حكاية أبي قير وأبي صير

ومما يحكى أيضاً: أن رجلين كانا في مدينة الإسكندرية وكان أحدهما صباغاً واسمه أبو قير وكان الثاني مزيناً واسمه أبو صير وكانا جارين لبعضهما في السوق وكان المزين في جانب دكان الصباغ نصاباً كذاباً صاحب شر قوي كأنما صدغه منحوتٌ من الجلمود أو مشتقٌ من عتبة كنيسة اليهود لا يستحي من عيبة يفعلها بين الناس وكان من عادته أنه إذا أعطاه أحدٌ قماشاً لصبغه يطلب منه الكراء أولاً ويوهمه أنه يشتري به أجزاءً ليصبغ بها، فيعطيه الكراء مقدماً فإذا أخذه منه يصرفه على أكلٍ وشربٍ.

 

ثم يبيع القماش الذي أخذه بعد ذهاب صاحبه ويصرف ثمنه في الأكل والشرب وغير ذلك ولا يأكل إلا طيباً من أفخر المأكول ولا يشرب إلا من أجود ما يذهب العقول فإذا أتاه صاحب القماش يقول له في غدٍ تجيء لي من قبل طلوع الشمس فتلقى حاجتك مغبونةً فيروح صاحب الحاجة ويقول في نفسه يوم من يومٍ قريب ثم يأتيه في ثاني يوم على الميعاد فيقول له تعال في غدٍ فأني أمس ما كنت فاضياً لأنه كان عندي ضيوف فقمت بواجبهم حتى راحوا وفي غدٍ قبل الشمس تعال خذ قماشك مصبوغاً فيروح ويأتيه في ثالث يوم فيقول له أني كنت أمس معذوراً لأن زوجتي ولدت بالليل وطول النهار وأنا أقضي مصالح ولكن في غد من كل بد تعال خذ حاجتك مصبوغة فيأتي له على الميعاد فيطلع له بحيلةٍ أخرى من حيث كان ويحلف له.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الثامنة والعشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصباغ صار كلما أتى له صاحب الشيء يطلع له بحيلةٍ من حيث كان ويجلب له ولم يزل يعده ويخلف إذا جاءه حتى يقلق الزبون ويقول له كم تقول لي في غد أعطني حاجتي فإني لا أريد صبغاً فيقول والله يا أخي أنا مستحٍ منك ولكن أخبرك بالصحيح والله يؤذي كل من يؤذي الناس في أمتعتهم فيقول له أخبرني ماذا حصل فيقول أما حاجتك فأني صبغتها صبغاً ليس له نظيراً ونشرتها على الحبل فسرقت ولا أدري من سرقها فإن كان صاحب الحاجة من أهل الخير يقول له يعوض الله علي وإن كان من أهل الشر يستمر معه في هتيكةٍ وجرسةٍ ولا يحصل منه شيء ولو اشتكاه إلى الحاكم.

ولم يزل يفعل هذه الفعال حتى شاع ذكره بين الناس وصار الناس يحذر بعضهم من أبي قير ويضربون به الأمثال وامتنعوا عنه جميعاً وصار لا يقع معه إلا الجاهل بحاله ومع ذلك لا بد له كل يومٍ من جرسةٍ وهتيكةٍ من خلق الله فحصل له كساد بهذا السبب فصار يأتي إلى دكان جاره المزين أبي صير ويقعد في داخلها قبال المصبغة فإن رأى أحدٌ جاهلاً بحاله واقفاً على باب المصبغة ومعه شيءٌ يريد صبغه يقوم من دكان المزين ويقول له مالك يا هذا فيقول له خذ أصبغ لي هذا الشيء فيقول له أي لون تطلبه لأنه مع هذه الخصال الذميمة كان يخرج من يده أن يصبغ سائر الألوان ولكنه لم يصدق مع أحد والشقاوة غالبة عليه ثم يأخذ الحاجة منه ويقول له هات الكراء مسبقاً وفي غدٍ تعال خذها فيعطيه الأجرة ويروح.

 

وبعد أن يتوجه صاحب الشيء إلى حال سبيله يأخذ هو ذلك الشيء ويذهب إلى السوق فيبيعه ويشتري بثمنه اللحم والخضار والدخان والفاكهة وما يحتاج إليه، وإذا رأى أحداً واقفاً على الدكان من الذين أعطوه حاجةً ليصبغها فلا يظهر إليه ولا يريه نفسه، ودام على هذه الحالة سنين.

 

فاتفق له في يومٍ من الأيام أنه أخذ حاجةً من رجلٍ جبارٍ ثم باعها وصرف ثمنها وصار صاحبها يجيء إليه في كلا يومٍ فلم يره في الدكان لأنه متى رأى أحدٌ له عنده شيء يهرب منه في دكان المزين أبي صير، فلما لم يجده ذلك الجبار في دكانه وأعياه ذلك ذهب إلى القاضي وأتاه برسولٍ من طرفه وسمر باب الدكان بحضرة جماعة من المسلمين وختمه لأنه لم ير فيها غير بعض مواجير مكسره ولم يجد فيها شيئاً يقوم مقام حاجته، ثم أخذ الرسول المفتاح وقال للجيران: قولوا له يجيء بحاجة هذا الرجل ويأتي ليأخذ مفتاح دكانه.

 

ثم ذهب الرجل والرسول إلى حالهما فقال أبو صير لأبي قير: دهيتك فإن كل من جاء لك بحاجةٍ تعدمه إياها أين راحت حاجة هذا الرجل الجبار؟ قال يا جاري سرقت مني، قال أبو صير: عجائب كل من أعطاك حاجةً يسرقها منك لصٌ، هل أنت معادٍ جميع اللصوص، ولكن أظن أنك تكذب فأخبرني بقصتك يا جاري ما أحد سرق مني شيء، فقال أبو صير وما تفعل في متاع الناس؟ فقال له كل من أعطاني حاجةً أبيعها وأصرف ثمنها فقال له أبو صير أيحل لك هذا من الله، قال له أبو صير إنما أفعل هذا من الفقر لأن صنعتي كاسدة وأنا فقيرٌ وليس عندي شيءٌ، ثم صار يشرح له الكساد وقلة السبب وصار أبو صير يشرح له كساد صنعته أيضاً ويقول أنا أسطى ليس لي نظير في هذه المدينة ولكن لا يحلق عندي أحد لكوني رجل فقير وكرهت هذه الصنعه يا أخي.

