حكاية ضمرة بن المغيرة التي حكاها حسين الخليع لهارون الرشيد

وحكى أيضاً أيها الملك السعيد أن هارون الرشيد أرق ليلة فوجه إلى الأصمعي وإلى حسين الخليع فأحضرهما وقال: حدثاني وابدأ أنت يا حسين فقال: نعم يا أمير المؤمنين خرجت في بعض السنين منحدراً إلى البصرة ممتدحاً محمد بن سليمان الربعي بقصيدة فقبلها وأمرني بالمقام فخرجت ذات يوم إلى المريد وجعلت المهالبة طريقي فأصابني حر شديد، فدنوت من باب كبير لأستسقي، وإذا أنا بجارية كأنها قضيب يثني سناء العينين زجاء الحاجبين أسيلة الخدين عليها قميص جلناري ورداء صنعاني قد غلبت شدة بياض يديها حمرة قميصها يتلألأ من تحت القميص ثديان كرمانتين وبطن كطي القباطي بعكن كالقراطيس الناصعة المعقودة بالمسك محشوة، وهي يا أمير المؤمنين متقلده بخرز من الذهب الأحمر وهو بين نهديها، وعلى صحن جبينها طرة كالسبح ولها حابان مقرونان وعينان نجلاوان وخدان أسيلان وأنف أقنى تحته ثغر كاللؤلؤ وأسنان كالدر وقد غلب عليها الطيب وهي والهة حيرانة ذاهبة تروح وتجيء تخطو على أكباد محبيها في مشيها وقد سيقانها أصوات خلخالها فهي كما قال فيها الشاعر:

 

كل جزء في محاسنها

 

مرسل من حسنها مثلا

 

فهبتها يا أمير المؤمنين ثم دنوت منها لأسلم عليها فإذا الدار والدهاليز والشارع قد عبق بالمسك فسلمت عليها فردت علي بلسان خاشع وقلب حزين بلهب الوجد محترق، فقلت لها: يا سيدتي إني شيخ غريب وأصابني عطش أفتأمرين لي بشربة ماء تؤجرين عليها؟ قالت: إليك عني يا شيخ فإني مشغولة عن الماء والزاد.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الرابعة والأربعين بعد الستمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت: إني مشغولة عن الماء والزاد فقلت: لأي علة يا سيدتي؟ قالت: إني أعشق من لا ينصفني وأريد من لا يريدني ومع ذلك فإني ممتحنة بمراقبة الرقباء، فقلت: وهل يا سيدتي على بسيطة الأرض من تريدينه ولا يريدك؟ قالت: نعم وذلك أفضل ما ركب فيه من الجمال والكمال والدلال وقلت: وما وقوفك في هذا الدهليز؟ قالت: هاهنا طريقه وهذا وقت اجتيازه، وقلت لها: يا سيدتي فهل اجتمعتما في وقت من الأوقات وتحدثتما حديثاً أوجب هذا الوجد؟ فتنفست الصعداء وأرخت دموعها على خدها كظل سقط على ورد ثم أنشدت هذين البيتين:

 

وكنا كغصني بانة فـوق روضة

 

نشم جنى اللذات في عيشة رغد

فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطع

 

فيا من رأى فرداً يحن إلى فرد

 

قلت: يا هذا فما بلغ من عشقك لهذا الفتى؟ قالت: أرى الشمس على حيطان أهله فأحسب أنها هو وربما أراه بغتة فأبهت ويهرب الدم والروح من جسدي وأبقى الأسبوع والأسبوعين بغير عقل، فقلت لها: اعذريني فإني على مثل ما بك من الصبابة مشتغل البال بالهوى وانتحال الجسم وضعف القوى أرى بك من شحوب اللون ورقة البصر ما يشهد بتباريح الهوى وكيف لا يمسك الهوى وأنت مقيمة في أرض البصرة؟ قالت والله كنت قبل محبتي هذا الغلام في غاية الدلال بهيئة الجمال والكمال ولقد فتنت جميع ملوك البصرة حتى افتتن بي هذا الغلام قلت: يا هذه ما الذي فرق بينكما؟ قالت: نوائب الدهر ولحديثي وحديثه شأن عجيب وذلك أني قعدة في يوم نيروز ودعوت عدة من جواري البصرة وفي تلك الجواري جارية سيران، وكان ثمنها عليه من عمان ثمانين ألف درهم وكانت لي محبة وبي مولعة، فلما دخلت رمت نفسها وكادت ببطني قرضاً وعضاً ثم خلونا نتنعم بالشراب إلى أن يتهيأ طعامنا ويتكامل سرورنا وكانت تلاعبني وألاعبها فتارة أنا فوقها وتارة هي فوقي، فحملها السكر على أن ضربت يدها إلى دكتي فحلتها من غير ريبة كانت بيننا ونزل سروالي بالملاعبة فبينما نحن كذلك إذ دخل هو على حين غفلة، فرأى ذلك فاغتاظ لذلك وانصرف عني انصراف الهرة العربية إذا سمعت صلاصل لجامها فولى خارجاً.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الخامسة والأربعين بعد الستمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت لحسين الخليع: إن محبوبي لما رأى ما ذكرت لك من ملاعبتي مع جارية سيران خرج مغضباً مني، فأنا يا شيخ منذ ثلاث سنين لم أزل أعتذر إليه وأتلطف به وستعطفه فلا ينظر إلي بطرف ولا يكتب إلي بحرف ولا يكلم لي رسولاً ولا يسمع مني قليلاً، قلت لها: يا هذه أمن العرب هو أم من العجم؟ قالت: ويحك هو من جملة ملوك البصرة فقلت لها: أشيخ هو أم شاب؟ فنظرت إلي شزراً وقالت: إنك أحمق هو مثل القمر ليلة البدر أجرد أمرد لا يعيبه شيء غير انحرافه عني. فقلت لها: ما اسمه؟ قالت: ما تصنع به؟ قلت: أجتهد في لقائه لتحصيل الوصال بينكما قالت: على شرط أن تحمل غليه رقعة قلت: لا أكره ذلك.

 

فقالت: اسمه ضمرة بن المغيرة ويكنى بأبي السخاء وقصره بالمريد ثم صاحت على من في الدار هاتوا الدواة والقرطاس وشمرت عن ساعدين كأنهما طوقان من فضة وكتبت بعد البسملة: سيدي ترك الدعاء في صدر رقعتي ينبئ عن تقصيري واعلم أن دعائي لو كان مستجاباً ما فارقتني لأني كثيراً ما دعوت أن لا تفارقني وقد فارقتني ولولا أن الجهد تجاوز بي حد التقصير لكان ما تكلفته خادمتك من كتابة هذه الرقعة معيباً لها مع يأسها منك لعلمها أنك تترك الجواب وأقضي مرادها سيدي نظرة إليك وقت اجتيازك في الشارع إلى الدهليز تحيي بها نفساً ميتة واجل من ذلك عندها أن تحفظ بخط يدك بسطها الله بكل فضيلة رقعة تجعلها عوضاً عن تلك الخلوات التي كانت بيننا في الليالي الخاليات التي أنت ذاكر لها سيدي ألست لك محبة مدنفه، فإن أجبت إلى المسألة كنت لك شاكرة ولله حامدة والسلام. فتناولت الكتاب وخرجت وأصبحت، عدوت إلى باب محمد بن سليمان فوجدت مجلساً محتفلاً بالملوك ورأيت غلاماً زان المجلس وفاق على من فيه جمالاً وبهجة قد رفعه الأمير فوقه فسألت عنه فإذا هو ضمرة بن المغيرة، فقلت في نفسي: معذورة المسكينة بما حل بها ثم قمت وقصدت المريد ووقفت على باب داره فإذا هو قد ورد في موكب فوثبت إليه وبلغت في الدعاء وناولته الرقعة، فلما قرأها وعرف قال لي: يا شيخ قد استبدلنا بها فهل لك أن تنظر البديل، قلت: نعم فصاح على فتاة وإذا هي جارية تخجل ناهدة الثديين تمشي مشية مستعجل من غير وجل فناولها الرقعة وقال: أجيبي عنها.

 

فلما قرأتها اصفر لونها حيث عرفت ما فيها. وقالت: يا شيخ استغفر الله بما جئت فيه فخرجت يا أمير المؤمنين وأنا أجر رجلي حتى أتيتها واستأذني عليها ودخلت فقالت: ما وراءك؟ قلت: البأس واليأس قالت: ما عليك منه؟ فأين الله والقدرة ثم أمرت لي بخمسمائة دينار وخرجت ثم جزت على ذلك المكان بعد أيام فوجدت غلماناً وفرساناً فدخلت وإذا هم أصحاب ضمرة يسألونها الرجوع فيه وهي تقول والله ما نظرت له في وجه فسجدت شكراً لله يا أمير المؤمنين شماتة بضمرة، وتقربت من الجارية فأبرزت لي رقعة فإذا فيها بعد التسمية سيدتي لولا إبقائي عليك أدام الله حياتك لو وصفت شطراً مما حصل منك وبسطت عذري في ظلامتك إياي إذا كانت الجانية على نفسك ونفسي المظهرة لسوء العهد وقلة الوفاء، والمؤثرة علينا غيرنا فخالفت هواي والله المستعان على ما كان من اختيارك والسلام، وأوقفتني على ما حمله إليها من الهدايا والتحف وإذا هو بمقدار ثلاثين ألف دينار، ثم رأيتها بعد ذلك وقد تزوج بها ضمرة فقال الرشيد: لولا أن ضمرة سبقني إليها لكان لي معها شأن من الشؤون.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.