حكاية الجواري المختلفة الألوان وما وقع بينهن من المحاورة

ومما يحكى أن أمير المؤمنين المأمون جلس يوماً من الأيام في قصره وأحضر رؤساء دولته وأكابر مملكته جميعاً وكذلك أحضر الشعراء والندماء بين يديه، وكان من جملة ندمائه نديم يسمى محمد البصري فالتفت إليه المأمون وقال له: يا محمد أريد منك في هذه الساعة أن تحدثني بشيء ما سمعته قط. قال له: يا أمير المؤمنين تريد أحدثك بحديث سمعته بأذني أو بأمر عاينته ببصري فقال المأمون: حدثني يا محمد بالأغرب منهما، فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان في الأيام الماضية رجل من أرباب النعم وكان موطنه باليمن، ثم إنه ارتحل من اليمن إلى مدينة بغداد هذه فطاب له مسكنها فنقل أهله وماله وعياله وكان له ست جوار كأنهن الأقمار الأولى بيضاء والثانية سمراء والثالثة سمينة والرابعة هزيلة والخامسة صفراء والسادسة سوداء وكن حسان الوجوه كاملات الأدب عارفات بصناعة الغناء وآلات الطرب، فاتفق أنه أحضر هؤلاء الجواري بين يديه يوماً من الأيام وطلب الطعام والمدام فأكلوا وشربوا وتلذذوا وطربوا ثم ملأ الكأس وأخذه في ديه وأشار للجارية البيضاء وقال لها: يا وجه الهلال أسمعينا من لذيذ المقال فأخذت العود وأصلحته ورجعت عليه الألحان حتى رقص المكان ثم أطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

 

لي حبيب خياله نصب عيني

 

واسمه في جوارحي مكنون

إن تذكرته فكلـي قـلـوب

 

أو تأملته فكـلـي عـيون

قال لي عاذلي أتسلو هـواه

 

قلت ما لا يكون كيف يكون

يا عاذلي امض عني ودعني

 

لا تهون على ما لا يهـون

 

فطرب مولاهن وشرب قدحه وسقى الجواري ثم ملأ الكأس وأخذه في يده وأشار إلى الجارية وقال لها: يا نورالمقباس وطيبة الأنفاس أسمعينا صوتك الحسن الذي من سمعه افتتن فأخذت العود ورجعت عليه اللحان حتى طرب المكان وأخذت القلوب باللفتات وأنشدت هذه الأبيات:

 

وحياة وجهك لا أحب سواكا

 

حتى أموت ولا أخون هواكا

يا بدر تم بالجميل مبرقـعـاً

 

كل الملاح تسير تحت لواكا

أنت الذي فقت الملاح لطافة

 

والله رب العالمين حبـاكـا

 

فطرب مولاهن وشرب كأسه وسقى الجواري ثم ملأ القدح وأخذه في يده واشار إلى الجارية السمينة وأمرها بالغناء وتقليب الأهواء فأخذت العود وضربت عليه ضرباً يذهب الحسرات وأنشدت هذه الأبيات:

 

إن صح منك الرضا يا من هو الطلب

 

فلا أبالي بكل الناس إن غضـبـوا

وإن تبدي محياك الـجـمـيل فـلـم

 

أعبأ بكل ملوك الأرض إن حجبـوا

قصدي رضاك من الدنيا بأجمعـهـا

 

يا من إليه جميع الحسن ينـتـسـب

 

فطرب مولاهن وأخذ الكأس وسقى الجواري، ثم ملأ الكأس واخذه بيده وأشار إلى الجارية الهزيلة وقال: يا حوراء الجنان أسمعينا الألفاظ الحسان فأخذت العود وأصلحته ورجعت عليه الألحان وأنشدت هذين البيتين:

 

ألا في سبيل الله ما حل بي منكما

 

بصدكما حيث لا أصبر عنكمـا

إلا حاكم في الحب يحكم بينـنـا

 

فيأخذ لي حقي وينصفني منكما

 

فطرب مولاهن وشرب القدح وأخذت بيده وأشار إلى الجارية الصفراء وقال: يا شمس أسمعينا من لطيف الأشعار، فأخذت العود عليه أحسن الضربات وأنشدت هذه الأبيات:

 

لي حبيب إذا ظهرت إلـيه

 

سل سيفاً علي من مقلتـيه

أخذ الله بعض حقي مـنـه

 

إذ جفاني ومهجتي في يديه

كلما قالت يا فؤادي دعـه

 

