حكاية تتعلق بالطيور

وفي الليلة السابعة والسبعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان طاووس يأوي إلى جانب البحر مع زوجته وكان ذلك الموضع كثير السباع وفيه من الوحوش، غير أنه كثير الأشجار والأنهار وذلك الطاووس هو وزوجته يأويان إلى شجرة من تلك الأشجار ليلاً من خوفهما من الوحوش ويغدوان في طلب الرزق نهاراً ولم يزالا كذلك حتى كثر خوفهما فسارا يبغيان موضعاً غير موضعهما يأويان إليه.

 

فبينما هما يفتشان على موضع لإذ ظهرت لهم جزيرة كثيرة الأشجار والأنهار فنزلا في تلك الجزيرة وأكلا من ثمارها وشربا من أنهارها فبينما هما كذلك وإذا ببطة أقبلت عليهما وهي في شدة الفزع، ولم تزل تسعى حتى أتت إلى الشجرة التي عليها الطاووس هو وزوجته فاطمأنت فلم يشك الطاووس في أن تلك البطة لها حكاية عجيبة فسألها عن حالها وعن سبب خوفها فقالت: إنني مريضة من الحزن وخوفي من ابن آدم فالحذر، ثم الحذر من بني آدم فقال لها الطاووس: لا تخافي حيث وصلت إلينا فقالت البطة: الحمد لله الذي فرج عني همي وغمي بقربكما وقد أتيت راغبة في مودتكما.

 

فلما فرغت من كلامهما نزلت إليها زوجة الطاووس وقالت لها: أهلاً وسهلاً ومرحباً لا بأس عليك ومن أين يصل إلينا ابن آدم ونحن في تلك الجزيرة التي في وسط البحر؟ فمن البر لا يقدر أن يصل إلينا، ومن البحر لا يمكن أن يطلع علينا فابشري وحدثينا بالذي نزل بك واعتراك من بني آدم، فقالت البطة: اعلمي أيتها الطاووسة أني في هذه الجزيرة طول عمري آمنة لا أرى مكروهاً فنمت ليلة من الليالي فرأيت في منامي صورة ابن آدم وهو يخاطبني وأخاطبه وسمعت قائلاً يقول: أيتها البطة احذري من ابن آدم ولا تغتري بكلامه ولا بما يداخله عليك فإنه كثير الحيل والخداع فالحذر الحذر من مكره فإنه مخادع ماكر كما قال الشاعر:

 

يعطيك من طرف اللسان حلاوة

 

ويروغ منك كما يروغ الثعلب

 

واعلمي أن ابن آدم يحتال على الحيتان فيخرجها من البحار ويرمي الطير ببندقة من طين ويوقع الفيل بمكره وابن آدم لا يسلم أحد من شره ولا ينجو منه طير ولا وحش وقد بلغتك ما سمعته عن ابن آدم فاستيقظت من منامي خائفة مرعوبة وأنا إلى الآن ما انشرح صدري خوفاً على نفسي من ابن آدم لئلا يدهمني بحيلته ويصيدني بحبائله ولم يأت على آخر النهار إلا وقد ضعفت قوتي وبطلت همتي ثم غني اشتقت إلى الأكل والشرب فخرجت أتمشى وخاطري مكدر وقلبي مقبوض فلما وصلت إلى ذلك الجبل وجدت على باب المغارة شبلاً أصفر اللون، قلما رآني ذلك الشبل فرح بي فرحاً شديداً وأعجبه لوني وكوني لطيفة الذات فصاح علي وقال لي: اقربي مني، فلما قربت منه قال لي: ما اسمك وما جنسك؟ فقلت له: اسمي بطة وأنا من جنس الطيور، ثم قالت له: ما سبب قعودك إلى هذا الوقت في هذا المكان؟ فقال الشبل: سبب ذلك أن والدي الأسد له أيام وهو يحذرني من ابن آدم فاتفق أنني رأيت في هذه الليلة في منامي صورة ابن آدم ثم إن الشبل حكى لي نظير ما حكيت لك فلما سمعت كلامه قلت له: يا أسد لإني قد لجأت إليك في أن تقتل ابن آدم وتجزم رأيك في قتله فإني أخاف على نفسي منه خوفاً شديداً وازددت خوفاً على خوفي من خوفك من ابن آدم مع أنك سلطان الوحوش وما زلت يا أختي أحذر الشبل من ابن آدم وأوصيته بقتله حتى قام من وقته وساعته من المكان الذي كان فيه، وتمشى وتمشيت وراءه، ففرقع بذنبه على ظهره ولم يزل يمشي وأنا أمشي وراءه إلى مرق الطريق فوجدنا غبرة طارت وبعد ذلك انكشفت الغبرة فبان من تحتها حمار شارد عريان وهو تارة يقمص ويجري وتارة يتمرغ فلما رآه الأسد صاح عليه فأتى إليه خاضعاً.

 

فقال له: أيها الحيوان الخريف العقل ما جنسك وما سبب قدومك إلى هذا المكان؟ فقال: يا ابن السلطان أنا جنسي حمار وسبب قدومي إلى هذا المكان هروبي من ابن آدم فقال له الشبل: وهل أنت خائف من ابن آدم أن يقتلك؟ فقال الحمار: لا يا ابن السلكان وإنما خوفي أن يعمل حيلة علي ويركبني لأن عنده شيئاً يسميه البردعة فيجعلها على ظهري وشيئاً يسميه الحزام، فيشده على بطني وشيئاً يسميه الطفر فيجعله تحت ذنبي وشيئاً يسميه اللجام فيجعله في فمي ويحمل منخاساً ينخسني به ويكلفني ما لا أطيق من الجري وإذا عثرت لعنني وإذا نهقت شتمني وبعد ذلك إذا كبرت ولم أقدر على الجري يجعل لي رجلاً من الخشب ويسلمني إلى السقائين فيحملون الماء على ظهري من البحر في القرب ونحوها كالجرار ولا أزال في ذل وهوان وتعب حتى أموت فيرموني فوق التلال للكلاب فأي شيء أكبر من هذا الهم، وأي مصيبة أكبر من هذه المصائب؟ فلما سمعت أيتها الطاووسة كلام الحمار اقشعر جسدي من ابن آدم وقلت للشبل: يا سيدي إن الحمار معذور وقد زادني كلامه رعباً على رعبي، فقال الشبل للحمار: إلى أين أنت سائر؟ فقال له الحمار: إني نظرت ابن آدم قبل إشراق الشمس من بعيد ففرت هرباً منه، وها أنا أريد أنطلق ولم أزل أجري من مدة خوفي منه فعسى أن أجد لي موضعاً يأويني من ابن آدم الغدار فبينما ذلك الحمار يتحدث مع الشبل ذلك الكلام وهو يريد أن يودعنا ويروح إذ ظهرت لنا غبرة فنهق الحمار ونظر بعينيه إلى ناحية الغبرة وضرط ضراطاً عالية وبعد ساعة انكشفت الغبرة عن فرس أدهم بغرة كالدرهم وذلك الفرس ظريف الغرة مليح التحجيم حسن القوائم والصهيل ولم يزل يجري حتى وقف بين يدي الشبل ابن الأسد. فلما رآه الشبل استعظمه وقال له: ما جنسك أيها الوحش الجليل وما سبب شرودك في هذا البر العريض الطويل؟ فقال: يا سيد الوحوش أنا فرس من جنس الخيل وسبب شرودي هروبي من ابن آدم فتعجب الشبل من كلام الفرس وقال: لا تقل هذا الكلام فإنه عيب عليك وأنت طويل غليظ وكيف تخاف ابن آدم مع عظم جثتك وسرع جريك؟ وأنا مع صغر جسمي قد عزمت على أن ألتقي مع ابن آدم فأبطش به، وآكل لحمه وأسكن روع هذه البطة المسكينة وأقرها في وطنها وها أنت لما أتيت في هذه الساعة قطعت قلبي بكلامك وأرجعتني عما أردت أن أفعله فإذا كنت أنت مع عظمك قد قهرك ابن آدم ولم يخف من طولك وعرضك مع أنك لو رفسته برجلك لقتلته ولم يقدر عليك بل تسقيه كأس الردى. فضحك الفرس لما سمع كلام الشبل وقال: هيهات أن أغلبه يا ابن الملك فلا يغرك طولي ولا عرضي ولا ضخامتي مع ابن آدم، لأنه من شدة حيله ومكره يصنع لي شيئاً يقال له: الشكال ويضع في أربعة من قوائمي شكالين من حبال الليف الملفوفة باللباد ويصلبني من رأسي في وتد عال وأبقى واقفاً وأنا مصلوب لا أقدر أن أقعد ولا أنام وإذا أراد أن يركبني يعمل لي شيئاً في رجلي من الحديد السمه الركاب ويضع على ظهري شيئاً اسمه السرج، ويشده بحزامين من تحت إبطي ويضع في فمي شيئاً من الحديد يسميه اللجام ويضع فيه شيئاً من الجلد يسميه السرج فإذا ركب فوق ظهري على السرج يمسك السرج بيده ويقودني ويهمزني بالركاب في خواصري حتى يدميها ولا تسأل يا ابن السلطان فيما أقاسيه من ابن آدم، فإذا كبرت وانتحل ظهري ولم أقدر على سرعة الجري يبيعني للطحان ليدورني في الطاحون فلا أزل دائراً فيها ليلاً ونهاراً إلى أن أهرم فيبيعني للجزار فيذبحني ويسلخ جلدي وينتف ذنبي ويبيعها للغرابلي ولمناخلي ويسلي شحمي فلما سمع الشبل كلام الفرس ازداد غيظاً وغماً وقال له: متى فارقت ابن آدم؟ قال: فارقته نصف النهار وهو في أثري.

 

فبينما الشبل يتحدث مع الفرس في هذا الكلام وإذا بغبرة ثارت وبعد ذلك انكشفت الغبرة وبان من تحتها جمل هائج وهو يبعبع ويخبط برجليه في الأرض ولم يزل يفعل كذلك حتى وصل إلينا، فلما رآه الشبل كبيراً غليظاً ظن أنه ابن آدم فأراد الوثوب عليه فقلت له: يا ابن السلطان هذا ما هو ابن آدم وإنما هو جمل وكأنه هارب من ابن آدم.