 

فقال له أبو قير الصباغ: وأنا أيضاً كرهت صنعتي من الكساد ولكن يا أخي ما الداعي لإقامتنا في هذه البلدة فأنا وأنت نسافر منها نتفرج في بلاد الناس وصنعتنا في أيدينا رائجةٌ في جميع البلاد، فإذا سافرنا نشم الهواء ونرتاح من هذا الهم العظيم. وما زال أبو قير يحسن السفر لأبي صير حتى رغب في الارتحال، ثم أنهما اتفقا على السفر.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة التاسعة والعشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا قير ما زال يحسن السفر لأبي صير حتى رغب في الارتحال، ثم أنهما اتفقا على السفر وفرح أبو قير بأن أبا صير رغب في أن يسافر وأنشد قول الشاعر:

 

تغرب عن الأوطان في طلب العلا

 

وسافر ففي الأسفار خمس فـوائد

 

تفرج همٌ واكتـسـاب مـعـيشةٌ

 

علم وأدأب وصـحـبة مـاجـد

 

وإن قيل في الأسفار غمٌ وكـربةٌ

 

وتشتيت شمل وارتكـاب شـدائد

 

فموت الفتى خيرٌ له من حياته

 

بدار هوانٍ بين واشٍ وحاسد

 

 

 

 

 

 

 

وحين عزما على السفر قال أبو قير لأبي صير: نحن صرنا أخوين ولا فرق بيننا فينبغي أننا نقرأ الفاتحة على أن أعمالنا يكتسب ويطعم بطالنا ومهما فضل نضعه في صندوقٍ فإذا رجعنا إلى الإسكندرية نقسمه بيننا بالحق والإنصاف، قال أبو صير وهو كذلك وقرأ الفاتحة على أن الذي يعمل ويكتسب يطعم البطال.

 

ثم أن أبا صير قفل الدكان وأعطى المفاتيح لصاحبها وأبو قير ترك المفاتيح عند رسول القاضي وترك الدكان مقفولةً مختومةً وأخذ مصالحهما وأصبحا مسافرين ونزلا في غليون في البحر المالح وسافرا في ذلك النهار وحصل لهما إسعاف.

 

ومن تمام سعد المزين أن جميع من كان في الغليون لم يكن معهم أحد من المزينين وكان فيه مائة وعشرون رجلاً غير الريس والبحرية. ولما حلوا قلوع الغليون قام المزين وقال للصباغ: يا أخي هذا بحر نحتاج فيه إلى الأكل والشرب وليس معنا إلا قليلٌ من الزاد وربما يقول لي أحد تعال يا مزين أحلق لي فأحلق له برغيف أو بنصف فضة أو بشرية ماء فانتفع بذلك أنا وأنت، فقال له الصباغ لا بأس.

 

ثم حط رأسه ونام وقام المزين وأخذ عدته والطاسة ووضع على كتفه خرقةً تغني عن الفوطة لأنه فقير وشق بين الركاب فقال له واحد تعال يا أسطى أحلق لي فحلق له فلما حلق لذلك الرجل أعطاه نصف فضة فقال له المزين ليس لي بهذا النصف الفضة ولو كنت فأعطيتني رغيفاً كان أبرك في هذا البحر لأن لي رفيقاً وزادنا شيء قليل فأعطاه رغيفاً وقطعة جبن وملأ له الطاسة ماء حلواً فأخذ ذلك وأتى إلى أبي قير وقال له: خذ هذا الرغيف وكله بالجبن واشرب ما في الطاسة فأخذ ذلك منه وأكل وشرب ثم أن أبا صير المزين بعد ذلك حمل عدته وأخذ الخرقة على كتفه والطاسة في يده وشق في الغليون بين الركاب فحلق لإنسان برغيفين ولآخر بقطعة جبن ووقع عليه الطلب وصار كل من يقول له أحلق يا أسطى يشرط عليه رغيفين ونصف فضة وليس في الغليون مزين غيره فما جاء المغرب حتى جمع ثلاثين رغيفاً وثلاثين نصف فضة وصار عنده جبن وزيتون وبطارخ وصار كلما يطلب حاجة يعطونه إياها حتى صار عنده شيءٌ كثيرٌ وحلق للقبطان وشكا له قلة الزاد في السفر فقال له القبطان مرحباً بك هات رفيقك في كل ليلةٍ وتعشيا عندي ولا تحملاهما ما دمتما مسافرين معنا ثم رجع إلى الصباغ فرآه لم يزل نائماً فأيقظه فلما أفاق أبو قير رأى عند رأسه شيءٌ كثيرٌ من عيش وجبن وزيتون وبطارخ.

 

فقال له من أين لك ذلك فقال من فيض الله تعالى فأراد أن يأكل فقال له أبو صير لا تأكل يا أخي من هذا واتركه ينفعنا في وقت آخر واعلم أني حلقت للقبطان وشكوت إليه قلة الزوادة فقال له مرحباً بك هات رفيقك كل ليلةٍ وتعشيا عندي فأول عشاءنا عند القبطان في هذه الليلة فقال له أبو صير أنا دايخ من البحر ولا أقدر أن أقوم من مكاني فدعني أتعشى من هذا الشيء ورح أنت وحدك عند القبطان فقال له لا بأس بذلك ثم جلس يتفرج عليه وهو يأكل فرآه يقطع اللقمة كما يقطع الحجارة من الجبل ويبتلعها ابتلاع الغول الذي له أيام ما أكل ويلقم اللقمة قبل ازدراد التي قبلها ويحملق عينيه فيما بين يديه حملقة القول وينفخ مثل الثور الجائع على التبن والفول وإذا بنوتي جاء وقال يا أسطى يقول لك القبطان هات رفيقك وتعال للعشاء.

 

فقال أبو صير لأبي قير: أتقوم بنا؟ فقال له: أنا لا أقدر على المشي فراح المزين وحده فرأى القبطان جالساً وقدامه سفرة فيها عشرون لوناً أو أكثر وهو وجماعته ينتظرون المزين ورفيقه فلما رآه القبطان قال له أين رفيقك فقال له يا سيدي إنه دايخٌ من البحر فقال له القبطان لا بأس عليه ستزول عنه الدوخة تعال أنت تعش معنا فأني كنت في انتظارك ثم أن القبطان عزل صحنا وحط فيه من كل لون فصار يكفي عشرة وبعد أن تعشى المزين قال له القبطان خذ هذا الصحن معك إلى رفيقك فأخذه أبو صير وأتى إلى أبي قير فرآه يطحن بأنيابه فيما عنده من الأكل مثل الجمل ويلحق اللقمة باللقمة على عجل.

