض الذي لا عيب فيه ، فوافقا رغم أن السعر يفوق بكثير قيمة الأرض الحقيقية. وهكذا كان واتفقا على اللقاء في الغد لتسليمه الماس ويسلمهما وثيقة التمليك اللازمة.

 

كان هذا اللقاء ما أراده الطرفان وكلٌ من الفريقين حضَّر أسئلته والإجابات عن وجودهما في الجزيرة ، أسبابها وأغراضها، إذ أن كبير الشرطة كانت لديه شكوك أراد التيقن من صحتها.  وكان مساء وتشاور”ورد” و”المحارب” وقررا ما عليهما قوله أو بالأحرى ما سيقولانه لكبير الشرطة كي يردده كما يَروونه له أمام كل من يسأله. وكان صباح وذهبا إلى بيت كبير الشرطة كما إتفقا وكان سند التمليك في يده وكذلك كانت الماسة في يد”المحارب” .تبادلا السند بالماسة وتم كل شيء دون أن يبحثا  في موضوع آخر إنما إتفقوا كلهم على اللقاء بعد يومين ليحتفلا بما باع واشتريا ، في  بيت كبير الشرطة وهو قرر دعوة بعض الأصدقاء للتعارف.

 

في مساء ذلك اليوم ذهب”ورد” و”المحارب” إلى الأرض التي إشترياها فأقاما حولها سورا من أشجار الياسمين المُزهر ، أريجه والرائحة تفوح وتعبق في محيطها فيُستدَل على البيت الذي ضمن سور الياسمين  من أي جهة جئته أو كنت فيه من طيب شذا الياسمين .  وكان السياج خطوة أخرى بعد الشعر الذي سار بين الناس سريان النار في الهشيم وجاء سوار البيت ليكون للناس قصة تروى وتكون جاذبة لهم وتُعلي في صفات”ورد” فتضيف حسنة إلى ما يتمتع به من صفات النبل والشرف.

 

ومضت الساعات وأشرق الصباح فإذا في الأرض بيت لا يوصف من حسنه تحيط به قرب السور  أشجار الفاكهة على أنواعها والزهور بأشجارها ومختلف نباتاتها تحيط بالمنزل،  بينه وبين الأشجار فسحة للجلوس في باحته أمام مدخله،  للتنزه والإسترخاء في حضرة جمال ما يلتف به من نبات وفي مقدمها شجرة ياسمين ، وحيدة زمانها في شكلها وزهورها والأرومة لم يخلق الله مثلُها وميز هذا البيت بها.

أما البيت فكان من الجمال في بنيته ما يأخذ بالألباب ، جدرانه بيضاء كالثلج تتمَوَّج فيها لمحات لون زهري يُفرح القلب . أبوابه والشبابيك من خشب الأبانوس الثقيل الجميل . وبناء آخر مستقل في زاوية من البستان للحصانين كامل الأوصاف.

 

وانتقلا ذلك اليوم إلى بيتهما الجديد، وكان لحُسن بنائه وريان الحدائق الملتفة  ألخضراء حولّ المنطقة المرذولة سابقا إلى فيحاء مرغوبة يسكنها مُرهف الذوق حساسُه ، هذا إذا تمكن من إمتلاك أرض يجاور بها هذا القصر بصفاته ، البيت الحميم بأهله ، الظريف الطريف الذي يجذب الأنظار والذي لا مثيل له في "جزيرة الياسمين" ولا غيرها.

 

بنيا البيت لسبب وهو لفت نظر من يهمه الأمر إلى قدراتهما والثروة التي من الواضح أنها لهما والكفاءة غير المعهودة في عملهما. وأهم ما يتوارد في الأذهان هو كيف زرعا الأشجار والأزهار التي أثمرت وبنيا قصرا في ليلة واحدة. وهذه الأسئلة تثير الفضول وتحتاج إلى من يُفَسِّر سرها لأنها عجيبة في سرعة البناء وسرعة إنبات الشجر ، ولا جواب إلا عند”ورد” و”المحارب” اللذان تمكنا من ذلك كونهما جنيان وبما أرسل لهما من مساعدات أتتهم من سيدهما الملك عبد الله المذهب على جناحي الرُخّ وفي عجل. والرخ كما نعلم هو طير كبير سريع يقطع المسافات الطويلة بسرعة  البرق ولا يأتمر إلا بأمر ملك الجن الذي وضعه في تصرف  الملك عبدالله المذهب ليساعده في مساعيه وهكذا كان ونقل الرخ إليهما كل ما إحتاجا من مواد ومهندسين وعمال قاموا بالبناء ، وأتى أيضا بالخدم الذين تقرر أن يقيموا في الجزيرة في خدمة "ورد" و"المحارب" ما أقاما فيها.

 

هذا ما كانا يريدان أن يحدث ويثير التساؤل وههذا ماحدث وكما خططا. وفي اليوم التالي كان لهم إحتفالٌ في بيت كبير الشرطة بمناسبة شرائهما للأرض منه وكانت مناسبة لكل سائلِ أن يسأل وكل متعجبٍ أن يشفي غليله فيعرف ما جرى وكيف جرى، ولكنهما وهناك يوم كامل بين ما أنجزا والأحتفال، قررا الإستفادة منه بترويج الأفكار في المدينة وإن أمكن وتيسّر ترويجه في حلقات”الأميرة" بحيث تثير أجوبتهما ما يفيدهما من اعجاب بهما وبقدراتهما والتقرُّب منها لمِا صار لهما من علوّ شأن ومحبة في وطنهم الجديد. نقول وطنهم الجديد لأن رجوعهم إلى تاناناريف غير متيسِّر ولا بديل لهما من تبني جزيرة الياسمين وطنا يعيشان فيه كأهله، وكانت هذه القصة التي أرادا من أهل الجزيرة تصديقها دون أن يتكلما هما بها.

 

وما أن قام القصر وتم فرشه وتواجدت خدَمته

تهيأت فيه ظروف الإحتفال

 وكان ما كان وأصبح قبلة الأنظار,

وأقيمت فيه حفلات لم تشهد مثلها "جزيرة الياسمين"