 

فبينما أنا يا أختي مع الشبل في هذا الكلام وإذا بالجمل تقدم بين أيادي الشبل وسلم عليه فرد السلام وقال له: ما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟ قال: جئت هارباً من ابن آدم، فقال له الشبل: وأنت مع عظم خلقتك وطولك عرضك كيف تخاف من ابن آدم ولو رفسته برجلك رفسة لقتلته فقال له: الجمل: يا ابن السلطان اعلم أن ابن آدم له دواهي لا تطاق وما يغلبه إلا الموت لأنه يضع في رأسي مقوداً ويسلمني إلى أصغر أولاده فيجرني الولد الصغير بالخيط مع كبري وعظمي ويحملونني أثقل الأحمال ويسافرون بي الأسفار الطوال ويستعملونني في الأشغال الشاقة إناء الليل وأطراف النهار، وإذا كبرت وشخت وانكسرت فلم يحفظ صحبتي بل يبيعني للجزار فيذبحني ويبيع جلدي للدباغين ولحمي للطباخين ولا تسأل عما أقاسي من ابن آدم ،فقال له الشبل: أي وقت فارقت ابن آدم؟ فقال له الشبل: فارقته رقت الغروب وأظنه يأتس عند انصرافي فلم يجدني فيسعى في طلبي فدعني يا ابن السلطان حتى أهيج في البراري والقفار، فقال الشبل: تمهل قليلاً يا جمل حتى تنظر كيف أفترسه وأطعمك من لحمه وأهشم عظمه وأشرب من دمه، فقال له الجمل: يا ابن السلطان أنا خائف عليك منه فإنه مخادع ماكر ثم انشد قول الشاعر:

 

إذا حل الثقيل بأرض قـوم

 

فما للساكنين سوى الرحيل

 

فبينما الجمل يتحدث مع الشبل في هذا الكلام وإذا بغبرة طلعت وبعد ساعة انكشفت عن شيخ قصير رقيق البشرة على كتفه مقطف فيه عدة نجار وعلى رأسه شعبة وثمانية ألواح وبيده أطفال صغار وهو يهرول في مشيه وما زال يمشي حتى قرب من الشبل فلما رأيته يا أختي وقعت من شدة الخوف واما الشبل فإنه قام وتمشى إليه ولاقاه، فلما وصل إليه ضحك النجار في وجهه وقال بلسان فصيح: أيها الملك الجليل صاحب الباع الطويل أسعد الله مساءك ومسعاك وزاد في شجاعتك وقواك أجرني مما دهاني وبشره رماني لأني ما وجدت لي نصيراً غيرك ثم إن النجار وقف بين يدي الأسد وبكى وأنّ واشتكى. فلما سمع الشبل بكاءه وشكواه قال له: أجرتك مما تخشاه فمن الذي ظلمك وما تكون أيها الوحش الذي ما رأيت عمري مثلك ولا أحسن صورة وأفصح لساناً منك فما شانك؟ فقال له النجار: يا سيد الوحوش أما أنا فنجار وأما الذي ظلمني فإنه ابن آدم وفي صباح هذه الليلة يكون عندك في هذا المكان، فلما سمع الشبل من النجار هذا الكلام تبدل الضياء في وجهه بالظلام وشخر ونخر ورمت عيناه بالشرر وصاح وقال: والله لأسهرن في هذه الليل إلى الصباح ولا أرجع إلى والدي حتى أبلغ مقصدي ثم إن الشبل التفت إلى النجار وقال له: أرى خطواتك قصيرة ولا أقدر أن اكسر بأطرك لأني ذو مروءة أظن أنك لا تقدر أن تماشي الوحوش فأخبرني إلى أين تذهب، فقال له النجار: اعلم أني رائح إلى وزير والدك الفهد لأنه لما بلغه أن ابن آدم داس هذه الأرض خاف على نفسه خوفاً عظيماً وأرسل إلي رسولاً من الوحوش لأصنع له بيتاً يسكن فيه ويأوي إليه يمنع عنه عدوه حتى لا يصل إليه أحد من بني آدم فلما جاءني الرسول أخذت هذه الألواح وتوجهت إليه فلما سمع الشبل كلام النجار أخذه الحسد للفهد فقال له: بحياتي لا بد أن تصنع لي هذه الألواح بيتاً قبل أن تصنع للفهد بيته وإذا فرغت من شغلي فامض إلى الفهد واصنع له ما يريد، فلما سمع النجار من الشبل هذا الكلام قال له: يا سيد الوحوش ما أقدر أن أصنع لك شيئاً إلا إذا صنعت للفهد ما يريد ثم أجئ إلى خدمتك وأصنع لك بيتاً يحصنك من عدوك فقال له الشبل: والله ما أخليك تروح من هذا المكان حتى تصنع لي هذه الألواح بيتاً ثم أن الشبل هم على النجار، ووثب وأراد أن يمزح معه فلطشه بيده فرمى المقطف من على كتفه ووقع النجار مغشياً عليه فضحك الشبل عليه وقال له: ويلك يا نجار إنك ضعيف وما لك قوة فانت معذور إذا خفت من ابن آدم.

 

فلما وقع النجار على ظهره اغتاظ غيظاً شديداً ولكنه كتم ذلك عن الشبل من خوفه منه ثم قعد النجار في وجه الشبل وقال له: ها أنا أصنع لك البيت، ثم إن النجار تناول الألواح التي كانت معه وسمر البيت، وجعله مثل القالب قياس الشبل وخلى بابه مفتوحاً لأنه جعله على صورة صندوق وفتح له طاقة كبيرة وجعل له غطاء وثقب ثقباً كثيراً وأخرج منها مسامير مطرفة وقال للشبل: أدخل في هذا البيت من هذه الطاقة لأقبيه عليك ففرح الشبل بذلك واتى تلك الطاقة فرآها ضيقة فقال له النجار: ادخل وابرك على يديك ورجليك ففعل الشبل ذلك ودخل الصندوق وبقي ذنبه خارجاً، ثم أراد الشبل أن يتأخر إلى ورائه ويخرج، فقال له النجار: أمهل حتى أنظر هل يسع ذنبك معك أم لا فامتثل الشبل أمره ثم إن النجار لف ذنب الشبل وحشاه في الصندوق ورد اللوح على الطاقة سريعاً وسمره فصاح الشبل قائلاً: يا نجار ما هذا البيت الضيق الذي صنعته لي دعني أخرج منه فقال له النجار: هيهات لا ينفع الندم على ما فات إنك لا تخرج من هذا المكان ثم ضحك النجار وقال للشبل: إنك وقعت في القفص وكنت أخبث الوحوش فقال له: يا أخي ما هذا الخطاب الذي تخاطبني به؟ فقال له النجار: اعلم يا كلب البر أنك وقعت فيما كنت تخاف منه وقد رماك القدر ولم ينفعك الحذر.

 

فلما سمع الشبل كلامه يا أختي علم أنه ابن آدم الذي حذره منه أبوه في اليقظة والهاتف في المنام وتحققت أنه هو بلا شك ولا ريب فخفت منه على نفسي خوفاً عظيماً وبعدت عنه قليلاً وصرت أنتظر ماذا يفعل بالشبل فرأيت يا أختي ابن آدم حفر حفرة في هذا المكان بالقرب من الصندوق الذي فيه الشبل ورماه في تلك الحفرة وألقى عليه الحطب وأحرقه بالنار فكبر يا أختي خوفي ولي يومان هاربة من ابن آدم وخائفة منه فلما سمعت الطاووسة من البطة هذا الكلام.

  

أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الثامنة والسبعين بعد المئة قالت بلغني أيها الملك السعيد أن الطاووسة لما سمعت من البطة هذا الكلام تعجبت منه غاية العجب وقالت: يا أختي إنك أمنت من بني آدم لأننا في جزيرة من جزائر البحر وليس لابن آدم فيها مسلك فاختاري المقام عندنا إلى أن يسهالله أمرك وأمرنا، قالت: أخاف أن يطرقني طارق والقضاء لا ينفعك عنه آبق، فقالت اقعدي عندنا وأنت مثلنا ولا زالت بها حتى قعدت وقالت: يا أختي أنت تعلمين قلة صبري ولولا أني رأيتك هنا ما كنت قعدت فقالت الطاووسة: إن كان جبيننا شيء نستوفاه وإن كان أجلنا فمن يخلصنا ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها فبينما هما في هذا الكلام إذ طلعت عليهما غبرة فعند ذلك صاحت البطة ونزلت البحر وقالت: الحذر والحذر وإن لم يكن مفر من القدر وكانت الغبرة عظيمة فلما انكشفت الغبرة ظهر من تحتها ظبي فاطمأنت البطة ولطاووسه، ثم قالت البطة: يا أختي إن الذي تفزعين منه ظبي وها هو قد أقبل نحونا فليس علينا منه بأس لأن الظبي إنما يأكل الحشائش من نبات الأرض وكما أنت من جنس الطير هو الآخر من جنس الوحوش فاطمئني ولا تهتمي فإن الهم ينحل البدن فلم تتم الطاووسة كلامها حتى وصل الظبي إليها يستظل تحت الشجرة، فلما رأى البطة ولطاووسه سلم عليهما وقال لهما: إني دخلت هذه الجزيرة اليوم فلم أر أكثر منها خصباً ولا أحسن منها مسكناً ثم دعاهما لمرافقته ومضافاته، فلما رأت البطة ولطاووسه تودده إليهما أقبلتا عليه ورغبتا في عشرته وتحالفوا على ذلك وصار مبيتهم واحد ومأكلهم سواء ولم يزالوا آمنين آكلين شاربين حتى مرت بهم سفينة كانت تائهة في البحر فأرست قريباً منهم فطلع الناس وتفرقوا في الجزيرة فرأوا الظبي ولطاووسه والبطة مجتمعين فأقبلوا عليهم فشرد الظبي في البرية وطارت الطاووسة وبقيت البطة مخبلة ولم يزالوا بها حتى صادوها وصاحت قائلة: لم ينفعني الحذر من القضاء والقدر وانصرفوا بها إلى سفينتهم.