 

فقال له أبو صير: أما قلت لك لا تأكل فإن القبطان خيره كثير فانظر أي شيءٍ بعث به إليك لما أخبرته بأنك دايخ فقال هات فناوله الصحن فأخذه منه وهو ملهوف عليه وعلى غيره من الأكل مثل الكلب الكاسر أو السبع الكاسر أو الرخ إذا انقض على الحمام أو الذي كاد أن يموت من الجوع ورأى شيئاً من الطعام وصار يأكل فتركه أبو صير وراح إلى القبطان وشرب القهوة هناك ثم رجع إلى أبي قير فرآه قد أكل جميع ما في الصحن ورماه فارغا.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الثلاثين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا صير لما رجع إلى أبي قير رآه قد أكل ما في الصحن ورماه فارغاً فأخذه وأوصله إلى أتباع القبطان ورجع إلى أبي قير ونام إلى الصباح فلما كان ثاني الأيام صار أبو صير يحلق وكلما جاء له شيءٌ يعطيه لأبي قير وأبو قير يأكل ويشرب وهو قاعدٌ لا يقوم إلا لإزاله الضرورة وكل ليلةٍ يأتي له بصحنٍ ملآن من عند القبطان واستمر على هذه الحالة عشرين يوماً حق رسا الغليون على مدينة فطلعا من الغليون ودخلا تلك المدينة وأخذا لهما حجرة في خان وفرشها أبو صير واشترى جميع ما يحتاجان إليه وجاء بلحم وطبخه وأبو قير نائمٌ من حين دخل الحجرة ولم يستيقظ حتى أيقظه أبو صير ووضع السفرة بين يديه فلما أفاق أكل.

 

وبعد ذلك قال له لا تؤاخذني فأني دايخٌ ثم نام واستمر على هذه الحالة أربعين يوماً وكل يومٍ يحمل المزين العدة ويدور في المدينة فيعمل بالذي فيه النصيب ويرجع فيجد أبا قير نائماً فينبهه وحين ينتبه يقبل على الأكل بلهفة فيأكل أكل من لا يشبع ولا يقنع ثم ينام ولم يزل كذلك مدة أربعين يوماً أخرى وكلما يقول له أبو صير أجلس ارتاح واخرج تفسح في المدينة فأنها فرجة وبهجةٌ وليس لها نظيرٌ في المدائن يقول له أبو قيل الصباغ لا تؤاخذني أني دايخ فلا يرضي أبو صير المزين أن يكدر خاطره ولا يسمع كلمة تؤذيه وفي اليوم الحادي والأربعين مرض المزين ولم يقدر أن يسرح فسخر بواب الخان فقضى لهما حاجتهما وأتى لهما بما يأكلان وما يشربان كل ذلك وأبو قير يأكل وينام ولا زال المزين يسخر بواب الخان في قضاء حاجته مدة أربعة أيامٍ.

 

وبعد ذلك اشتد المرض على المزين حتى غاب عن الوجود من شدة مرضه وأما أبو قير فإنه أحرقه الجوع فقام وفتش في ثياب أبي كير فرأى معه مقداراً من الدراهم فأخذه وقفل باب الحجرة على أبي صير ومضى ولم يعلم أحداً وكان البواب في السوق فلم يره حين خروجه ثم أن أبا كير عمد إلى السوق وكسا نفسه ثياباً نفيسةً وصار يدور في المدينة ويتفرج فرآها مدينة ما وجد مثلها في المدائن وجميع ملبوسها أبيض وأزرق من غير زيادة فأتى إلى صباغ فرأى جميع ما في دكانه أزرق فأخرج له محرمة وقال له يا معلم خذ هذه المحرمة واصبغها وخذ اجرتك فقال له إن أجرة صبغ هذه عشرون درهماً فقال له نحن نصبغ هذه في بلادنا بدرهمين فقال رح اصبغها في بلادكم وأما أنا فلا أصبغها إلا بعشرين درهماً لا تنقص عن هذا القدر شيئاً.

 

فقال له أبو قير أي لونٍ تريد صبغها فقال له الصباغ زرقاء قال له أبو قير أنا مرادي أن تصبغها إلي حمراء قال له لا أدري صباغ الأحمر قال خضراء قال لا أدري صباغ الأخضر قال صفراء قال له لا أدري صباغ الأصفر وصار أبو قير يعد له الألوان لوناً بعد لونٍ فقال له الصباغ نحن في بلادنا أربعون معلماً لا يزيدن واحداً ولا ينقصون واحداً وإذا مات منا واحدٌ نعلم ولده وإن لم يخلف ولداً نبقى ناقصين واحداً والذي له ولدان نعلم واحداً منهما فإن مات علمنا أخاه وصنعتنا هذه مضبوطة ولا نعرف أن نصبغ غير الأزرق من غير زيادةٍ فقال له أبو قير الصباغ اعلم أني صباغ وأعرف أن أصبغ سائر الألوان ومرادي أن تخدمني عندك بالأجرة وأنا أعلمك جميع الألوان لأجل أن تفتخر بها على كل طائفة من الصباغين فقال له نحن لا نقبل غريباً يدخل في صنعتنا أبداً فقال هل وإذا فتحت لي مصبغة وحدي. فقال له لا يمكنك ذلك أبداً فتركه وتوجه الثاني فقال له كما قال له الأول ولم يزل ينتقل من صباغ إلى آخر حتى طاف على الأربعين معلماً فلم يقبلوه لا أجيراً ولا معلماً فتوجه إلى شيخ الصباغين واخبره فقال له أننا لا نقبل غريباً يدخل في صنعتنا فحصل عند أبي قير غيظٌ عظيمٌ وطلع يشكو إلى ملك تلك المدينة وقال له: يا ملك الزمان أنا غريبٌ وصنعت الصباغة وجرى لي مع الصباغين ما هو كذا وكذا وأنا أصبغ الأحمر ألوانا مختلفة كوردي وعنابي والأخضر ألواناً مختلفة كزرعي وفستقي وزيتي وجناح الدرة والأسود ألواناً مختلفة كفحمي وكحلي والأصفر ألوانا مختلفة كنارنجي وليموني وصار يذكر له سائر الألوان ثم قال يا ملك الزمان كل الصباغين الذين في مدينتنا لا يخرج من أيديهم أن يصبغوا شيئاً من هذه الألوان ولا يعرفون إلا صبغ الأزرق ولم يقبلوني أن أكون عندهم معلماً ولا أجير.

 

فقال له الملك صدقت في ذلك ولكن أنا أفتح لك مصبغة وأعطيك رأس مال وما عليك منهم وكل من تعرض لك شنقته على باب دكانه، ثم أمر البنائين وقال لهم امضوا مع هذا المعلم وشقوا أنتم وإياه في المدينة وأي مكان أعجبه فأخرجوا صاحبه منه سواء كان دكاناً أو خاناً أو غير ذلك وأبنوا له مصبغةً على مراده ومهما أمركم به ففعلوه ولا تخالفوه فيما يقول.