لا يميل الفـؤاد إلا إلـيه

هو سؤلي من الأنام ولكـن

 

حسدتني عين الزمان عليه

 

فطرب مولاهن وشرب وسقى الجواري، ثم ملأ الكأس وأخذه في يده وأشار إلى الجارية السوداء وقال: يا سوداء العينين أسمعينا ولو كلمتين فأخذت العود وأصلحته وشدت أوتاره وضربت عليه عدة ضربات ثم رجعت إلى الطريقة الأولى وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

 

ألا يا عين بالعبرات جـودي

 

فوجدي قد عدمت به وجودي

 

أكابد كل وجدي من حـبـيب

 

ألفت به ويشمت بي حسودي

 

وتمنعني العـواذل ورد خـد

 

ولي قلب يحن إلى الـورود

 

لقد دارت هناك كؤوس راع

 

بأفراح لذي ضرب وعـود

 

ووافاني الحبيب فهمت فـيه

 

وأشرق بالوفا نجم السعـود

تصدى للصدود بغير ذنـب

 

وهل شيء أمر من الصدود

وفي وجناتـه ورد جـنـي

 

فيا لله مـن ورد الـخـدود

فلو أن السجود يحل شرعـاً

 

لغير الله كان له سجـودي

 

 

 

 

 

 

ثم بعد ذلك قامت الجواري وقبلن الأرض بين يدي مولاهن وقلن له: أنصف بيننا يا سيدنا، فنظر مولاهن إلى حسنهن وجمالهن واختلاف ألوانهن فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال لهن: ما منكن إلا وقد قرأت القرآن وتعلمت الألحان وعرفت أخبار المتقدمين واطلعت على سير الأمم الماضيين وقد اشتهيت أن تقوم كل واحدة منكن وتشير بيدها إلى ضرتها يعني تشير البيضاء إلى السوداء والسمينة إلى الهزيلة والصفراء إلى السوداء وتمدح كل واحدة منكن نفسها وتذم ضرتها ثم تقوم ضرتها وتفعل معها مثلها ولكن يكون ذلك بدليل من القرآن الشريف وشيء من الأخبار والأشعار لننظر أدبكن وحسن ألفاظكن، فقلن سمعاً وطاعة.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة السادسة والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الرجل اليمني قالت له جواريه: سمعاً وطاعة، ثم قامت أولاهن وهي البيضاء وأشارت إلى السوداء وقالت لها: ويحك يا سوداء، قد ورد أن البياض قال أنا النور اللامع أنا البدر الطالع لوني ظاهر وفي حسني قال الشاعر:

 

بيضاء مصقولة الخدين نـاعـمة

 

كأنها لؤلؤة في الحسن مكنـون

فقدها ألف يزهو ومبسـمـهـا

 

ميم وحاجبها من فـوقـه نـون

كأن ألحاظها نبل وحـاجـبـهـا

 

قوس على أنه بالموت مقـرون

بالخد والقد إن تبدو فوجنـتـهـا

 

ورد وآس وريحان ونـسـرين

والغصن يعهد في البستان مغرسة

 

وغصن قدك كم فيه بـسـاتـين

 

فلوني مثل النهار الهني والزهر الجني والكوكب الدري، وقد قال الله في كتابه العزيز لنبيه موسى عليه السلام: وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء، وقال الله تعالى: وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون، فلوني آية وجمالي غاية وحسني نهاية وعلى مثلي يحسن الملبوس وإليه تميل النفوس، وفي البياض فضائل كثيرة منها أن الثلج ينزل من السماء وقد ورد أن أحسن الألوان البياض، ويفتخر المسلمون بالعمائم البيض، ولو ذهبت أذكر ما فيه من المديح لطال الشرح ولكن ما قل وكفى خير مما كثر وما وفى، وسوف أبتدئ بذمك يا سوداء يا لون المداد وهباب الحداد ووجه الغراب المفرق بين الأحباب، وفي المثل يقول القائل: كيف يوجد أسود عاقل.