 

فلما رأت الطاووسة ما جرى للبطة ارتحلت من الجزيرة وقالت: لا أرى الافاق الأمر أصدر لكل أحد ولولا هذه السفينة ما حصل بيني وبين هذه البطة افتراق ولقد كانت من خيار الأصدقاء، ثم طارت الطاووسة واجتمعت بالظبي فسلم عليها وهنأها بالسلامة وسألها عن

 

البطة فقالت له: قد أخذها العدو وكرهت المقام في تلك الجزيرة بعدها، ثم بكت على فراق البطة وأنشدت تقول:

 

إن يوم الفراق قطع قلبي

 

قطع الله قلب يوم الفراق

 

وأنشدت أيضاً:

 

تمنيت الوصال يعود يوماً

 

لأخبره بما صنع الفراق

فاغتم الظبي غماً شديداً، ثم رد عزم الطاووسة عن الرحيل فأقام معها في تلك الجزيرة آمنين آكلين شاربين غير أنهما لم يزالا حزينين على فراق البطة فقال الظبي الطاووسة: يا أختي قد علمت أنا لناس الذين طلعوا لنا من المركب كانوا سبب فراقنا ولهلاك البطة فاحذريهم واحترسي منهم ومن مكر ابن آدم وخداعه، قالت: قد علمت يقيناً أن ما قتلها غير تركها التسبيح، ولقد قلت لها: إني أخاف عليك من تركك التسبيح لأن كل ما خلقه الله يسبحه فإن غفل عن التسبيح عوقب بهلاكه.

 

فلما سمع الظبي كلام الطاووسة قال: أحسن الله صورتك وأقبل على التسبيح لا يفتر عنه ساعة وقد قيل أن الظبي يقول في تسبيحه: سبحان الملك الديان ذي الجبروت والسلطان وورد أن بعض العباد كان يتعبد في الجبال وكان ما كان يأوي إلى ذلك الجبل زوج من الحما وكان ذلك العابد قسم قوته نصفين.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة التاسعة والسبعين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العابد قسم قوته إلى نصفين وجعل نصفه لنفسه ونصفه لذلك الزوج الحمام ودعا العابد لهما بكثرة النسل فكثر نسلهما ولم يكن الحمام يأوي إلى غير الجبل الذي فيه العابد وكان السبب في اجتماع الحمام بالعابد كثرة تسبيح الحمام وقيل أن الحمام يقول في تسبيحه: سبحان خالق الخلق وقاسم الرزق وباني السموات وباسط الأرضين، ولم يزل ذلك الزوج الحمام في أرغد عيش هو ونسله حتى مات ذلك العابد فتشتت شمل الحمام وتفرق في المدن والقرى والجبال.

 

وقيل: أنه كان في بعض الجبال رجل من الرعاة صاحب دين وعقل وعفة وكان له غنم يرعاها وينتفع بألبانها وأصوافها وكان ذلك الجبل الذي يأوي إليه الراعي كثير الأشجار والمرعى والسباع ولم يكن لتلك الوحوش قدرة على الراعي ولا على غنمه ولم يزل مقيماً في الجبل مطمئناً لا يهمه شيء من أمر الدنيا لسعادته وإقباله على عبادته فاتفق أنه مرض مرضاً شديداً، فدخل كهفاً في الجبل وصارت الغنم تخرج بالنهار إلى مرعاها وتأوي بالليل إلى الكهف فأراد الله أن يمتحن ذلك الراعي ويختبره في طاعته وصبره فبعث إليه ملكاً فدخل عليه في صورة امرأة حسناء وجلس بين يديه، فلما رأى الراعي تلك المرأة جالسة عنده اقشعر بدنه منها فقال لها: أيتها المرأة ما الذي دعاك إلى المجيء هنا وليس لك حاجة معي، ولا بيني وبينك ما يوجب دخولك علي، فقالت له المرأة: أيها الرجل الإنسان اما ترى حسني وجمالي وطيب رائحتي؟ أما تعلم حاجة الرجال إلى النساء فما الذي يمنعك مني؟ فقال الراعي: إن الذي تقولينه كرهته وجميع ما تبدينه زهدته لأنك خداعة غدارة لا عهد لك ولا وفاء، فككم من قبيح تحت حسنك أخفيته؟ وكم صالح فتنته وكانت عاقبته إلى الندامة والحزن فارجعي عني أيتها المصلحة نفسها لفساد غيرها ثم ألقى عباءته على وجهه حتى لا يرى وجهها واشتغل بذكر ربه.

 

فلما رأى الملك حسن طاعته، خرج وعرج إلى السماء وكان بالقرب من الراعي قرية فيها رجل من الصالحين لم يعلم بمكانه فرأى في منامه كأن قائلاً يقول له بالقرب منك في مكان كذا وكذا رجل صالح فاذهب إليه وكن تحت طاعة امره، فلما اصبح الصباح توجه نحوه سائراً فلما اشتد عليه الحر انتهى إلى شجرة عندها عين جارية فجلس في ظل الشجرة ليستريح، فبينما هو جالس وإذا بوحوش وطيور أتوا إلى تلك العين ليشربوا منها، فلما رأوا العابد جالساً نفروا ورجعوا شاردين فقال العابد في نفسه: أنا ما استرحت هنا إلا لتعب هذه الوحوش والطيور، ثم قام وقال معاتباً لنفسه: لقد أضر بهذه الحيوانات في هذا اليوم جلوسي في هذا المكان فما عذري عند خالقي وخالق هذه الطيور والوحوش فإني كنت سبباً لشرودهم عن مائهم ومرعاهم فواخجلتي من ربي يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرفاء ثم أفاض من جفنه العبرات وأنشد هذه الأبيات:

 

أما والله لو علـم الأنـام

 

لم خلقوا لا غفلوا وناموا

فموت ثم بعث ثم حشـر

 

وتوبيخ وأهوال عظـام

ونحن إذا نهينا أوامرنـا

 

كاهل الكهف أكثرنا نيام

 

ثم بكى على جلوسه تحت الشجرة عند العين ومنعه الطيور والوحوش من شربها وولى هائماً على وجهه حتى أتى الراعي فدخل عنده وسلم عليه فرد عليه السلام وعانقه وبمي ثم قال له الراعي: ما الذي أقدمك إلى هذا المكان الذي لم يدخله أحد من الناس علي؟ فقال العابد: إني رأيت في منامي من يصف لي مكانك ويأمرني بالسير إليك والسلام عليك وقد أتيتك ممتثلاً لما أمرت به، فقبله الراعي وطابت نفسه بصحبته وجلس معه في الجبل يعبدان الله تعالى في ذلك الغار وحسنت عبادتهما، ولم يزالا في ذلك المكان يعبدان ربهما ويتقوتان من لحوم الغنم وألبانها متجردين عن المال والبنين إلى أن أتاهما اليقين وهذا آخر حديثهما. قال الملك: لقد زهدتني يا شهرزاد في ملكي وندمتني على ما فرط مني في قتل النساء والبنات فهل عندك شيء من حديث الطيور؟ قالت: نعم زعموا أيها الملك أن طيراً طار وعلا إلى الجو ثم انقض على صخرة في وسط الماء وكان الماء جارياً، فبينما الطائر واقف على الصخرة وإذا برمة إنسان جرها الماء حتى أسندها إلى الصخرة ووقفت تلك الجيفة في جانب الصخرة وارتفعت لانتفاخها فدنا الطير وتأملها فرآها رمة ابن آدم وظهر له فيها ضرب السيف وطعن الرماح فقال في نفسه: إن هذا المقتول كان شريراً فاجتمع عليه جماعة وقتلوه واستراحوا منه ومن شره، ولم يزل طير الماء يكثر التعجب من تلك الرمة حتى رأى نسوراً وعقباناً أحاطوا بتلك الجيفة من جميع جوانبها، فلما رأى طير الماء جزه جزعاً شديداً وقال: لا صبر لي على الإقامة في هذا المكان، ثم طار منه يفتش على موضع يأويه إلى حين نفاذ تلك الجيفة وزوال سباع الطير عنها ولم يزل طائراً حتى وجد نهراً في وسطه شجرة، فنزل عليها كئيباً حزيناً على بعده عن وطنه وقال في نفسه: لم تزل الأحزان تتبعني وكنت قد استرحت لما رأيت تلك الجيفة وفرحت بها فرحاً شديداً وقلت: هذا رزق ساقه الله إلي فصار فرحي غماً وسروري حزناً وهماً وافترستها سباع الطير مني وحال بينها وبيني فكيف أرجو أن أكون سالماً في هذه الدنيا وأطمئن إليها، وقد قيل في المثل: الدنيا دار من لا دار له يغتر بها من لا عقل له ويطمئن بماله وولده وقومه وعشيرته ولم يزل المغتر بها راكناً إليها يختال فوق الأرض حتى يصير تحتها ويجثوا عليه التراب لتراب أعز الناس عليه وأقربهم إليه وما للفتى خير من الصبر على مكارهها وقد فارقت مكاني ووطني وكنت كارهاً لفرقة أخواني وأصحابي.

 

فبينما هو في فكرته وإذا بذكر من السلاحف أقبل منحدر في الماء ودنا من طير الماء وسلم عليه وقال: يا سيدي ما الذي أبعدك عن موضعك؟ قال: حلول الأعداء فيه ولا صبر للعاقل على مجاورة عدوه، وما أحسن قول بعض الشعراء:

 

إذا حل الثقيل بأرض قـوم

 

فما للساكنين سوى الرحيل

 

فقال له السلحف: إذا كان الأمر كما وصفته والحال مثل ما ذكرته فأنا لا أزال بين يديك ولا أفارقك لأقضي حاجتك وأوفي بخدمتك، فإنه يقال لا وحشة أشد من وحشة الغريب المنقطع عن أهله ووطنه، وقد قيل إن فرقة الصالحين لا يعد لها شيء من المصائب ومما يسمى العاقل نفسه الاستئناس في الغربة والصبر على الزرية والكربة وأرجو أن تجمد صحبتي لك وأكون لك خادماً ومعيناً.

 

فلما سمع طير الماء مقالة السلحف قال له: لقد صدقت في قولك ولعمري إني وجدت للفراق ألماً وهماً مدة بعدي عن مكاني وفراقي لأخواني وخلاني لأن فيه الفراق عبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر وإذا لم يجد الفتى من يسليه من الأصحاب ينقطع عنه الخير ويثبت له الشر سرمداً، وليس للعاقل إلا التسلي بالأخوان عن الهموم في جميع الأحوال وملازمة الصبر والتجلد فإنهما خصلتان محمودتان يعينان نوائب الدهر ويدفعان الفزع والجزع من كل أمر.

 

فقال له السلحف: إياك والجزع فإنه يفسد عليك عيشك ويذهب مروءتك وزالا يتحدثان مع بعضهما إلى أنقال طير الماء للسلحف: أنا لم أزل أخشى نوائب الزمان وطوارق الحدثان، فلما سمع السلحف مقالة طير الماء أقبل عليه وقبله بين عينيه وقال له: لم تزل جماعة الطير تعرف مشورتك الخير فكيف تحمل الهم والضير. ولم يسكن روع طير الماء حتى اطمأن، ثم إن طير الماء طار إلى مكان الجيفة فلما وصل إليه لم ير من سباع الطير شيئاً ولا من تلك الجيفة إلا عظماً فرجع يخبر السلحف بزوال العدو من مكانه فلما وصل إلى السلحف أخبره بما رأى وقال: إني أحب الرجوع إلى مكاني وأتملى بخلاني لأنه لا صبر للعاقل عن وطنه فذهب معه إلى ذلك المكان فلم يجد شيئاً مما يخاف منه فصار طير الماء قرير العين وأنشد هذين البيتين:

 

ولرب نازلة يضيق لها الفتى

 

ذرعاً وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها

 

فرجت وكنت أظنها لا تفرج

 

ثم سكنا الجزيرة، فبينما طير الماء في أمن وسرور وفرح وحبور إذ ساق إليه بازاً جائعاً فضربه بمخلبه ضربة فقتله ولم يغن العنه الحذر عند فراغ الأجل وسبب قتله غفلته عن التسبيح، قيل انه كان يقول في تسبيحه: سبحان ربنا فيما قدر ودبر، سبحان ربنا فيما أغنى وأفقر، هذا ما كان ما كان من حديث الطير، فقال الملك: لقد زدتني بحكايتك مواعظ واعتبار فهل عند شيء من حكايات الوحوش؟ حكاية الثعلب مع الذئب وابن آوى فقالت: اعلم ايها الملك أن ثعلباً وذئباً ألفا وكراً فكانا يأويان إليه مع بعضهما فلبثا على ذلك مدة من الزمان وكان الذئب للثعلب قاهر، فاتفق أن الثعلب أشار على الذئب بالرفق وترك الفساد وقال له: إن دمت على عتوك ربما سلط الله عليك ابن آدم فإنه ذو حيل ومكر وخداع يصيد الطير من الجو والحوت من البحر ويقطع الجبال وينقلها وكل ذلك من حيله، فعليك بالإنصاف وترك الشر والاعتساف فإنه أهنأ لطعامك، فلم يقبل الذئب قوله وأغلظ له الرد وقال له: لا علاقة لك بالكلام في عظيم الأمور وجسيمها ثم لطم الثعلب لطمة فخر منها مغشياً عليه.

 

فلما أفاق تبسم في وجه الذئب واعتذر إليه من الكلام الشين وأنشد هذين البيتين:

 

إذا كنت قد أذنبت ذنباً سالـفـاً

 

في حبكم وأتيت شيئاً منكـرا

أنا تائب عما جنيت وعفوكـم

 

يسع المسيء إذا أتى مستغفرا

 

فقبل الذئب اعتذاره كف عنه أشراره وقال له: لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الذئب قال للثعلب: لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك فقال له الثعلب: سمعاً وطاعة فأنا بمعزل عما فقد قال الحكيم: لا تخبر عما لا تسأل عنه أو لا تجب إلى ما لا تدعى إليه وذر الذي لا يعنيك إلى ما لا يعنيك ولا تبذل النصيحة للأشرار فإنهم يجزونك عليها شراً، فلما سمع الذئب كلام الثعلب تبسم في وجهه ولكنه أضمر له مكراً وقال: لا بد أن أسعى في هلاك هذا الثعلب.

 

و أما الثعلب فإنه صبر على أذى الذئب وقال في نفسه: إن البطر والافتراء يجلبان الهلاك ويوقعان في الارتباك، فقد قيل: من بطر خسر، ومن جهل ندم، ومن خاف سلم، والإنصاف من شيم الأشراف والآداب أشرف الاكتساب ومن الرأي مداراة هذا الباغي ولابد له مصرع، ثم أن الثعلب قال للذئب: إن الرب يعفو ويتوب على عبده إن اقترف الذنوب وانا عبد ضعيف وقد ارتكبت في نصحك التعسيف ولو علمت بما حصل لي من لطمتك لعلمت أن الفيل لا يقوم به ولا يقدر عليه ولكني لا أشتكي من ألم هذه اللطمة بسبب ما حصل لي بها من السرور، وقد قال الحكيم: ضرب المؤدب أوله صعب شديد وآخره أحلى من العسل المصفى.

 

فقال الذئب: غفرت ذنبك وأقلت عثرتك فكن من قوتي على حذر واعترف لي بالعبودية فقد علمت قهري لمن عاداني، فسجد له الثعلب وقال له: أطال الله عمرك ولا زلت قاهراً لمن عاداك، ولم يزل الثعلب خائفاً من الذئب مصانعاً له، ثم إن الثعلب ذهب إلى كرم يوماً فرأى في حائطه ثلمة فأنكرها وقال في نفسه: إن هذه الثلمة لا بد لها من سبب، وقد قيل: من رأى خرقاً في الأرض فلم يجتنبه ويتوق عن الإقدام عليه كان بنفسه مغروراً وللهلاك متعرضاً. وقد اشتهر أن بعض الناس يعمل صورة الثعلب في الكرم ويقدم إليه العنب في الأطباق لأجل أن يرى ثعلباً آخر فيقدم إليه فيقع في الهلاك، و إني أرى هذه الثلمة مكيدة، وقد قيل: إن الحذر نصف الشطارة ومن الحذر أن أبحث على هذه الثلمة وانظر لعلي أجد عندها أمر يؤدي إلى التلف ولا يحملني الطمع على أن ألقي نفسي في الهلكة، ثم دنا منها وطاف بها وهو محاذر فرآها فإذا هي حفرة عظيمة قد حفرها صاحب الكرم ليصيد فيها الوحش الذي يفسد الكرم ورأى عليها غطاء رقيقاً فتأخر عنها وقال: الحمد لله حيث حذرتها وأرجو أن يقع فيها عدوي الذئب الذي نغص عيشي، فأستقل بالكرم وحدي وأعيش فيه آمناً. ثم هز رأسه وضحك ضحكاً عالياً واطرب بالنغمات وأنشد هذه الأبيات:

 

ليتني أبصرت هذا الوقت

 

في ذي الـبـئر ذئبـا

وسقاني المر غصباً ليتني

 

من بـعـد ذا أبـقـى

طالما قد ساء قـلـبـي

 

ويقضي الذئب نحـبـا

ثم يخلو الكرم منه

 

وأرى لي فيه نهبا

 

فلما فرغ من شعره انطلق مسرعاً حتى وصل إلى الذئب وقال: إن الله سهل لك الأمور إلى الكرم بلا تعب وهذا من سعادتك فهنيئاً لك بما فتح الله عليك وسهل لك من تلك الغنيمة والرزق الواسع بلا مشقة، فقال الذئب للثعلب: وما الدليل على ما وصفت؟ قال: إني انتهيت إلى الكرم فوجدت صاحبه قد مات ودخلت البستان فرأيت الأثمار زاهية على الأشجار فلم يشك الذئب في قول الثعلب وأدركه الشر فقام حتى انتهى إلى الندامة وقد غره الطمع ووقف الثعلب متهافتاً كالميت وتمثل بهذا البيت:

 

أتطمع من ليلى بوصلي وإنما

 

تضر بأعناق الرجال المطامع

 

فلما انتهى الذئب إلى الثلمة قال له الثعلب: ادخل إلى الكرم فقد كفيت مؤونة هدم حائط البستان وعلى الله تمام الإحسان فأقبل الذئب ماشياً يريد الدخول إلى الكرم فلما توسط غطاء الثلمة وقع فيها فاضطرب الثعلب اضطراباً شديداً من السرور والفرح وزوال الهم والترح، ثم إنه تطلع في الحفرة فرأى الذئب يبكي ندماً وحزناً على نفسه فبكى الثعلب معه فرفع الذئب رأسه إلى الثعلب وقال له: أمن رحمتك لي بكيت يا أبا الحصين؟ قال: لا والذي قذفك في هذه الحفرة إنما بكيت لطول عمرك الماضي وأسفاً على كونك لم تقع في هذه الثلمة قبل اليوم ولو وقعت قبل اجتماعي بك لكنت أرحت واسترحت، ولكن أبقيت إلى أجلك المحتوم ووقتك المعلوم. فقال له: أيها الثعلب رح أيها المسيء في فعله لوالدتي وأخبرها بما حصل لي لعلها تحتال على خلاصي فقال له الثعلب: لقد أوقعك في الهلاك شدة طمعك وكثرة حرصك حيث سقطت في حفرة لست منها بسالم ألم تعلم أيها الذئب الجاهل أن صاحب المثل يقول: من لم يفكر في العواقب لم يأمن المعاطب؟ فقال الذئب للثعلب: يا أبن الحصين إنما كنت تظهر محبتي وترغب في مودتي وتخاف من شدة قوتي فلا تحقد علي بما فعلته معك فمن قدر وعفا كان أجره على الله وقد قال الشاعر:

 

ازرع جميلاً ولو في غير موضعه

 

ما خاب قط جميل أينـمـا زرع

إن الجميل وإن طال الزمـان بـه

 

فليس يحـصـده إلا الـذي زرع

 

فقال له الثعلب: يا أجهل السباع وأحمق الوحوش في البقاع هل نسيت تجبرك وعتوك وتكبرك وأنت لم ترع حق المعاشرة ولم تنتصح بقول الشاعر:

 

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً

 

إن الظلوم على حد من النقم

تنام عيناك والمظلوم منتبـه

 

يدعو عليك وعين الله لم تنم

 

فقال الذئب: يا أبا الحصين لا تؤاخذني بسابق الذنوب فالعفو من الكرام مطلوب وصنع المعروف من حسن الذخائر وما أحسن قول الشاعر:

 

بادر بالخير إذا كنت مقتـدراً

 

فليس في كل حين أنت مقتدر

 

و ما زال الذئب يتذلل للثعلب ويقول له: لعلك تقدر على شيء تخلصني به من الهلاك فقال له الثعلب: أيها الفظ الغليظ إني أشبهك في حسن لعانيتك وقبح نيتك بالباز مع الحجل، قال الذئب: وام حديث الباز والحجل؟ قال الثعلب: دخلت يوماً كرماً لآكل عنبه فبينما أنا فيه إذ رأيت بازاً انقض على حجل فلما اقتصه انفلت منه الحجل ودخل وكره واختفى فيه فتبعه الباز وناداه: أيها الجاهل إني رأيتك في البرية جائعاً فرحمتك، والتقطت لك حباً وأمسكتك لتأكل فهربت مني ولم أعرف لهروبك وجهاً إلا الحرمان، فاظهر وخذ ما أتيتك من الحب فكله هنيئاً مريئاً، فلما سمع الحجل قول الباز صدقه وخرج إليه فانشب مخالبة فيه ومكنها مه فقال له الحجل: أهذا الذي ذكرت انك أتيتني به من البرية وقلت لي هنيئاً مريئاً فكذبت على جعل ما تأكله من لحمي في جوفك سماً قاتلاً، فلما أكله وقع ريشه وسقطت قوته ومات لوقته ثم قال له الثعلب: اعلم ايها الذئب أن من حفر حفرة لأخيه قليباً وقع فيها قريباً وأنت غدرت بي أولاً، فقال الذئب للثعلب: دعني من هذا المقال وضرب الأمثال ولا تذكر لي ما سلف مني من قبيح الفعال يكفيني ما أنا فيه من سوء الحال حيث وقعت في ورطة يرثي لي منها العدو فضلاً عن الصديق وانظر لي حيلة أتخلص بها وكن فيها غياثي وإن كان عليك ذلك مشقة فقد يتحمل الصديق لصديقه أشد النصب ويقاسي فيما فيه نجاته العطب وقد قيل: إن الصديق الشفيق خير من الأخ الشقيق وإن تسببت في نجاتي لأجمعن لك من الآلة ما يكون لك عدة ن ثم ثم لأعلمنك من الحيل الغريبة ما تفتح به الكروم الخصيبة وتجني الأشجار المثمرة فطب نفساً وقر عيناً، فقال له الثعلب وهو يضحك: ما أحسن ما قالته العلماء في كثير من الجهل مثلك قال الذئب: وما قالت العلماء؟ قال الثعلب: ذكر العلماء أن غليظ الجثة غليظ الطبع يكون بعيداً من العقل قريباً من الجهل لأن قولك أيها الماكر الأحمق قد يحتمل الصديق المشقة في تخليص صديقه صحيح كما ذكرت ولكن عرفتني بجهلك وقلة عقلك كيف أصادقك مع خيانتك أتحسبني لك صديقاً وأنا لك عدو شامت وهذا الكلام أشد من رشق السهام إن كنت تعقل وأما قولك أنك تعطيني من الآلات ما يكون عدة لي وتعلمني من الحيل وما أصل به إلى الكروم المخصبة وأجتني به الأشجار المثمرة فمالك أيها المخادع الغادر لا تعرف لك حيلة تتخلص بها من الهلاك فما أبعدك من المنفعة لنفسك وما ابعدني من القبول لنصيحتك فإن كان عندك حيل فتحيل لنفسك في الخلاص من هذا الأمر الذي أسأل الله أن يبعد خلاصك منه فانظر أيها الجاهل إن كان عندك حيلة فخلص نفسك بها من القتل قبل أن تبذل التعليم لغيرك ولكنك مثل إنسان حصل له مرض فاتاه رجل مريض بمثل مرضه ليداويه فقال له: هل لك أن أداويك من مرضك؟ فقال له الرجل: هلا بدأت بنفسك في المداواة، فتركه وانصرف. وأنت أيها الذئب كذلك فالزم مكانك واصبر على ما اصابك، فلما سمع الذئب كلام الثعلب علم أن لا خير له عنده فبكى على نفسه وقال: كنت في غفلة من أمري فإن خلصني الله من هذا الكرب لأتوبن من تجبري على من هو أضعف مني ولألبس الصوف ولأصعدن الجهل ذاكراً الله تعالى خائفاً من عقابه واعتزل سائر الوحوش ولأطعمن المجاهدين والفقراء، ثم بكى وانتحب فرق له قلب الثعلب وكان لما سمع تضرعه والكلام الذي يدل على توبته من العتو والتكبر أخذته الشفقة عليه فوثب من فرحته، ووقف على شفير الحفيرة ثم جلس على رجليه وأدلى ذنبه في الحفيرة فعند ذلك فعند ذلك قام ومد يده إلى ذبن الثعلب وجذبه إليه فصار في الحفيرة معه، ثم قال له الذئب: أيها الثعلب القليل الرحمة كيف تشمت بي وقد كنت صاحبي وتحت قهري ووقعت معي في الحفيرة وتعجلت لك العقوبة، وقد قال الشاعر:

 

إذا ما الدهر جار على الناس

 

كلاكله أنـاخ بـآخـرينـا

فقل للشامتين بنـا أفـيقـوا

 

سيلقى الشامتون كما لقينـا

 

ثم قال الذئب للثعلب: فلا بد أن أعجل قتلك فبل أن ترى قتلي، فقال الثعلب في نفسه: إني وقعت مع هذا الجبار وهذا الحال يحتاج إلى المكر والخداع، وقد قيل: إن المرأة تصوغ حليها ليوم الزينة وفي المثل ما إذخرتك يا دمعتي إلا لشدتي وإن لم أتحيل في أمر هذا الوحش الظالم هلكت لا محالة، وما احسن قول الشاعر:

 

عش بالخداع فأنت في

 

زمن بنوه كأسد بـيشة

وأدر قناة المكر حتـى

 

تستدير رحى المعيشة

واجن الثمار فإن تفتـك

 

فرض نفسك بالحشيشة

 

ثم إن الثعلب قال للذئب: لا تعجل علي بالقتل فتندم أيها الوحش الصنديد صاحب القوة والبأس الشديد وإن تمهلت وأمعنت النظر فيما أحكيه لك، عرفت قصدي الذي قصدته وإن عجلت بقتلي فلا فائدة لك فيه، ونموت جميعنا هاهنا، فقال له الذئب: أيها المخادع الماكر وما الذي ترجوه من سلامتي وسلامتك حتى تسألني التمهل عليك فاخبرني بقصدك الذي قصدته؟ فقال له الثعلب: أما قصدي الذي قصدته فمما ينبغي أن تحسن عليه مجازاتي لأني سمعت ما وعدت من نفسك واعترافك بما سلف منك وتلهفك على ما فاتك من التوبة وفعل الخير وسمعت ما نذرته على نفسك من كف الأذى عن الأصحاب وغيرهم وتركك أكل العنب وسائر الفواكه، ولزمك الخشوع وتقليم أظافرك وتكسير أنيابك وان تلبس الصوف وتقرب القربان لله تعالى إن نجاك مما أنت فيه فأخذتني الشفقة عليك مع انني كنت على حق هلاكك حرصاً. فلما سمعت منك توبتك وما نذرت على نفسك إن نجاك الله لزمني خلاصك مما أنت فيه فأدليت إليك ذنبي لكيما تتعلق به وتنجو فلم تترك الحالة التي أنت عليها من العنف والشدة ولم تلتمس النجاة والسلامة لنفسك بالرفق بل جذبتني جذبة ظننت منها أن روحي قد خرجت فصرت أنا وأنت في منزلة الهلاك والموت وما ينجيني أنا وأنت إلا شيء إن قبلته مني خلصت أنا وانت وبعد ذلك يجب عليك أن تفي بما نذرته وأكون رفيقك، فقال له الذئب: وما الذي أقبله منك، قال له الثعلب: تنهض قائماً وأعلو أنا فوق رأسك حتى أكون قريباً من ظاهر الأرض فإني حين أصير فوقها أخرج وآتيك بما تتعلق به وتخلص أنت بعد ذلك فقال له الذئب: لست بقولك واثقاً لأن الحكماء قالوا: من استعمل الثقة في موضع الحقد كان مخطئاً. وقيل من وثق بغير ثقة كان مغوراً، ومن جرب المجرب حلت به الندامة، ومن لم يفق بن الحالات فيعطي كل حالة حظها بل حمل الأشياء كلها على حالة واحدة قل حظه وكثرت مصائبه، وما أحسن قول الشاعر:

 

لا يكـن ظـنـك لا سـيئاً إن

 

سوء الظن من أقوى الفطـن

ما رمى الإنسان في مهلـكة

 

مثل فعل الخير والظن الحسن

 

فقال الثعلب: إن سوء الظن ليس محموداً في كل حال وحسن الظن من شيم الكرام وعاقبته النجاة من الأهوال وينبغي لك أيها الذئب أن تتحايل على النجاة مما أنت فيه ونسلم جميعاً خير من موتنا فارجع عن سوء الظن والحقد لأنك إن أحسنت الظن بي لا أخلو من أحد أمرين: إما أن آتيك بما تتعلق به وتنجو مما أنت فيه وإما أن أغدر بك فأخلص وأودعك وهذا مما لا يمكن فإني لا آمن أن أبتلي بشيء مما ابتليت به فيكون ذلك عقوبة الغدر وقد قيل في الأمثال: الوفاء مليح والغدر قبيح، فينبغي أن تثق بي فإني لم أكن جاهلاً بحوادث الدهر فلا تؤخر حيلة خلاصنا فالأمر أضيق من أن نطيل فيه الكلام.

 

فقال الذئب: إني مع قلة ثقتي بوفائك قد عرفت ما في خاطرك من انك أردت خلاصي لما عرفت توبتي فقلت في نفسي: إن كان حقاً فيما زعم فإنه يستدرك ما أفسد وإن كان مبطلاً فجزاؤه على ربه، وها أنا أقبل منك ما أشرت به علي فإن غدرت بي كان الغدر سبباً لهلاكك، ثم إن الذئب انتصب واقفاً وأخذ الثعلب على أكتافه حتى ساوى به ظاهر الأرض فوثب الثعلب عن أكتاف الذئب حتى صار على وجه الأرض ووقع مغشياً عليه، فقال له الذئب: يا خليلي لا تغفل عن أمري ولا تؤخر خلاصي، فضحك الثعلب وقهقه وقال للذئب: أيها المغرور لم يوقعني في يدك إلا المزح معك والسخرية بك وذلك أني لما سمعت توبتك استخفني الفرح فطربت ورقصت فتدلى ذنبي في الحفرة فجذبتني فوقعت عندك ثم انقذني الله تعالى من يدك فما لي لا أكون عوناً على هلاكك وأنت من حزب الشيطان، واعلم أنني رأيت البارحة في منامي أني أرقص في عرس فقصصت الرؤيا على معبر، فقال لي: إنك تقع في ورطة وتنجو منها فعلمت وقوعي في يدك ونجاتي هو تأويل رؤياي وأنت تعلم أيها المغرور الجاهل أني عدوك فكيف تطمع بقلة عقلك وجهلك في إنقاذي إياك مع ما سمعت من غلظ كلامك؟ وكيف أسعى في نجاتك وقد قالت العلماء: إن في موت الفاجر راحة الناس وتطهير للأرض ولولا مخافة أن أحتمل من الألم في الوفاء لك ما هو أعظم من ألم الغدر لتدبرت في خلاصك، فلما سمع الذئب كلام الثعلب عض على كتفه ندماً.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الحادية والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الذئب لما سمع كلام الثعلب عض على كتفه ندماً ثم لين له في الكلام ولم يجد بداً من ذلك وقال له بلسان خافت: إنكم معشر الثعالب من أحلى القوم لساناً وألطفها مزاحاً وهذا منك مزاح ولكن ما كل وقت يحسن اللعب والمزاح، فقال الثعلب: أيها الجاهل إن للمزاح حد لا يجاوزه صاحبه فلا تحسب فلا تحسب أن الله يمكنك مني بعد أن أنقذني من يديك، فقال له الذئب: إنك لجدير أن ترغب في خلاصي لما بيننا من سابق المؤاخاة والصحبة وإن خلصتني لا بد أن أحسن مكافاتك، فقال الثعلب: قد قال الحكماء: لا تؤاخ الجاهل الفاجر فإنه يشينك ولا يزينك، ولا تؤاخ الكذاب فإنه إن بدا منك خير خفاه وإن بدا منك شر فشاه، وقال الحكماء: لكل شيء حيلة إلا الموت وقد يصلح كل شيء إلا فساد الجوهر وقد يدفع كل شيء إلا القدر وأما من جهة المكافأة التي زعمت أني أستحقها منك فإني أشبهك بالحية الهاربة من الحاوي إذ رآها رجل وهي مرعوبة فقال لها: ما شأنك أيتها الحية؟ قالت: هربت من الحاوي فإنه يطلبني فإن نجيتني منه وأخفيتني عندك لأحبسن مكافأتك وأصنع معك كل جميل فأخذها اغتناماً للأجر وطمعاً في المكافأة وأدخلها في جيبه فلما فات الحاوي ومضى إلى حال سبيله وزال عنها ما كانت تخافه قال لها الرجل: أين المكافأة فقد أنقذتك مما تخافين وتحذرين؟ فقالت له الحية: أخبرني في أي عضو أنهشك؟ وقد علمت أننا لا نتجاوز هذه المكافأة ثم نهشته نهشة مات منها وأنت أيها الأحمق شبهتك بتلك الحية مع ذلك الرجل أما سمعت قول الشاعر:

 

لا تأمنن فتى أسكنت مهجـتـه

 

غيظاً وتحسب أن الغيظ قد زالا

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها

 

تبدي انعطافاً وتخفي السم قتالا

 

فقال له الذئب الفصيح صاحب الوجه المليح: لا تجهل حالي وخوف الناس مني وقد علمت أني أهجم على الحصون وأقلع الكروم فافعل ما أمرتك به وقم بي قيام العبد بسيده فقال له الثعلب: أيها الأحمق الجاهل المحال بالباطل إني تعجبت من حماقتك وصلابة وجهك فيما تأمرني به من خدمتك والقيام بين يديك حتى كأنني عبدك ولكن سوف ترى ما يحل بك من شرخ رأسك بالحجارة وكسر أنيابك بالغدارة.

 

ثم وقف الثعلب على تل مشرف على الروم ولم يزل يصيح لأهل الكرم حتى بصروا به وأقبلوا عليه مسرعين فثبت لهم الثعلب حتى قربوا منه ومن الحفرة التي فيها الذئب ثم ولى الثعلب هارباً فنظر أصحاب الكرم في الحفرة فلما رأوا فيها الذئب وقعوا عليه بالحجارة الثقال ولم يزاوا يضربونه بالحجارة والخشب ويطعنونه بأسنة الرماح حتى قتلوه وانصرفوا فرجع الثعلب إلى تلك الحفرة ووقف على مقتل الذئب، قرآه ميتاً فحرك رأسه من شدة الفرحات وأنشد هذه الأبيات:

 

أودى الزمان بنفس الذئب فاختطفت

 

بعداً وسحقاً لها من مهجة تلفـت

فكم سعيت أبا سرحان في تلـفـي

 

فاليوم حلت بك الآفات والتهبـت

وقعت في حفرة ما حلـهـا أحـد

 

إلا وفيها رياح الموت قد عصفت

 

ثم إن الثعلب أقام بالكرم وحده مطمئناً لا يخاف ضرراً وهذا ما كان من حديث الثعلب.

 

ومما يحكى أن فأرة وبنت عرس كانتا ينزلان منزلاً لبعض الناس وكان ذلك الرجل فقيراً، وقد مرض بعد أصدقائه فوصف له الطبيب السمسم المقشور، فأعطاه لزوجته وأمرها بإصلاحه فقشرته تلك المرأة وأصلحته، فلما عاينت بنت عرس السمسم أتت إليه ولم تزل تنقل من ذلك السمسم إلى حجرها طول يومه حتى نقلت أكثره وجاءت المرأة فرأت نقصان السمسم واضحاً فجلست ترصد من تأتي إليه حتى تعل سبب نقصانه فنزلت بنت عرس لتنقل منها على عادتها فرأت المرأة جالسة فعلمت أنها ترصدها فقالت في نفسها: إن لهذا الفعل عواقب ذميمة وإني أخشى من تلك المرأة أن تكون لي بالمرصاد ومن لم ينظر في العواقب ما الدهر له بصاحب، ولا بد لي أن أعمل حسناً أظهر به براءتي من جميع ما عملته من القبيح فجعلت تنقل من ذلك السمسم الذي في حجرها فرأتها المرأة وهي تفعل ذلك، فقالت في نفسها ما هذا سبب نقصه لأنها تأتي به من حجر الذي اختلسه وتضعه على بعضه وقد أحسنت إلينا في رد السمسم وما جزاء من أحسن إلا أن يحسن إليه وليست هذه آفة في السمسم ولكن لا أزال أرصده حتى يقع واعلم من هو، ففهمت بنت عرس ما خطر ببال تلك المرأة فانطلق إلى الفأرة فقالت لها: يا أختي إنه لا خير فيمن لا يرعى المجاورة ولا يثبت على المودة، فقالت الفأرة نعم يا خليلتي وأنعم بك وبجوارك فما سبب هذا الكلام؟ فقالت بنت عرس: إن رب البيت اتى بسمسم فأكل منه هو وعياله وشبعوا واستغنوا عنه وتركوه وقد أخذ منه كل ذي روح، فلو أخذت أنت الأخرى كنت أحق به ممن يأخذ منه، فأعجب الفأرة ذلك ورقصت ولعبت ذنبها وغرها الطمع في السمسم فقامت من وقتها وخرجت من بيتها فرأت السمسم مقشوراً يلمع من البياض والمرأة جالسة ترصده فلم تفكر الفأرة في عاقبة الأمر وكانت المرأة قد استعدت بهراوة فلم تتمالك الفأرة حتى دخلت في السمسم وعانت فيه وصارت تأكل منه فضربتها المرأة بتلك الهراوة فشجت رأسها وكان الطمع سبب هلاكها وغفلتها عن عواقب الأمور.

 

فقال الملك: يا شهرزاد والله إن هذه حكاية مليحة فهل عندك حديث في حسن الصداقة والمحافظة عليها عند الشدة والتخلص من الهلكة؟ قالت: نعم بلغني أن غراباً وسنوراً كانا متآخين فبينما هما تحت الشجرة على تلك الحالة إذ رأيا نمراً مقبلاً على تلك الشجرة التي كانا تحتها ولم يعلما به حتى صار قريباً من الشجرة فطار الغراب إلى أعلى الشجرة وبقي السنور متحيراً فقال للغراب: يا خليلي هل عندك حيلة في خلاصي كما هو الرجاء فيك؟ فقال الغراب: إنما تلتمس الأخوان عند الحاجة إليهم في الحيلة عند نزول المكروه بهم، وما احسن قول الشاعر:

 

إن صديق الحق من كان معك

 

ومن يضر نفسه لا ينفعـك

ومن إذا ريب الزمان صدعك

 

شتت فيه شمله ليجمـعـك

 

و كان قريباً من الشجرة رعاة معهم كلاب فذهب الغراب حتى ضرب بجناحه وجه الأرض ونعق وصاح، ثم تقدم إليهم وضرب بجناحه وجه بعض الكلاب وارتفع قليلاَ فتبعته الكلاب وسارت في ثره ورفع الراعي رأسه فرأى طائراً يطير قريباً من الأرض ويقع فتبعه وصار الغراب لا يطير إلا بقدر التخلص من الكلاب وطمعها في أن تفترسه، ثم ارتفع قليلاً وتبعته الكلاب حتى انتهى إلى الشجرة التي تحتها النمر، فلما رأت الكلاب النمر وثبت عليه فولى هارباً وكان يظن أنه يأكل السنور فنجا منه ذلك السنور بحيلة الغراب صاحبه وقد أخبرتك بهذا أيها الملك لتعلم أن مودة أخوان الصفا تنجي من الهلكات. و حكي أن ثعلباً سكن في بيت في الجبل وكان كلما ولد ولداً واشتد ولده أكله من الجوع وإن لم يأكل ولده يضربه الجوع، وكان يأوي إلى ذروة ذلك الجبل غراب فقال الثعلب في نفسه: أريد أن أعقد بيني وبين هذا الغراب مودة واجعله لي مؤنساً على الوحدة معاونا على طلب الرزق لأنه يقدر من ذلك على ما لا أقدر عليه، فدنا الثعلب من الغراب حتى صار قريباً منه بحيث يسمع كلامه فسلم عليه ثم قال له: يا جاري إن للجار المسلم على الجار المسلم حقين: حق الجيرة وحق الإسلام واعلم بأنك جاري ولك علي حق يجب قضاؤه وخصوصاً مع طول المجاورة، على أن في صدري وديعة من محبتك دعتني إلى ملاطفتك وبعثتني على التماس أخوتك فما عندك من الجواب؟ فقال الغراب: اعلم إن خير القول أصدقه وربما تتحدث بلسانك بما ليس في قلبك وأخشى أن تكون أخوتك باللسان ظاهراً وعداوتك في القلب لأنك آكل وأنا مأكول فوجب علينا التباين في المحبة ولا يمكن مواصلتنا، فما الذي دعاك إلى طلب ما لا تدرك وإرادة ما لا يكون وأنت من جنس الوحوش وأنا من جنس الطيور وهذه الأخوة لا تصح. فقال له الثعلب: إن من موضع الإخلاء فأحسن الاختيار فيما يختاره منهم ربما يصل إلى بعض منافع الأخوان وقد اخترت قربك واخترت الأنس بك ليكون بعضنا عوناً لبعض على أغراضنا وتعقب مودتنا، وعندي حكايات في حسن الصداقة فإن أردت أن أحكيها حكيتها لك، فقال الغراب: أذنت لك أن تبثها فحدثني بها حتى أعر فالمراد منها، فقال له الثعلب: اسمع يا خليلي يحكى عن برغوت وفأرة وما يستدل به على ما ذكرته لك، فقال الغرا ب: وكيف كان ذلك؟ فقال الثعلب: زعموا أن فارة في بيت رجل من التجار كثير المال فآوى البرغوث ليلة إلى فراش ذلك التاجر فرأى بدناً ناعماً وكان البرغوث عطشاناً فشرب من دمه، ووجد التاجر من البرغوث ألماً فاستيقظ من النوم واستوى قاعداً ونادى أتباعه فأسرعوا إليه وشمروا عن أيديهم يطوفون على البرغوث، فلما أحس البرغوث بالطلب ولى هارباً فصادف حجر الفأرة فدخله، فلما رأته الفأرة قالت له: ما الذي أدخلك علي ولست من جوهري ولا من جنسي ولست بآمن من الغلظة عليك ولا مضاررتك؟ فقال لها البرغوت: إني هربت إلى منزلك وفزت بنفسي من القتل وأتيت مستجيراً بك ولا طمع لي في بيتك ولا يلحقك مني شر يدعوك إلى الخروج من منزلك وإني أرجو أن أكافئك على إحسانك بكل جميل وسوف تحمدين عاقبة ما أقول لك، فلما سمعت الفأرة كلام البرغوث.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الثانية والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفأرة لما سمعت كلام البرغوث قالت: إذا كان الكلام على ما أخبرت فاطمئن هنا وما عليك بأس ولا تجد إلا ما يسرك ولا يصيبك إلا ما يصيبني وقد بذلت لك مودتي ولا تندم على ما فاتك من دم التاجر ولا تأسف على قوتك منه وارض بما تيسر لك من العيش فإن ذلك أسلم لك وقد سمعت أيها البرغوث بعض الوعاظ ينشد هذه الأبيات:

 

سلكت طريق القناعة والانفراد

 

قضيت دهري بماذا اتـفـق

بكسرة خبـز وشـربة مـاء

 

وملح جريش وثوب خـلـق

فإن يسر الله لي عـيشـتـي

 

وإلا قنعت بـمـا قـد رزق

 

فلما سمع البرغوث كلام الفأرة، قال: يا أختي قد سمعت وصيته وانقدت إلى طاعتك ولا قوة لي على مخالفتك إلى أن ينقضي العمر بتلك النية فقالت له الفأرة: كفى بصدق المودة في صلاح النية ثم انعقد الود بينهما وكان البرغوث بعد ذلك يأوي إلى فراش التاجر ولا يتحاور بلغته ويأوي بالليل مع الفأرة في مسكنها فاتفق أن التاجر جاء ليلة إلى منزله بدنانير كثيرة فجعل يقلبها، فلما سمعت الفأرة صوت الدنانير أطلعت رأسها من جحرها وجهلت تنظر إليها حتى وضعها التاجر تحت وسادة ونام فقالت الفأرة للبرغوث: أما ترى الفرصة والحظ العظيم، فهل عندك حيلة إلى بلوغ الغرض من تلك الدنانير؟ فقال لها البرغوث: قد التزمت لك بإخراجه من البيت ثم انطلق البرغوث إلى فراش التاجر ولدغه لدغة قوية لم يكن جرى للتاجر مثلها، ثم تنحى البرغوث إلى موضع يأمن فيه على نفسه من التاجر فانتبه التاجر يفتش على البرغوث فلم يجد شيئاً فرقد على جنبه الآخر فلدغه البرغوث لدغة أشد من الأولى فقلق التاجر وفارق وخرج إلى مصطبة داره فنام هناك ولم ينتبه إلى الصباح ثم إن الفأرة أقبلت على الدنانير حتى لم تترك منها شيئاً.

 

فلما أصبح الصباح صار التاجر يتهم الناس ويظن الظنون ثم قال الثعلب للغراب: واعلم أني لم أقل لك هذا الكلام أيها الغراب البصير العاقل الخبير إلا ليصل إليك جزاء إحسانك إلي كما وصل للفأرة جزاء إحسانها إلى البرغوث فانظر كيف جازاها أحسن المجازاة وكافأها أحسن المكافأة، فقال الغراب: إن شاء المحسن يحسن أو لا يحسن وليس الإحسان واجباً لمن التمس صلة بقطيعة وإن أحسنت إليك مع كونك عدوي أكون أتسبب في قطيعة نفسي، وأنت أيها الثعلب ذو مكر وخداع ومن شيمتك المكر والخديعة لا تؤمن على عهد لا أمان له، وقد بلغني عن قريب أنك غدرت بصاحبك الذئب ومكرت به حتى أهلكته بغدرك وحيلتك وفعلت به هذه الأمور مع أنه من جنسك وقد صحبته مدة مديدة فما أبقيت عليه فكيف أثق منك بنصيحة وإذا كان هذا فعلك مع صاحبك الذي من جنسك فكيف فعلك مع عدوك الذي من غير جنسك؟ وما مثالك معي إلا مثال الصقر مع ضواري الطير، فقال الثعلب: وما حكاية الصقر مع ضواري الطير؟ فقال الغراب: زعموا أن صقراً كان جباراً عنيداً.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الثالثة والثمانين بعد المئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغراب قال: زعموا أن صقراً كان جباراً عنيداً أيام شبيبته وكان سباع البر وسباع الطير تفزع منه ولا يسلم من شره أحد وله حكايات كثيرة في ظلمه وتجبره وكان دأب هذا الصقر الأذى لسائر الطيور فلما مرت عليه السنون ضعف وجاع واشتد جهده بعد فقد قوته فأجمع رأيه على أن يأتي مجمع الطير فيأكل ما يفضل منها، فعند ذلك صار قوته بالحيلة والقوة والشدة وأنت كذلك أيها الثعلب إن عدمت قوتك ما عدمت خدعك ولست أشك في أن ما تطلبه من صحبتي حيلة على قوتك فلا كنت ممن يضع يده في يدك لأن الله أعطاني قوة في جناحي وحذراً في نفسي وبصراً في عيني وأعلم أن من تشبه بأقوى منه تعب وربما هلك. هذا ما عندي الكلام واذهب عش بسلام، فلما يئس الثعلب من مصادقة الغراب رجع من حزنه يئن وقرع للندامة سناً على سن.

 

فلما سمع الغراب بكاءه وأنينه ورأى كآبته وحزنه قال: أيها الثعلب ما نابك حتى قرعت نابك؟ قال له الثعلب: إنما قرعت سني لأني رأيتك أخدع مني ثم ولى هارباً ورجع إلى جحره طالباً، وهذا ما كان من حديثهما أيها الملك، فقال الملك: يا شهرزاد ما أحسن هذه الحكايات هل عندك شيء مثلها من الخرافات؟ قالت: ويحكى أن قنفذاً مسكناً بجانب نخلة وكان الورشان هو وزوجته فلما اتخذا عشا في النخلة وعاشا فوقها عيشاً رغيداً فقال القنفذ في نفسه: إن الورشان يأكل من ثمر النخل وأنا أجد إلى ذلك سبيلاً ولكن لابد من استعمال الحيلة، ثم حفر في أسفل النخلة بيتاً واتخذه سكناً له ولزوجته وإلى جانبه مسجداً وانفرد فيه وأظهر النسك والعبادة، وترك الدنيا وكان الورشان متعبداً مصلياً فرق له من شدة زهده وقال: كم سنة وأنت هكذا؟ قال: مدة ثلاثين سنة قال: ما طعامك؟ قال: ما يسقط من النخلة قال: ما لباسك؟ قال شوك أنتفع بخشونته، فقال: وكيف اخترت مكانك هذا على غيره؟ قال: اخترته على غير طريق لأجل أن أرشد الضال وأعلم الجاهل، فقال له الورشان: كنت أظهر على انك على غير هذه الحالة ولكنني رغبت فيما عندك فقال القنفذ: إني أخشى أن يكون قولك ضد فعلك فتكون كالزراع الذي جاء وقت الزرع قصر في بذره وقال: إني أخشى أن يكون أوان الزرع قد فات فأكون قد أضعت المال بسرعة البذر فلما جاء وقت الحصاد ورأى الناس يحصدون ندم على ما فاته من تقصيره ومن تخلفه ومات أسفاً، فقال الورشان للقنفذ: وماذا أصنع حتى أتخلص من علائق الدنيا وأنقطع إلى عبادة ربي؟ قال له القنفذ: خذ في الاستعداد للميعاد والقناعة بالكفاية في الزاد، فقال الورشان: كيف لي بذلك وأنا طائر لا أستطيع أن أتجاوز النخلة التي فيها قوتي؟ ولو استطعت ذلك ما عرفت موضعاً أستقر فيه فقال القنفذ: يمكنك أن تنثر من ثمر النخلة ما يكفيك مؤونة عام أنت وزوجتك وتسكن قي وكر تحت النخلة لالتماس حسن إرشادك، ثم مل إلى ما نثرته من الثمر فانقله جميعاً وادخره قوتاً للعدم وإذا فرغت الثمار وطال عليك المطال سر إلى كفاف العيش. فقال الورشان: جزاك الله خيراً حيث ذكرتني بالميعاد وهديتني إلى الرشاد ثم تعب الورشان هو وزوجته في طرح الثمر حتى لم يبق في النخلة شيء فوجد القنفذ ما يأكل وفرح به وملأ مسكنه من الثمر وادخره لقوته وقال في نفسه: إن الورشان هو وزوجته إذا احتاجا إلى مؤونتهما طلباها مني وطمعاً فيما عندي وركنا إلى تزهدي وورعي.

 

فلما رأى الورشان منه الخديعة لائحة قال له: أين الليلة من البارحة فما تعلم أن للمظلومين ناصراً فإياك والمكر والخديعة، لئلا يصيبك ما أصاب الخداعين الذين مكروا بالتاجر، فقال القنفذ: وكيف ذلك؟ قال: بلغني أن تاجراً من مدينة يقال لها سنده كان ذا مال واسع فشد جمالاً وجهز متاعاً وخرج به إلى بعض المدن ليبيعه فيها فتبعه رجلان من المكرة وحملا شيئا من مال ومتاع وأظهرا للتاجر أنهما من التجار وساروا معه فلما نزلا أول منزل اتفقا على المكر به وأخذ ما معه. ثم إن كل واحد منهما أضمر المكر لصاحبه وقال في نفسه: لو مكرت بصاحبي بعد مكرنا بالتاجر لصفا لي الوقت وأخذت جميع المال، ثم أضمرا لبعضهما نية فاسدة وأخذ كل منهما طعاماً وجعل فيه سماً وقربه لصاحبه فقتلا بعضهما وكانا يجلسان مع التاجر ويحدثانه فلما أبطأوا عليه فتش عليهما ليعرف خبرهما فوجدهما ميتين فعلم أنهم كانا محتالين وأرادا المكر به فعاد عليهما مكرهما وسلم التاجر والمال معه فقال الملك نبهتني يا شهرزاد على شيء كنت غافلاً عنه أفلا تزيديني من هذه الأمور؟ قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن رجلاً كان عنده قرد وكان ذلك الرجل سارقاً لا يدخل سقاً من أسواق المدينة التي هو فيها إلا ويرجع بكسب عظيم فاتفق أن رجلاً حمل أثواباً ليبيعها فذهب بها إلى السوق وصار ينادي عليها فلا يسومها أحد وكان لا يعرضها على أحد إلا امتنع من شرائها فاتفق أن السارق الذي معه القرد رأى الشخص الذي معه الياب المقطعة وكان وضعها في بقجة وجلس يستريح من التعب فلعب القرد أمامه حتى أشغله بالفرجة عليه واختلس منه تلك البقجة، ثم أخذ القرد وذهب إلى السوق مكان خال وفتح البقجة فرأى تلك الثياب المقطعة فوضعها في بقجة نفيسة وذهب بها إلى سوق آخر وعرض البقجة للبيع بما فيها واشترط أن لا تفتح ورغب الناس فيها قلة الثمن فرآها رجل وأعجبه نفاستها فاشتراها وذهب بها إلى زوجته، فلما رأت ذلك امرأته قالت: ما هذا؟ قال: متاع نفيس اشتريته بدون القيمة لأبيعه واخذنا فائدته فقالت: أيها المغبون هذا المتاع بأقل من قيمته إلا إذا كان مسروقاً؟ أما تعلم أن من اشترى شيئاً ولم يعاينه كان مخطئاً وكان مثله مثل الحائك فقال لها: وكيف كان ذلك؟ فقالت: بلغني أن حائكاً كان في بعض القرى وكان يعمل فلا ينال القوت إلا بجهد، فاتفق أن رجلاً من الأغنياء كان ساكناً قريباً منه قد أولم وليمة ودعا الناس إليها فحضر الحائك فرأى الناس الذين عليهم الثياب الناعمة يقدم لهم الأطعمة الفاخرة وصاحب المنزل يعظمهم لما يرى من حسن زيهم، فقال في نفسه: لو بدلت تلك الصنعة بصنعة أخف مؤونة منها وأكثر أجرة لجمعت مالاً كثيراً واشتريت ثياباً فاخرة وارتفع شأني وعظمت في أعين الناس ثم نظر إلى بعض ملاعب الحاضرين في الوليمة وقد صعد سوراً شاهقاً ثم رمى بنفسه إلى الأرض ونهض قائماً فقال في نفسه: لا بد أن أعمل مثل عمل هذا ولا أعجز عنه، ثم صعد إلى السور ورمى نفسه، فلما وصل إلى الأرض اندقت رقبته فمات وإنما أخبرتك بذلك لئلا يتمكن منك الشره، فترغب فيما ليس من شانك. فقال لها زوجها: ما كل عالم يسلم بعلمه ولا كل جاهل يعطب بجهله وقد أيت الحاوي الخبير بالأفاعي العالم بها وربما نهشته الحية فقتلته وقد يظهر بها الذي لا معرفة له بها ولا علم عنده بأحواله ثم خالف زوجته واشترى المتاع وأخذ في تلك العادة فصار يشتري من السارقين بدون القيمة إلى أن وقع في تهمة فهلك فيها وكان في زمنه عصفور يأتي كل يوم إلى ملك من ملوك الطير ولم يزل غادياً ورائحاً عنده بحيث كان أول داخل عليه وآخر خارج من عنده فاتفق أن جماعة من الطير اجتمعوا في جبل عال من الجبال فقال بعضهم لبعض: إنا قد كثرنا وكثر الاختلاف بيننا، ولا بد لنا من ملك ينظر في أمورنا فتجتمع كلمتنا ويزول الاختلاف عنا، فمر بهم ذلك العصفور فأشار عليهم بتمليك الطاووس وهو الملك الذي يتردد إليه فاختاروا الطاووس وجعلوه عليهم ملكاً فأحسن إليهم وجعل ذلك العصفور كاتبه ووزيره فكان تارة يترك الملازمة وينظر في الأمور، ثم إن العصفور غاب يوماً عن الطاووس فقلق قلقاً عظيماً فبينما هو كذلك إذ دخل عليه العصفور فقال له: ما الذي أخرك وأنت أقرب اتباعي إي؟ فقال العصفور: رأيت أمراً واشتبه علي فتخوفت منه، فقال له الطاووس: ما الذي رأيت؟ قال العصفور: رأيت رجلاً معه شبكة قد نصبها عند وكري وثبت أوتادها وبذر في وسطها حباً وقعد بعيداً عنها فجلس انظر ما يفعل فبينما أنا كذلك إذا بكركي هو وزوجته قد ساقهما القضاء والقدر حتى سقطا في وسط الشبكة، فصارا يصرخان فقام الصياد وأخذهما فأزعجني ذلك وهذا سبب غيابي عنك يا ملك الزمان وما بقيت أسكن هذا الوكر حذراً من الشبكة، فقال له الطاووس: لا ترحل من مكانك لأنه لا ينفع الحذر من القدر فامتثل أمره، وقال: سأصبر ولا أرحل طاعة للملك ولم يزل العصفور محاذراً على نفسه وأخذ الطعام إلى الطاووس فأكل حتى اكتفى وتناول على الطعام ماء ثم ذهب العصفور.

 

فبينما هو في بعض الأيام شاخصاً إذا بعصفورين يقتتلان في الأرض فقال في نفسه: كيف أكون وزير الملك وأرى العصافير تقتتل في جواري والله لأصلحن بينهما، ثم ذهب إليهما ليصلح بينهما فقلب الصياد الشبكة على الجميع فوقع العصفور في وسطها فقام إليه الصياد وأخذه ودفعه إلى صاحبه وقال: استوثق به فإنه سمين لم أر أحسن منه، فقال العصفور في نفسه قد وقعت فيما كنت أخاف وما كان آمناً إلا الطاووس ولم ينفعني الحذر من القدر فلا مفر من القضاء للمحاذير وما أحسن قول الشاعر:

 

 

ما لا يكون فلا يكون بحيلة

 

أبداً وما هو كائن سيكـون

سيكون ما هو كائن في وقته

 

وأخو الجهالة دائماً مغبون

 

فقال الملك: يا شهرزاد زيديني من هذا الحديث فقالت: الليلة القابلة أن أبقاني الملك أعزه الله.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.