 

ثم أن الملك ألبسه بدلةً مليحةً وأعطاه ألف دينارٍ وقال له اصرفها على المرض الذي كان به، ثم قام على قدميه وقال لبواب الخان أن قدرني الله تعالى جازيتك على ما فعلته معي من الخير، ولكن لا يجازي إلا الله من فضله فقال له بواب الخان: الحمد لله على العافية أنا ما فعلت معك ذلك إلا ابتغاء وجه الله الكريم، ثم أن المزين خرج من الخان وشق في الأسواق فأتت به المقادير إلى السوق الذي فيه مصبغة أبو قير فرأى الأقمشة ملونة بالصباغ منشورة في باب المصبغة والخلائق مزدحمة يتفرجون عليها، فسأل رجلاً من أهل المدينة وقال له ما هذا المكان وما لي أرى الناس مزدحمين؟ فقال له المسؤول إن هذه مصبغة السلطان التي أنشأها رجلٌ غريبٌ اسمه أبو قير وكلما صبغ ثوباً نجتمع عليه ونتفرج على صبغه لأن بلادنا ما فيها صباغون يعرفون صبغ هذه الألوان.

 

وجرى له مع الصباغين الذين في البلد ما جرى، وأخبره بما جرى بين أبي قير وبين الصباغين وأنه شكاهم إلى السلطان فأخذ بيده وبنى له هذه المصبغة وأعطاه كذا وكذا وأخبره بكل ما جرى، ففرح أبو صير وقال في نفسه الحمد لله الذي فتح عليه وصار معلماً والرجل معذور لعله تلهى عنك بالصنعة ونسيك ولكن أنت عملت معه معروفاً وأكرمته وهو بطال فمتى رأك فرح بك وأكرمك نظير ما أكرمته.

 

ثم أنه تقدم إلى جهة باب المصبغة فرأى أبا قير جالساً على مكتبةٍ عاليةٍ فوق مصطبة في باب المصبغة وعليه بدلة من ملابس الملوك وقدامه أربعة عبيدٍ وأربعة مماليكٍ بيضٍ لابسين أفخر الملابس ورأى الصنائعية عشرة عبيدٍ واقفين يشتغلون لأنه حين اشتراهم علمهم الصباغة وهو قاعد بين المخدات كأنه وزيراً عظيماً وملك أفخم لا يعمل شيئاً بيده وإنما يقول لهم افعلوا كذا وكذا فوقف أبو صير قدامه وهو يظن أنه إذا رآه يفرح به ويسلم عليه ويكرمه ويأخذ بخاطره.

 

فلما وقعت العين في العين قال له أبو قير يا خبيث كم مرةٍ وأنا أقول لك لا تقف نفسك حتى تتم البناية وأعطاه مملوكين من أجل الخدمة وحصاناً بعدة مزركشة فلبس البدلة وركب الحصان وصار كأنه أمير وأخلى له الملك بيتاً وأمر بفرشه ففرشوه.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الواحدة والثلاثين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أخلى بيتاً لأبي قير وأمر بفرشه ففرشوه له وسكن فيه وركب في ثاني يومٍ وشق في المدينة والمهندسون قدامه ولم يزل يتأمل حتى أعجبه مكان فقال هذا المكان طيبٌ فأخرجوا صاحبه منه وأحضروه إلى الملك فأعطاه ثمن دكانه زيادةً على ما يرضيه ودارت فيه البناية وصار أبو قير يقول للبنائين ابنوا كذا وكذا وافعلوا كذا وكذا حتى بنوا له مصبغة ليس لها نظير، ثم حضر إلى الملك وأخبره بأن المصبغة تم بناؤها وإنما يحتاج لثمن الصباغ من أجل إدارتها. فقال له الملك: خذ هذه الأربعة آلاف دينار واجعلها رأس مال وأرني ثمرة مصبغتك فأخذها ومضى إلى السوق فرأى النيلة كثيرة وليس لها ثمن فاشترى جميع ما يحتاج إليه من حوائج للصباغة، ثم أن الملك أرسل إليه خمسمائة شقفة من القماش فدور الصبغ فيها وصبغها من سائر الألوان ثم نشرها قدام باب المصبغة فلما مر الناس بجانبها رأوا شيئاً عجيباً عمرهم ما رأوا مثله، فازدحمت الخلائق على باب محله وصاروا يتفرجون ويسألونه ويقولون له يا معلم ما اسم هذه الألوان فيقول لهم هذا أحمر وهذا أصفر وهذا أخضر ويشرح لهم أسامي الألوان فصاروا يأتونه بشيءٍ من القماش ويقولون له اصبغ لنا مثل هذا وذاك وخذ ما تطلب.

 

ولما فرغ من صباغ قماش الملك أخذه وطلع به إلى الديوان، فلما رأى الملك ذلك الصباغ فرح به وأنعم عليه إنعاماً زائداً وصار جميع العسكر يأتون إليه بالقماش ويقولون له اصبغ لنا هكذا فيصبغ لهم على أغراضهم ويرمون عليه بالذهب والفضة، ثم أنه شاع ذكره وسميت مصبغته مصبغة السلطان ودخل عليه الخير من كل باب وجميع الصباغين لم يقدر أحدٌ أن يتكلم معه إنما كانوا يأتونه ويقبلون بديه ويعتذرون إليه مما سبق منهم في حقه ويعرضون أنفسهم عليه ويقولون له اجعلنا خدماً عندك فلم يرض أن يقبل أحداً منهم وصار عنده عبيد وجوار وجمع مالاً كثيراً.

 

هذا ما كان من أمر أبي قير. وأما ما كان من أمر أبي صير فإنه لما قفل عليه أبو قير باب الحجرة بعد أن أخذ دراهمه وراح وخلاه وهو مريضٌ غائبٌ عن الوجود فصار مرمياً في تلك الحجرة والباب مقفولٌ عليه واستمر على ذلك ثلاثة أيامٍ فانتبه بواب الخان إلى باب الحجرة فرآه مقفولاً ولم ير أحداً من هذين الإثنين إلى المغرب ولم يعلم لهما خبراً فقال في نفسه لعلهما سافرا ولم يدفعا أجرة الحجرة أو ماتا أو ما خبرهما؟ ثم أنه أتى إلى باب الحجرة فرآه مقفولاً وسمع أنينٌ في داخلها ورأى المفتاح في الضبة ففتح الباب ودخل فرأى المزين يئن فقال له لا بأس عليك أين رفيقك؟ فقال له والله إني ما أفقت من مرضي إلا في هذا اليوم وصرت أنادي فما أحد رد علي جواباً، بالله عليك يا أخي أن تنظر الكيس تحت رأسي وتأخذ منه خمسة أصناف وتشتري لي بها شيئاً أقتات به فأني في غاية الجوع فمد يده فرآه فارغاً فقال للمزين إن الكيس فارغٌ ما فيه شيءٌ فعرف أبو صير المزين أن أبا قير سرق ما فيه وهرب فقال له: أما رأيت رفيقي فقال له من مدة ثلاثة أيامٍ ما رأيته وما كنت أظن إلا أنك سافرت وإياه، فقال له المزين ما سافرنا وإنما طمع في فلوسي فأخذها وهرب حين رآني مريضاً ثم أنه بكى وانتحب، فقال له بواب الخان: لا بأس عليك وهو يلقى فعله من الله.

 

ثم أن بواب الخان راح وطبخ له شوربا وغرف له صحناً وأعطاه إياه ولم يزل يتعهده مدة شهرين وهو يكلفه من كيسه حتى عرق وشفاه الله من مرضه. وذات يومٍ وهو يتجول في المدينة إذ صادف صديقه أبو قير في مصبغته والخدم بخدمته فتقدم وسلم عليه وأخذ يعاتبه على تركه إياه أثناء مرضه فما كان من أبو قير إلا ونهره من أمامه وقال له: اخرج من عندي هل مرادك أن تفضحني مع الناس يا حرامي أمسكوه فجرت خلفه العبيد وقبضوا عليه وقام أبو قير على حيله وأخذ عصاً وقال ارموه فرموه فضربه على ظهره مائة ثم قلبوه فضربه على بطنه مائة وقال يا خبيث يا خائن إن نظرتك بعد هذا اليوم واقفاً على باب المصبغة أرسلتك إلى الملك في الحال فيسلمك إلى الوالي ليرمي عنقك امش لا بارك الله لك فذهب من عنده مكسور الخاطر بسبب ما حصل له من الضرب والترذيل فقال الحاضرون لأبي قير الصباغ أي شيء عمل هذا الرجل فقال لهم: أنه حرامي سرق أقمشة الناس.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الثانية والثلاثين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا قير ضرب أبا صير وطرده وقال للناس إن هذا حرامي يسرق أقمشة الناس فإنه سرق مني كم مرة من القماش وأنا أقول في نفسي سامحه الله فأنه رجلٌ فقيرٌ ولم أرض أن أشوش عليه وأعطي للناس ثمن أقمشتهم وأنهاه بلطفٍ فلم ينته فإن رجع مرة غير هذه المرة أرسلته إلى الملك فيقتله ويريح الناس من أذاه فصار الناس يشتمونه بعد ذهابه هذا من كان من أمر أبي قير. وأما ما كان من أمر أبي صير فإنه رجع إلى الخان وجلس يتفكر فيما فعل به أبو قير ولم يزل جالساً حتى يرد عليه الضرب ثم خرج وشق في أسواق المدينة فخطر بباله أن يدخل الحمام فسأل رجلٌ من أهل المدينة وقال له يا أخي من أين طريق الحمام؟ أجابه: أي حمام؟ فقال له: موضع تغتسل فيه الناس ويزيلون عليهم من الأوساخ وهو من أطيب طيبات الدنيا فقال له عليك بالبحر قال أنا مرادي الحمام قال له نحن لا نعرف الحمام كيف يكون كلنا نروح إلى البحر حتى الملك إذا أراد أن يغتسل فإنه يروح البحر فلما علم أبو صير إلى المدينة ليس فيها حماماً وأهلها لا يعرفون الحمام ولا كيفيته مشى إلى الملك ودخل عليه وقبل الأرض بين يديه ودعا له وقال له أنا رجلٌ غريب البلاد وصنعتي حمامي فدخلت مدينتك وأردت الذهاب إلى الحمام فما رأيت فيها ولا حماماً واحداً والمدينة التي تكون بهذه الصفة الجميلة كيف تكون من غير حمام مع أنه من أحسن نعيم الدنيا.

 

فقال له الملك أي شيءٍ يكون الحمام فصار يحكي له أوصافه وقال له لا تكون مدينتك كاملة إلا إذا كان بها حمام فقال له مرحباً بك وألبسه بدلةٌ ليس لها نظير وأعطاه حصاناً وعبيدين ثم أنعم عليه بأربع جوار ومملوكين وهيأ له دار مفروشة وأكرمه أكثر من الصباغ وأرسل معه البنائين وقال لهم الموضع الذي يعجبه أبنوا له فيه حمام فأخذهم وشق بهم في وسط المدينة حتى أعجبه مكان فأشار لهم إليه فدوروا فيه البناية وصار يرشدهم إلى كيفيته حتى بنوا له حماماً ليس له نظير ثم أمرهم بنقشه فنقشوه نقشاً عجيباً حتى صار بهجة للناظرين.


ثم طلع الملك وأخبره بفراغ بناء الحمام ونقشه وقال له إنه ليس ناقصاً غير الفرش فأعطاه الملك عشرة آلاف دينارٍ فأخذها وفرش الحمام وصف فيه الفوط على الحبال وصار كل من مر على باب الحمام يشخص له ببصره ويحتار فكره في نقشه وازدحمت الخلائق على ذلك الشيء الذي لم يرو مثله في عمرهم وصاروا يتفرجون عليه ويقولون أي شيءٍ هذا فيقول لهم أبو صير حمام فيتعجبون منه ثم أنه سخن الماء ودور الحمام وعمل سلسبيلاً في الفستقية يأخذ كل من رآه من أهل المدينة وطلب من الملك عشرة مماليك دون البلوغ فأعطاه عشرة مماليك مثل الأقمار فصار يكسبهم، ويقول لهم افعلوا مع الزبائن هكذا.

 

ثم أطلق البخور وأرسل منادٍ ينادي في المدينة ويقول: يا خلق الله عليكم بالحمام فإنه يسمى حمام السلطان فأقبلت عليه الخلائق وجعل يأمر المماليك أن يغتسلوا أجساد الناس وصار الناس ينزلون المغطس ويطلعون واستمر الناس يدخلون الحمام ويقضون حاجتهم منه ثم يخرجون بلا أجرةٍ وبعد طلوعهم يجلسون في الليوان والمماليك تكبسهم مثل ما علمهم أبو صير مدة ثلاثة أيامٍ وفي اليوم الرابع عزم الملك على الذهاب إلى الحمام فركب هو وأكابر دولته وتوجهوا إلى الحمام فقلع ودخل فدخل أبو صير وكبس الملك وأخرج من جسده الوسخ مثل الفتايل وصار يريه له ففرح الملك وصار لوضع يده على بدنه صوت من النعومة والنظافة وبعد أن غسل جسده مزج له ماء الورد بماء المغطس فنزل الملك في المغطس ثم خرج وجسده قد ترطب فحصل له نشاط عمره ما رآه ثم بعد ذلك أجلسه في الليوان وصار المماليك يكبسونه والمباخر تفوح والعود والند فقال الملك: يا معلم أهذا هو الحمام؟ قال: نعم فقال له: وحياة رأسي أن مدينتي ما صارت مدينة إلا بهذا الحمام ثم قال له: أنت تأخذ على كل رأس أي شيء أجرة فقال أبا صير: الذي تأمر به آخذه فأمر له بألف دينارٍ فقال: العفو يا ملك الزمان إن الناس ليسوا سواء بل فيهم الغني وفيهم الفقير وإذا أخذت من كل واحد ألف دينار يبطل الحمام فأن الفقير لا يقدر على ألف دينارٍ. قال الملك: وكيف تفعل في الأجرة؟ قال: اجعل الأجرة بالمروءة فكل من يقدر على شيءٍ سمحت به نفسه يعطيه فنأخذ من كل إنسان على قدر حاله فإن الأمر إذا كان كذلك تأتي إلينا الخلائق والذي يكون غنياً يعطي على قدر مقامه والذي يكون فقيراً يعطي على قدر ما تسمح به نفسه فإذا كان الأمر كذلك يدور الحمام ويبقى له شأن عظيم وأما الألف دينار فإنها عطية الملك ولا يقدر عليها كل أحد فصدق عليه أكابر الدولة وقالوا له: هذا هو الحق يا ملك الزمان أتحسب أن الناس كلهم مثلك أيها الملك العزيز قال الملك: إن كلامكم صحيحٌ ولكن هذا الرجل غريب فقيراً وإكرامه واجبٌ علينا فإنه عمل في مدينتنا هذا الحمام الذي عمرنا ما رأينا مثله ولا تزينت مدينتنا وصار لها شأن إلا به فإذا أكرمناه بزيادة الأجرة ما هو كثير.

 

فقالوا له: إذا كنت تكرمه فأكرمه من مالك وإكرام الفقير من الملك بقلة أجرة الحمام لأجل أن يدعو لك الرعية وأما الألف دينار فنحن أكابر دولتك ولا تسمح أنفسنا بعطائها فكيف تسمح بذلك نفوس الفقراء؟ فقال الملك: يا أكابر دولتي كل منكم يعطيه في هذه المرة مائة دينارٍ ومملوكاً وجاريةً وعبد فقالوا: نعم نعطيه ذلك ولكن هذا اليوم كل من دخل لا يعطيه إلا ما تسمح به نفسه فقال: لا بأس بذلك فجعلت الأكابر يعطيه كل واحد منهم مائة دينارٍ وجاريةً ومملوكاً وعبداً وكان عدد الأكابر الذين اغتسلوا مع الملك في هذا اليوم أربعمائة نفس.


وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الثالثة والثلاثين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان عدد الأكابر الذين اغتسلوا مع الملك في هذا اليوم أربعمائة نفس فصار جملة ما أعطوه من الدنانير أربعين ألف دينارٍ ومن المماليك أربعمائة مملوكٍ ومن العبيد أربعمائة عبدٍ من الجواري أربعمائة جارية وناهيك بهذه العطية وأعطاه الملك عشرة الألف دينار وعشر جوار وعشرة عبيد فتقدم أبو صير وقبل الأرض بين أيادي الملك وقال له: أيها الملك السعيد، وصاحب الرأي الرشيد أي مكان يسعى بهذه المماليك والجواري والعبيد؟ فقال له الملك: أنا ما أمرت دولتي بذلك إلا لأجل أن نجمع لك مقداراً عظيماً من المال لأنك ربما تفكرت بلادك وعيالك واشتقت إليهم وأردت السفر إلى أوطانك فتكون أخذت من بلادنا مقداراً جسيماً من المال تستعين به على وقتك في بلادك.

 

قال: يا ملك الزمان أعزك الله أن هذه المماليك والجواري والعبيد الكثيرة شأن الملوك ولو كنت أمرت لي من هذا الجيش فإنهم يأكلون ويشربون ومهما حصلته من المال لا يكفيهم في الإنفاق عليهم ولكن أتبيعهم لي كل واحدٍ بمائة دينارٍ؟ فقال: بعتك إياهم بهذا الثمن فأرسل الملك إلى الخازندار ليحضر له المال فأحضره وأعطاه ثمن الجميع بالتمام والكمال ثم بعد ذلك أنعم الله بهم على أصحابهم وقال: كل من يعرف عبده أو جاريته أو مملوكه فليأخذه فأنهم هدية مني إليكم فامتثلوا أمر الملك وأخذ كل واحدٍ منهم ما يخصه فقال له أبو صير: أراحك الله يا ملك الزمان كما أرحتني من هؤلاء الغيلان الذين لا يقدر أن يشبعهم إلا الله فضحك الملك من كلامه وتصدق عليه ثم أخذ أكابر دولته وذهب من الحمام إلى سرايته وبات تلك الليلة أبو صير وهو يصر الذهب ويضعه في الأكياس ويختم عليه وكان عنده عشرون عبداً وعشرون مملوكاً وأربع جوارٍ برسم الخدمة.

 

فلما أصبح الصباح فتح الحمام وأرسل منادٍ ينادي ويقول: كل من دخل الحمام واغتسل فأنه يعطي ما تسمح به نفسه وما تقتديه مروءته وقعد أبو صير عند الصندوق وهجمت عليه الزبائن وصار كل من طلع يحط الذي يهون عليه فما أمسى المساء حتى امتلأ الصندوق من خيرات الله تعالى. ثم أن الملكة طلبت دخول الحمام فلما بلغ أبا صير ذلك قسم النهار من أجلها وجعل الفجر إلى الظهر للرجال ومن الظهر إلى المغرب قسم للنساء ولما أتت الملكة أو جارية خلف الصندوق وكان علم أربع جوار البلانة حتى صرن بلانات ماهرات، فلما أعجبها ذلك وانشرح صدرها حطت ألف دينارٍ وشاع ذكره في المدينة وصار كل من دخل يكرمه سواء غنياً أو فقيراً فدخل عليه الخير من كل بابٍ وتعرف بأعوان الملك وصار الملك يأتي إليه في الجمعة يومياً ويعطيه ألف دينار وبقية أيام الجمعة للأكابر والفقراء وصار يأخذ بخاطر الناس ويلاطفهم غاية الملاطفة فاتفق أن قبطان الملك لما دخل عليه يوماً من الأيام فقلع أبو صير ودخل وصار يكبسه ويلاطفه ملاطفةً زائدةً ولما خرج من الحمام عمل له الشربات والقهوة فلما أراد أن يعطيه شيئاً حلف أنه لا يأخذ منه شيئاً فحمل القبطان جميلة لما رأى من مزيد لطفه وإحسانه إليه وصار متحيراً فيما يهديه إلى ذلك الحمامي، وقالت له أمه: هذا ما كان من أمر أبي صير.