 

فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية فقد أسرفت، ثم أشار إلى السوداء فقامت وأشارت إلى البيضاء وقالت: أما علمت أنه ورد في القرآن المنزل على نبي الله المرسل قوله تعالى: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، ولولا أن الليل أجل لما أقسم الله به وقدمه على النهار وقبلته أولو البصائر والأبصار، أما علمت أن السواد زينة الشباب، فإذا نزل المشيب ذهبت اللذات أوقات الممات ولو لم يكن أجل الأشياء ما جعله الله في حبة القلب والناظر، وام أحسن قول الشاعر:

 

لم أعشق السمر إلا من حيازتـهـم

 

لون الشباب وحب القلب والحـدق

ولا سلوت بياض البيض عن غلـط

 

إني من المشيب والأكفان في فرق

 

وقول الآخر:

 

السمر دون البيض هـم

 

أولى بعشقـي وأحـق

السمر في لون اللمـى

 

و البيض في لون البهق

 

وقول الآخر:

 

سوداء بيضاء الفعال كأنـهـا

 

مثل العيون تحص بالأضواء

أنا إن جننت بحبها لا تعجبـوا

 

أصل الجنون يكون بالسوداء

فكأن لوني في الدياجي غيهب

 

لولاه ما قمر أتى بضـياء

 

وأيضاً فلا يحسن اجتماع الأحباب إلا بالليل فيكفيك هذا الفضل والنيل فما ستر الأحباب عن الواشين واللوام مثل سواد الظلام، ولا خوفهم من الافتضاح مثل بياض الصبح، فكم للسواد من مآثر وما أحسن قول الشاعر:

 

أزورهم وسواد الليل يشفع لـي

 

وأنثني وبياض الصبح يغري بي

 

وقول الآخر:

 

وكم ليلة بات الحبيب مؤانستي

 

وقد سترتنا من دجـاه ذوائب

فلما بدا نور الصباح أخافني

 

فقلت له إن المجوس كواذب

 

ولو ذهبت أذكر في السواد من المدح لطال الشرح ولكن ما قل وكفى خير مما كثر وما وفى وأما أنت يا بيضاء فلونك لون البرص ووصالك من الغصص وقد ورد أن البرد والزمهرير في جهنم لعذاب أهل النكير ومن فضيلة السواد أن منه المواد الذي يكتب به كلام الله ولولا سواد المسك والعنبر ما كان الطيب يحمل للملوك ولا يذكر وكم من للسواد من مفاخر وما أحسن قول الشاعر:

 

ألم تر أن المسك يعظم قـدره

 

وإن بياض الجير حمل بدرهم

وغن بياض العين يقبح بالفتى

 

وإن سواد العين يرمي بأسهم

 

فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية فجلست ثم أشار إلى السمينة فقامت.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة السابعة والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن اليمني سيد الجواري أشار إلى الجارية السمينة فقامت وأشارت بيدها إلى الهزيلة وكشفت سيقانها ومعاصمها وكشفت عن بطنها فبانت طياته وظهر تدوير سرتها ثم لبست قميصاً رفيعاً فبان منه جميع بدنها وقالت: الحمد لله الذي خلقني فأحسن صورتي وسمنني وشبهني بالأغصان وزاد من حسني وبهجتي فله الحمد على ما أولاني وشرفني في كتابه العزيز فقال تعالى: وجاء بعجل سمين وجعلني كالبستان المشتمل على خوخ ورمان واهل المدن يشتهون الطير السمين فيأكلون منه ولا يحبون طيراً هزيلاً وبنو آدم يشتهون اللحم السمين ويأكلونه وكم للسمن من مفاخر وما أحسن قول الشاعر:

 

ودع حبيبك إن الركب مرتحل

 

وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

كأن مشيتها في بيت جارتهـا

 

مشي السمينة عيب ولا ملل

 

وما رأيت أحداً يقف على الجزار إلا ويطلب منه اللحم السمين وقالت الحكماء اللذة في ثلاثة أشياء أكل اللحم والركوب على اللحم ودخول اللحم في اللحم وأما أنت يا رفيعة فسيقانك كسيقان العصفور ومحراك التنور وأنت خشبة المسلوب ولحم المعيوب وليس فيك شيء يسر الخاطر كما قال فيك الشاعر:

 

أعوذ بالله من أشياء تحوجـنـي

 

إلى مضاجعة كالدلك بالمسـد

في كل عضو لها قرن يناطحني

 

عند المنام فأمسي وهي الجلـد

 

فقال لها سيدها اجلسي ففي هذا القدر كفاية فجلست ثم أشار إلى الهزيلة فقامت كأنها غصن بان أو قضيب خيزران أو عود ريحان وقالت: الحمد لله الذي خلقني فأحسنني وجعل وصلي غاية المطلوب وشبهني بالغصن الذي تميل إليه القلوب فإن قمت خفيفة وإن جلست جلست ظريفة فأنا خفيفة الروح عند المزاح طيبة النفس من الارتياح وما رأيت أحداً يصف حبيبه فقال حبيب قدر الفيل ولا مثل الجبل العريض الطويل وإنما حبيبي له قد أهيف وقوام مهفهف فاليسير من الطعام يكفيني والقليل من الماء يرويني نفسي خفيف ومزاجي ظريف فأنا أنشط من العصفور وأخف حركة من الزرزور ووصلي منية الراغب ونزهة الطالب وأنا ملية القوام حسنة الابتسام كأني غصن بان أو قضيب خيزران أو عود ريحان وليس لي في الجمال مماثل كما قال في الشاعر:

 

شبهت قدك بالـقـضـيب

 

وجعلت شكلك من نصيبي

وغدوت خلفـك هـائمـاً

 

خوفاً عليك من الرقـيب

 

وفي مثلي تهيم العشاق ويتوله المشتاق وإن جذبني حبيبي انجذبت إليه وإن استمالني ملت له لا عليه وها أنت يا سمينة البدن فإن أكلك أكل للفيل ولا يشبعك كثير ولا قليل وعند الاجتماع لا يستريح معك خليل ولا يوجد لراحته معك سبيل فكبر بطنك يمنعه من جماعك وعند التمكن من فرجك يمنعه من غلظ أفخاذك أي شيء في غلظك من الملاحة أو في فظاظتك من اللطف والسماحة ولا يليق باللحم السمين غير الذبح وليس فيه شيء من موجبات المدح إن مازحك أحد غضبت وإن لاعبك حزنت فإن غنجت شخرت وإن مشيت لهثت وإن أكلت ما شبعت وأنت أثقل من الجبال وأقبح من الخيال والوبال مالك حركة ولا فيك بركة وليس لك شغل إلا الأكل والنوم وإن بلت شرشرت وإن تغوطت بطبطت كأنك زق منفوخ أو فيل ممسوخ إن دخلت بيت الخلاء تريدين من يغسل لك فرجك وينتف من فوقه شعرك وهذا غاية الكسل وعنوانه الخبل وبالجملة ليس فيك شيء من المفاخر وقد قال الشاعر:

 

ثقيلة مثل زق البول منتفـخ

 

أو راكبها كعواميد من الجبل

إذا مشت في بلاد العرب أو خطرت

 

سرى إلى الشرق ما تبدى من الهبل

 

فقال لها سيدها: احلسي ففي هذا القدر كفاية فجلست ثم أشار إلى الصفراء فقامت على قدميها وحمدت الله تعالى واتت عليه بالصلاة والسلام على خيار خلقه لديه ثم أشارت بيدها إلى السمراء وقالت.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الثامنة والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية الصفراء قامت على قدميها فحمدت الله تعالى وأثنت عليه ثم أشارت بيدها إلى السمراء وقالت لها: أنا المنعوت في القرآن ووصف لوني الرحمن وفضله على سائر الألوان بقوله تعالى في كتابه المبين صفراء فاقع لونها يسر الناظرين فلوني آية وجمالي غاية وحسني نهاية لأن لوني لون الدينار ولون النجوم والأقمار ولون التفاح وشكلي شكل الملاح ولون الزعفران يزهو على سائر الألوان فشكلي غريب ولوني عجيب وأنا ناعمة البدن غالية الثمن وقد حويت من كل معنى حسن ولوني في الوجود مثل الذهب الإبريز وكم من مآثر وفي مثلي قال الشاعر:

 

لها اصفرار كلون الشمس مبتهج

 

وكالدنانير في حسن من النظـر

ما الزعفران تحاكي بعض بهجتها

 

كلا ومنظرها يعلو من القـمـر

 

وسوف أبتدي بذمك يا سمراء اللون فإنك في لون الجاموس تشمئز عند رؤيتك النفوس إن كان لون في شيء فهو مذموم وإن كان في طعام فهو مسموم فلونك لون الذباب وفيه بشاعة الكلاب وهو محير بين الألوان ومن علامات الأحزان وما سمعت قط بذهب أسمر ولا در ولا جوهر إن دخلت الخلاء يتغير لونك وإن خرجت ازددت قبحاً على قبحك فلا أنت سوداء فتعرفي ولا أنت بيضاء فتوصفي وليس لك شيء من المآثر كما قال فيك الشاعر:

 

لون الهباب لون غـبـرتـهـا

 

كالتراب تدهس في أقدام قصاد

فلما نظرت لها بالعين أرمقتها

 

إلا تزايد من همي و أنـكـادي

 

