هدف الزيارة وأسبابها-- الجزء الثامن من الفصل الثاني من القصة الاولى

 بدأ ورد في الكلام قائلاً:

هدف الزيارة بسيط ولكن أرى من الأنسب أن أبدأ حيث يجب أن أبدأ فسبب الزيارة نشأ منذ مدة طويلة. أخبركم عنها كيف بدأت وكيف تطورت واقتضت مجيئي إلى الجزيرة ونشوء القصة التي سردت، علما بان "الأمير المحارب" له سنوات وهو مقيم هنا فلم يأت معي بل سبقني بسنين. وسبب وجوده منذ ذلك الوقت يبان الآن.

 

منذ سنوات تقارب الربع قرن جاءني سيدي ليخبرني أن "ملك الجان الأعظم الحارث بن مرة" طلب منه أن يُعيره أحد المخلصين الموثوقين من رعيته ليساعده في حراسة طفل إلى أن يكبر وأن يحميه من كل شرٍّ إلى أن يعفيه من مسؤوليته. وأخبره أن الأمر كبير الأهمية بالنسية له وإنه سيكافئه على عمله بكرم ويعطيه بعد ذلك بوظيفة كبيرة يستحقها. وكان أن قرر "الملك المذهب" أن يكلف أحد الأبطال المقربين منه القيام بهذه المهمة لعلمه أن "الحارث بن مُرَّة" لا يطلب مثل هذا الطلب لو لم يكن ضروريا ومهماً له.

 

الواقع أن ملك الجان في ذلك اليوم رأى حلماً عن ولادة إبنة لملكة في جزيرة منعزلة ونائية وإن هذه الطفلة ستكبر لتكون قوية وذكية وقادرة ويكون من حظ تلك الجزيرة أن تتبوأ عرشها لأنها ستكون وحيدة أبويها . أضف إلى ذلك أنها ستكون فائقة الجمال ، شجاعة وربما فارسة يحسب لها ألف حساب. وعليه فقد طلب من الملك "عبدالله المذهب" ما طلب وأعطاه من نسميه الأمير" المحارب" ليتولى هذه الوظيفة  ويحرس الطفلة الأميرة حراسة حسنة. 

 

يوم ولدت الأميرة توسم ملك الجان فيها الخير واستبشر بولادتها وكان ذلك اليوم يوم سعد له، لأن يوم ولادتها كان من أسعد أيام حياته إذ أنه أنهى كل خلافات الجن والانس وتبوأ مركزه الحالي رغم الصعوبات التي اكتنفته وولدت "ياسمين" في ذلك اليوم.  ومن كثرة خوفه عليها أرسل لها منذ ذلك الوقت "المحارب" يحرسها ويعلِمه بأخبارها.

 

ومضت السنون ولم يلحظ أحد في الجزيرة أو في قصر والديها غريب يحوم حولها لأنه بقي خفيا طوال خدمته وإلى أن جئت انا الى الجزيرة للقيام بمهمة وهي نقل خبر إهتمام ملوك الجن بالأميرة "ياسمين".

 

وكان ملك الجان يرسل إبنه "مازر" لزيارة الجزيرة ويلتقي ب"الأمير المحارب" ويتأكد بأن الأمور تسير على ما يرام. وفي زياراته التي تكررت رأى الأميرة ، ورآها تكبر ويزيد جمالها جمالاً. فجاء حب إبنه "مازر" لها ليقوي اهتمامه فيها وفي سلامتها وصار يتمنى أن يطلب يدها من والديها لولده وولي عهده "مازر" ؛ ولما إشتد هيام "مازر" بها قرر أن يسعى لطلب يدها علَّ موافقتها تقرب المملكتين وتعطي لولديهما حكم بلدين فيعيشان فيهما وينتقلان من مملكة إلى الأخرى يوسِّعا دائرة معارفهما ويعطيان لشعبيهما الكثير ليسعد الجميع بهذه المصاهرة.

 

المشكلة التي وَعَاها الكل هو أن الأميرة لم تقرر الزواج ورفضت قبول أي طالب مهما علا شأنه أو إرتفعت مميزاته. لهذا فقد قرر ملك الجان وأناط بنا  بناء جسر يسمح  بلقاء بين الملكين "بن مُرَّة" و"مرداح" وبين "مازر" و"ياسمين" فيكون القرار قد بُنِيَ على معرفة تامة بكل ما يُبتَطن من أمور يُرغب فيها أو ترفض. وبما أن المدعوين إلى اللقاء مُمَيَّزين بكل صفاتهم ، مميزين بقدراتهم وعلمهم وثقافتهم وخبرتهم واحترامهم للآخر فإن القرار بالقبول أو الرفض يكون قد إتُّخِذ بحكمة لا يُعلى عليها.

 

أما وقد أخذتنا الوقائع ، نسينا أن نذكر أن الضيوف جالوا في المنزل والحدائق التي تَلُفُّه وأُعجبوا بفن بنائه والذوق السليم الذي مَيَّز الشكل والمضمون ، وتفرجوا على الحدائق وعلى إسطبل الخيول وكان ما رأوه يفرح القلب لمن يسكنه . وبعد إنتهاء "ورد" من سرده لم يقل الملك شيئا إلا شكره لصدقه الظاهر فيما يقول. وانتقل الجمع إلى قاعة الطعام فطلب الملك أن يشارك مرافقوه فيه فأرسل "ورد"  أحد غلمانه يدعو المرافقين فجاؤوا وهم مندهشون من كل ما شاهدوا في المنزل والحدائق وما سمعوا من حور العيون. وكان العشاء من أفضل الأصناف وأطيبها فأكلوا وشربوا هنيئا مريئا ولما إنتهوا رجع الملك وعائلته والمضيفان إلى القاعة التي إجتمعوا فيها ليكملوا حديثهم وعاد المرافقون إلى حيث كانوا.

 

وهنا كان الملك والملكة والأميرة منبهرين بما سمعوا وجاء الوقت للحديث والتوضيح .لكن  الملك كان يميل إلى تأجيل الموضوع ليبحثه مع زوجته الملكة وإبنته الأميرة قبل الردّ على الرسالة الواضحة التي تلقوها. ولفطنته وذكائه وحكمته وفهمه للرسالة كما قيلت وما تختزن قرر تأجيل الإجتماع إلى وقت لاحق يحدده ويعلم المضيفان بزمان ومكان اللقاء القادم. ولم يكن "ورد" أقل فهما لما دفع الملك للتأجيل فالتفاوض، وهذا واقع ما يجري في اللقاءات هي بين عارفٍ بكل  شيء، قويٌ بما قال وما فعل، يُحَفِّز خطواته هيام "مازر" بالأميرة "ياسمين" ورغبته  إن لم نقل تصميمه أن يُحقّق "مازر" حلمه ويقترن بِمن أحب، وبين ملك لا حول له ولا طَول، يخاف أن يُغضب  "بن مُرَّة" برفض "ياسمين" الإقتران به وعندها "تنكسر الجرَّة" ويقع في مشكلة لا حَلَّ لها.

 

لا يغيب عن بال الملك "مرداح" أن عدم قبول الأميرة بالزواج قد لا تكون عواقبه وخيمة، فالأميرة قد توافق كما أن عدم موافقتها قد لا يوصل الجميع إلى عداء لا يريدونه وهو أيضا يعلم أن ملك الجن لا يمكن أن يكون عدائيا بشكل واضح لأن ابنه طبعا لا يريد ل"ياسمين" التعاسة في حياتها وهذا طريق كل المحبين فهم يبقون على حُبهم يعانون منه ولا يُذِلّون من يحبون. أي أن هناك نظرتان لكل منها دلائل وقد يتساويان .  الطريق الصحيح يجب أن ينتج عن تفكير عميق وحكمة متناهية ولهذا أجل القرار إلى ما بعد تشاوره مع الملكة والأميرة.

 

وهنا رأى الملك أن الوقت حان ليروا  "ورد" و" المحارب" كما هم لا كما يظهرون ، وطلبوا منهما أن يرجعا إلى ما هما عليه في واقعهما فلم يترددا.  إنما كان لورد كلام تحذير من رؤيتهم شكلا لم يروه سابقا وقد لا يعجبهم منظرهم ولكن الملك أكّد أن الصدق والحقيقة ضروريتان لإكمال المشوار وإن عدم إطلاعهم على هذه الحقيقة لن يُفضي إلى لقاءات أخرى وذكَّرهم بما سبق ورددا عن "الملك بن مُرّة" وسيدهما "الملك المذهب" من خُلق وصدق ومرؤة وهذا يتناقض مع التحذير الذي أتى "ورد" به.

 

وعليه رجعا فورا الى ما هما عليه من هيئة وكان ل"ورد" شكله كهيئة الناس البشر أما "المحارب" فقد ظهر بشكله مما صَدم العائلة بقُبح منظره ولكن لم يشغلهم هذا الأمر كثيرا وشكراهما على ما قاما به. الملك "مرداح" كان مرتاحا لما رأى عالما بأن لكل حي وظيفة والوظيفة تستدعي هيئة،  والهيئة التي ظهر "المحارب" بها تليق بالمهمة التي أوكلت إليه من سيده في حراسة الأميرة "ياسمين".

 

لم يبق على الطرفين سِرٌّ لم يبوحوا به وبالتالي أصبحت الظروف مهيأة للقاء يَليه حديث ، والحديث يليه ما يليه من أمور يحددها اللقاء المنتظر بين ملوك بشر وآخرون من الجِن.