 

وأما ما كان من أمر أبي قير فأنه لما سمع جميع الخلائق يلهجون بذكر الحمام وكل منهم يقول: إن هذا الحمام نعيم الدينا بلا شك إن شاء الله يا فلان تدخل بنا غداً هذا الحمام النفيس فقال أبو قير في نفسه: لا بد أن أروح مثل الناس وأنظر هذا الحمام الذي أخذ عقول الناس ثم أنه لبس أفخر ما كان عنده من الملابس وركب بغلةً وأخذ معه أربعة عبيدٍ وأربعة مماليكٍ يمشون خلفه وقدامه وتوجه إلى الحمام ثم أنه نزل في باب الحمام فلما صار عند الباب شم رائحة العود والند ورأى ناساً داخلين وناساً خارجين ورأى المساطب ملآنة من الأكابر والأصاغر فدخل الدهليز فرآه أبو صير فقام إليه وفرح به فقال له أبو قير: هل هذا شرد أولاد الحلال وإنا فتحت لي مصبغة وبقيت معلم البلد وتعرفت بالملك وصرت في سعادةٍ وسيادةٍ وأنا وأنت لا تأتي عندي ولا تسأل عني ولا تقول أين رفيقي وأنا عجزت وأنا أفتش عليك وأبعث عبيدي ومماليكي يفتشون عليك في الحانات وفي سائر الأماكن فلا يعرفون طريقك ولا أحدٍ يخبرهم بخبرك، فقال له أبو صير: أما جئت إليك وعملتني لصاً وضربتني وهتكتني بين الناس فاغتم أبو قير وقال: أي شيءٍ هذا الكلام؟ هل أنت الذي ضربتك؟ فقال أبو صير: نعم هو أنا فحلف له أبو قير ألف يمينٍ أنه ما عرفه وقال: إنما كان واحدٌ شبيهك يأتي في كل يومٍ ويسرق قماش الناس فظننت أنك هو وصار يتندم ويضرب كفاً على كفٍ، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قد أسأناك ولكن يا ليتك عرفتني بنفسك وقلت أنا فلان فالعيب عندك لكونك لم تعرفني خصوصاً وأنا مدهوش من كثرة الأشغال فقال له أبو صير: سامحك الله يا رفيقي وهذا الشيء كان مقداراً في الغيب والجبر على الله ادخل أقلع ثيابك واغتسل وانبسط فقال له: بالله عليك أن تسامحني يا أخي فقال له: أبرأ الله ذمتك وسامحك فأنه كان أمراً مقدراً علي في الأزل. ثم قال له أبو قير: ومن أين لك هذه السيادة؟ فقال له: الذي فتح عليك فتح علي فأني طلعت إلى الملك وأخبرته بشأن الحمام فأمر ببنائه فقال له: وكما أنه لك معرفةٌ بالملك فأنا الأخر عرفته.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الرابعة والثلاثين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا قير لما تعب هو وأبو صير قال له: كما أنت تعرف بالملك فأنا الآخر عرفته وإن شاء الله تعالى أنا أخليه يحبك ويكرمك زيادةً على هذا الإكرام من أجلي فإنه لم يعرف أنك رفيقي فأنا أعرفه بأنك رفيقي وأوصيه بك، فقال له: ما أحتاج إلى وصيةٍ فأن المحنن موجود وقد أحبني الملك هو وجميع رجال دولته وأعطاني كذا وكذا وأخبره بالخبر ثم قال: اقلع ثيابك خلف الصندوق وادخل الحمام وأنا أدخل معك لأجل أن أكبسك، فخلع ما عليه ودخل الحمام ودخل معه أبو صير وكبسه وصبنه وألبسه واشتغل له حتى خرج، فلما خرج أحضر له الغداء والشربات وصار جميع الناس يتعجبون من كثرة إكرامه له، ثم بعد ذلك أراد أبو قير أن يعطيه شيئاً فحلف أنه لا يأخذ منه شيئاً وقال له: استحي من هذا الأمر وأنت رفيقي وليس بيننا فرق. ثم أن أبا قير قال لأبي صير: يا رفيقي والله أن هذا الحمام عظيمٌ ولكن صنعتك فيه ناقصةً فقال له: وما نقصها؟ فقال له: الدواء الذي هو عقد الزرنيخ والجير الذي يزيل الشعر بسهولة فاعمل هذا الدواء فإذا أتى الملك فقدمه إليه وعلمه كيف يسقط الشعر فيحبك حباً شديداً ويكرمك، فقال له: صدقت إن شاء الله أصنع ذلك.

 

ثم أن أبا قير خرج وركب بغلته وذهب إلى الملك ودخل عليه وقال له: أنا ناصح لك يا ملك الزمان فقال له: وما نصيحتك؟ فقال: بلغني خبراً وهو أنك بنيت حماماً، قال: نعم قد أتاني رجلٌ غريبٌ فأنشأته له كما أنشأت لك هذه المصبغة وهو حمامٌ عظيمٌ وقد تزينت مدينتي، وصار يذكر له محاسن ذلك الحمام، فقال أبو قير: وهل دخلته؟ قال: نعم، قال: الحمد لله الذي نجاك من شر هذا الخبيث عدو الدين وهو الحمامي، فقال له الملك: وما شأنه؟ قال له أبو قير: اعلم يا ملك الزمان أنك إن دخلته بعد هذا اليوم فأنك تهلك، فقال له: لأي شيءٍ؟ فقال له: إن الحمامي عدوك وعدو الدين فأنه ما حملك على إنشاء هذا الحمام إلا لأن مراده أن يدخل عليك فيه السم، فأنه صنع لك شيئاً وإذا دخلته يأتيك به ويقول لك: هذا دواء كل من دهن به نفسه يرمي الشعر منه بسهولةٍ وليس هو بدواء بل هو داءٌ عظيمٌ وسمٌ قاتلٌ وأن هذا الخبيث قد وعده سلطان النصارى أنه إن قتلك يفك له زوجته وأولاده من الأسر فإن زوجته وأولاده مأسورين عند سلطان النصارى وكنت مأسوراً معه في بلادهم ولكن أنا فتحت مصبغةً وصبغت لهم حوائجهم فاستعطفوا علي قلب الملك.