فقال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية فجلست، ثم أشار إلى السمراء وكانت ذات حسن وجمال وقد واعتدال وبهاء وكمال. لها جسم ناعم وشعر فاحم معتدلة القد موردة الخد ذات طرف كحيل وخد أسيل ووجه مليح ولسان فصيح وخصر نحيل وردف ثقيل فقالت: الحمد لله الذي خلقني لا سمينة مذمومة ولا هزيلة مهضومة ولا بيضاء كالبرق ولا صفراء كالمغص ولا سوداء بلون الهباب بل جعل لوني معشوقاً لأولي الألباب وسائر الشعراء يمدحون السمر بكل لسان ويفضلون ألوانهم على سائر الألوان، فأسمر اللون حميد الخصال، ولله در من قال:

 

وفي السمر معنى لو علمت بيانه

 

لما نظرت عيناك بيضاً ولا حمرا

لياقة ألفـاظ وغـنـج لـواحـظ

 

يعلمن هاروت الكهانة والسحرا

 

فشكلي مليح وقدي رجيح ولوني ترغب فيه الملوك ويعشقه كل غني وصعلوك، مليحة ظريفة ناعمة البدن غالية الثمن وقد كملت في الملاحة والأدب والفصاحة مظاهري ولساني فصيح ومزاجي خفيف ولعبي ظريف وأما أنت فمثل ملوخية باب اللوق صفراء وكلها عروق فتعساً لك يا قذرة الرواس ويا صدأ النحاس وطلعة البوم وطعام الزقوم، فضجيجك يضيق النفوس مقبور في الأرماس وليس لك في الحسن مآثر وفي مثلك قال الشاعر:

 

عليها اصفرار زاد من غير عـلة

 

 

يضيق له صدري وتوجعني رأسي

إذا لم تتب نفسي فإنـنـي أذلـهـا

 

 

بلثم محياها فتقلـع أضـراسـي

 

فلما فرغت من شعرها قال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية، ثم بعد ذلك.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة التاسعة والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما فرغت من شعرها قال لها سيدها: اجلسي ففي هذا القدر كفاية، ثم بعد ذلك أصلح بينهن وألبسهن الخلع السنية ونقطهن بنفيس الجواهر البرية والبحرية فما رأيت يا أمير المؤمنين في مكان ولا زمان أحسن من هؤلاء الجواري الحسان. فلما سمع المأمون هذه الحكاية من محمد البصري أقبل عليه وقال له: يا محمد هل تعرف لهؤلاء الجواري وسيدهن محلاً وهل يمكنك أن تشتريهن لنا من سيدهن فقال له محمد: يا أمير المؤمنين قد بلغني أن سيدهن مغرم بهن ولا يمكنه مفارقتهن، فقال المأمون: خذ معك إلى سيدهن في في كل جارية عشرة آلاف دينار فيكون مبلغ ذلك الثمن ستين ألف دينار فاحملها صحبتك وتوجه إلى منزله واشترهن منه.

 

فأخذ محمد البصري منه ذلك القدر وتوجه، فلما وصل إلى سيد الجواري أخبره بأن أمير المؤمنين يريد اشتراءهن منه بذلك المبلغ فسمح ببيعهن لأجل خاطر أمير المؤمنين وأرسلهن إليه، فلما وصلت الجواري إلى أمير المؤمنين هيأ لهن مجلساً لطيفاً يجلس فيه معهن وينادمنه وقد تعجب من حسنهن وجمالهن واختلاف ألوانهن وحسن كلامهن وقد استمر على ذلك مدة من الزمان، ثم إن سيدهن الأول الذي باعهن لما لم يكن له صبر على فراقهن أرسل كتاباً إلى أمير المؤمنين المأمون يشكو فيه ما عنده من الصبابات ومن ضمنه هذه الأبيات:

 

سلبتني ست ملاح حـسـان

 

فعلى الستة الملاح سلامي

هن سمعي وناظري وحياتي

 

وشرابي ونزهتي وطعامي

لست أسلو من حسنهن وصالاً

 

ذاهب بعدهن طيب منامـي

آه يا طول حسرتي وبكـائي

 

ليتني ما خلقت بـين الأنـام

من عيون قد زانهن جفـون

 

كقسي رميننـي بـسـهـام

 

فلما وقع الكتاب في يد المأمون كسا الجواري من الملابس الفاخرة وأعطاهن ستين ألف دينار وأرسلهن إلى سيدهن فوصلن إليه وفرح بهن غاية الفرح أكثر مما أتى إليه من المال وأقام معهن في أطيب عيش وأهنأه إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات.