لقاءات مصارحة بين ملك الجزيرة وملك الجن -- الجزء الاول من الفصل الثالث من القصة الاولى

عادت العائلة إلى القصر وكانوا وكأن على رؤوسهم الطير لدهشتهم مما رأووا وسمعوا وكان أن إقترحت الملكة "رونق" أن ينصرف كلٌّ إلى عمله المعتاد والتفكير فيما جرى وطُلب فُراداً قبل أن يتكلموا في موضوع بهذه الأهمية والجميع يعلم أن هذه المرّة الأولى التي تواجه العائلة فيها ما يتطلب هذا القدر من الإنتباه والمسؤولية  التي تتعدى العائلة إلى مجموع الشعب والجزيرة؛ القرار إذن أساسي ولا يجوز إتخاذه إلاّ بتفكير عميق.  وهكذا كان فالملك عاد إلى قاعة العرش ينظر في أمور المملكة وحاجات أهلها، والملكة وقد غابت عن واجباتها ليومين فقد تراكمت الأعمال ولم يكن بُدٌّ مما ليس منه بُدُّ  فانصرفت إلى إنجاز ما تأخر من أعمال.

 

 أما الأميرة فقد إعتلت صهوة جوادها  "أركان" المُهدى لها من "الملك المذهب" بواسطة "ورد" فطار بها في أرجاء الجزيرة المملكة  وكان "أركان" مطواعا لها وإن شعر بأن الفارسة التي تمتطيه لا تقل عن "ورد" والمعروف بالفروسية وبالتالي رَكَنَ الجواد إلى "ياسمين" وركنت هي  إليه فصارا في جولاتهما وكأنهما جسم واحد يتحركان معا ويَسْكُنان معاً.

 

وعادت الأميرة إلى القصر لتدير بعض ما تتولى من شؤون المملكة إنما لم تكن كعادتها مرتاحة إلى ما تقوم به وفي ذهنها ما سمعت في اليومين الأخيرين، وعلى وجه الخصوص ما عرفت من حراسة الجن لها منذ أن وُلدت،  و"مازر" وزياراته التي أنتجت ما أنتجت من حُبٍّ لها ورغبة في طلب يدها. أي أنها وَعَت أن ما جرى في اليومين الماضيين ليس إبن ساعته بل هو مخطط له منذ أن ولدتها أمها ولم تكن على علم ولا والديها عرفوا بما هو مخبأٌ لهم.

 

تناولت العائلة طعام الغداء متأخِّرا وتحدثوا كالعادة بما قاموا به من أعمال وأخبرتهم "ياسمين" عن الجواد "أركان" وكيف طار بها في أرجاء المملكة وكان مطواعا لها . والملكة قالت أيضا بأنها لم تتمكن من إرجاء تفكيرها بموضوع اليومين الأخيرين فقرروا أن يلتقوا مساء على إنفراد ليراجعوا الأمر ويتكلموا بكل حرية ليتوصلوا إلى قرار حكيم وطبعا "ياسمين" هي صاحبة الشأن والقرار الأخير يعود لها. وبما أن التشاور قد يحتاج إلى معلومات وتوضيحات من "ورد" فإنهم لم يستبعدوا إستدعاءه الليلة إلى القصر إذا إقتضت الظروف وإلا فإنهم سيضربون موعدا له و"المحارب" في اليوم التالي.

 

لا نستبعد ولا يستبعد الملك والأميرة أن تكون من قدرات "إبن مرة" أو من يُنِيبُه الإستماع إلى ما يقولون أو حتى معرفة ما يفكرون به قبل النطق. ولكن مجرد معرفتهم أو تصورهم لهذه القدرات يجعلهم أكثر ذكاءً فيما يقولون أو يفكرون.

 

"ورد" أيضاً تراوده أفكار مماثلة وتعرفه إلى العائلة زاده قناعة بقدراتهم الذهنية وذكاءهم وإنهم قد لا يستبعدوا قدرات الجان فيما يتعلق بسماعهم لما يقول البشر ومعرفة أفكارهم، وذلك عندما يريدون. فكانت هذه الفترة ، فترة الإستراحة، مفيدة للطرفين.

 

المهم أن الكل أخذوا الأمر بجدية تامّة والكل يعرف مدى  تأثير القرار على العلاقة بين الطرفين ولا أحد يريد أن يؤذي الآخر أو يعاديه. وكان أن أرسل الملك "مرداح" رسوله ل "ورد" و"المحارب" محددا بعد ظهر اليوم التالي للقاء للمصارحة وتوضيح كل ما خفِي من جوانب الكلام الذي قيل في امس الأول وذلك في قاعة  القصر الملكي التي ضمّت إجتماعهم الأول. وإلى أن يحين الموعد إنصرف الجميع إلى أعمالهم ربما،  هكذا قالوا،  ولكن من ما سمعت من القصة إياها  فلا راحة لأحد.

 

اللقاء الثالث

رحب الملك بضيوفه وعاجلهم بالقول أن القصة التي رُويت فيها الكثير من المفاجآت والأخبار الغريبة وتنقلنا في أكثرها إلى عوالم أخرى لم نعرف بوجودها وطبعا لم نكن لنعرف عنها ولا سمعنا بمثلها في الأساطير التي توارثنا. وإننا لا ننكرُ صحتها وقد شاهدنا بعض ما أراد لنا الجان أن نرى وسمعنا ما سمعنا عن العنقاء والرُخ وإن لم نرهم فإن ما حملوه من أثقال إلى الجزيرة وحده كافٍ لنقتنع بما قال "ورد".

 

أما وجود "المحارب" بيننا لما يقارب الربع قرن دون أن نشعر به وهو الذي أتى لحماية "ياسمين"’  وهي أيضا لم تشعر بوجوده،  ولكنه أدّى المهمة التي أوكلت له بأحسن ما يمكن. وكان بودِّنا أن نعرف بوجوده وسببه لأنه جاء لأمر يخصنا وحدنا.  إذ أن حماية الأميرة هي من واجباتنا نحن ولكن لا يسعنا إلاّ أن نشكره على ما قام به ونشكر سيده "الملك عبد الله المذهب" على إختياره وكذلك "ملك الجن الأعظم الحارث بن مُرّة" على إرساله، ولكننا نعجب من ذلك لأنه أرسله لحماية طفلة طول حياتها كي لا يصيبها شَرّ. على كل هذا ما حدث ووقع وفات الوقت لنسائله.

 

أمّا الأعمال التي قمتم بها فهي بنظرنا من عجائب الزمان والجوادان اللذين أهديتمونا أيضا يقعان في نفس المنزلة. وبعد أن سمعنا عن الخيل وأنسابها وأرسانها دُهشنا لمدى عنايتكم بها والإعتزاز بتملكها ورعايتها وكأنها جزء من العائلة. ونشكركم مرة ثانية على هذه الهدية التي لا تُقَيَّم بمال.

 

أمّا طلب يد إبنتنا لأبن ملك الجن الأعظم فهذا شرف لنا ولأبنتنا وإننا نترك لها، كما هي العادة عندنا، أن تقرر مستقبلها وبالتالي زواجها. ومن الطبيعي أيضا أن نذكر أننا لا نعرف عن "مازر" إلا أنه إبن "الحلرث بن مرة" وولي عهده ولا نظن أن هذا يكفي لأن تأخذ "ياسمين"موقفا منه. فالتعرف عليه وعلى والديه شرفٌ نرجوه قبل أن نبحث في طلب يد إبنتنا. وإننا نُرحِّب بالملك "الحارث بن مرة" وولده الأمير "مازر" ووالدته ضيوفا علينا نُكرِّمهم ونتعارف وإياهم في جزيرة الياسمين ونكون بخدمتهم ما أقاموا،  وتكون هذه الزيارة مناسبة لتتعرف "ياسمين" عليهم وعلى "مازر" وعندما يتم التعارف،  تكون للرأي قيمة وفي القرار حكمة. فإذا ما تيسّر الأمر وتم قبول "ياسمين" ب"مازر" خاطباً  تسير بعدها الأمور كما تقتضي التقاليد والعادات ويُزَفّان باحتفال لم يشهده أحد قبله.

 

وطلب "ورد" الإذن بالكلام وإذن الملك له فقال إنه لم يتخَيَّل يوماً أن يلتقي بَشرٍ بهذه الحكمة وإنه لم يرى في الجان مثلهم إلا بمن سيلتقون.  وقال إن "القدرة العظمى " التي يؤمنون بها لا بد وقضت أن يعم السرور أرجاء الأرض لأن مثل ما جرى لا يصير إلا لإسعاد البشر والجن أيضاً.

 

وكان سرور "ورد" و"الأمير المحارب" بادياً على وجهيهما فرحبأ بالإقتراح ووعدا بنقله إلى سيدهما ليقوم باللازم لتحضير اللقاء. وانفضّت الجلسة على أن تنعقد حالما ترد الإجابة . ولم تتأخر الرسائل ولا الإجابة على دعوة الملك "مرداح"،  وحالما إستلمها "ورد" إتصل بالملك "مرداح" وطلب موعدا للقاء للإطلاع على فحوى الرسالة.