 

فقال الملك: أي شيءٍ تطلب؟ فطلبت العتق فأعتقني وجئت إلى هذه المدينة ورأيته في الحمام فسألته كيف كان خلاصك وخلاص زوجتك وأولادك فقال: لم أزل أنا وزوجتي وأولادي مأسورين حتى أن ملك النصارى عمل ديواناً فحضرت في جملة من حضر وكنت واقفاً من جملة الناس فسمعتهم فتحوا مذاكرة الملوك إلى أن يذكروا ملك هذه المدينة، فتأوه ملك النصارى وقال: ما قهرني في الدنيا إلا ملك المدينة الفلانية فكل من تحيل لي على قتله فأني أعطيه كل ما يتمنى، فتقدمت أنا إليه وقلت له: إذا تحليت لك على قتله هل تعتقني أنا وزوجتي وأولادي؟ فقال له: نعم أعتقكم وأعطيك كل ما تتمنى ثم أني اتفقت وإياه على ذلك وأرسلني في غليون إلى هذه المدينة وطلعت إلى هذا الملك فبنى لي هذا الحمام وما بقي لي إلا أن أقتله وأروح إلى ملك النصارى وافدي أولادي وزوجتي وأتمنى عليه، فقلت وما الحيلة التي دبرتها في قتله حتى تقتله؟ قال لي: هي حيلة سهلة أسهل ما يكون، فأنه يأتي إلي في هذا الحمام وقد اصطنعت له شيئاً فيه سمٌ فإذا جاء أقول له: خذ هذا الدواء وادهن به تحتك فأنك يسقط الشعر فيأخذه ويدهن به تحته فيلعب السم فيه يوماً وليلةٍ حتى يسري إلى قلبه فيهلكه والسلام، فلما سمعت منه هذا الكلام خفت عليك لأن خيرك علي وقد أخبرتك بذلك.

 

فلما سمع الملك هذا الكلام غضب غضباً شديداً وقال للصباغ: اكتم هذا السر، ثم طلب الرواح إلى الحمام حتى يقطع الشك باليقين، فلما دخل الحمام تعرى أبو صير على جري عادته وتقيد بالملك وكبسه وبعد ذلك قال له: يا ملك الزمان إني عملت دواءً لتنظيف الشعر التحتاني فقال له: أحضره لي فأحضره بين يديه فرأى رائحته كريهة فصح عنده أنه سمٌ فغضب وصاح على الأعوان وقال: أمسكوه فقبض عليه الأعوان وخرج الملك وهو يشتعل بالغضب ولا أحدٌ يعرف سبب غضبه، ومع شدة غضب الملك لم يخبر أحداً ولم يتجاسر أحدٌ أن يسأله.

 

ثم أنه لبس وطلع الديوان ثم أحضر أبا صير بين يديه وهو مكتف ثم طلب القبطان فحضر، فلما دخل القبطان قال له: خذ هذا الخبيث وحطه في زكيبة وحط في الزكيبة قنطارين جيراً من غير طفئ وأربط فمها عليه هو والجير ثم ضعها في الزورق وتعال تحت قصري فتراني جالساً في شباكي وقل لي: هل أرميه؟ فأقول لك: ارميه فإذا قلت لك ذلك فأرمه حتى ينطفئ الجير عليه لأجل أن يموت غريقاً، فقال سمعاً وطاعةً. ثم أخذه من قدام الملك إلى جزيرةٍ قبال قصر الملك وقال لأبي صير: يا هذا أنا جئت عندك مرة واحدةً في الحمام فأكرمتني وقمت بواجبي وانبسطت منك كثيراً وحلفت أنك لم تأخذ مني أجرةً وأنا قد أحببتك محبةً شديدةً، فأخبرني ما قضيتك مع الملك وأي شيءٍ صنعت له من المكاره حتى غضب عليك وأمر أن تموت هذه الميتة الرديئة؟ فقال له: والله ما علمت شيئاً وليس عندي علمٌ بذنبٍ فعلته معه يستوجب هذا.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة الخامسة والثلاثين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن القبطان لم سأل أبا صير عن سبب غضب الملك عليه قال له: والله يا أخي ما عملت شيئاً قبيحاً يستوجب هذا، فقال له القبطان: أن لك عند الملك مقاماً عظيماً ما ناله أحدٌ قبلك وكل ذي نعمةٍ محسودٍ، فلعل أحداً حسدك على هذه النعمة ورمى في حقك بعض الكلام عند الملك حتى أن الملك غضب عليك هذا الغضب، ولكن مرحباً بك وما عليك من بأسٍ فكما أنك أكرمتني من غير معرفةٍ بيني وبينك فأنا أخلصك ولكن إذا خلصتك تقيم عندي في هذه الجزيرة حتى يسافر من هذه المدينة غليون إلى ناحية بلادك فأرسلك معه، فقبل أبو صير يد القبطان وشكره على ذلك. ثم أنه أحضر الجير ووضعه في زبيكة ووضع فيها حجراً كبيراً قدر الرجل وقال: توكلت على الله، ثم أن القبطان أعطى أبا صير شبكةً وقال له: ارم هذه الشبكة في البحر لعلك تصطاد شيئاً من السمك لأن مطبخ الملك رتب علي في كل يومٍ وقد اشتغلت عن الصيد بهذه المصيبة التي أصابتك فأخاف أن تأتي غلمان الطباخ ليطلبوا السمك فلا يجدوه، فإن كنت تصطاد شيئاً فإنهم يجدونه حتى أروح أعمل الحيلة تحت القصر واجعل أني رميتك، فقال له أبو صير: أنا اصطاد وروح أنت والله يعينك.

 

فوضع الزبيكة في الزورق وسار إلى أن وصل تحت القصر فرأى الملك جالساً في الشباك فقال له: يا ملك الزمان هل أرميه؟ وأشار بيده وإذا بشيءٍ برق ثم سقط في البحر وإذا بالذي سقط في البحر خاتم الملك وكان مرصودا بحيث إذا غضب الملك على أحدٍ وأراد قتله يشير عليه باليد اليمنى التي فيها الخاتم فيخرج من الخاتم بارقةً فتصيب الذي يشير عليه فيقع رأسه من بين كتفيه، وما أطاعته العسكر ولا قهر الجبابرة إلا بسبب هذا الخاتم، فلما وقع الخاتم من إصبعه كتم أمره ولم يقدر أن يقول خاتمي وقع في البحر خوفاً من العسكر أن يقوموا عليه فيقتلوه فسكت. هذا ما كان من أمر الملك.

 

وأما ما كان من أمر أبو صير فإنه بعدما تركه القبطان أخذ الشبكة وطرحها في البحر وسحبها فطلعت ملآنة سمكاً ثم طرحها ثانيةً فطلعت ملآنة سمكاً أيضاً، ولم يزل يطرحها وهي تطلع ملآنة حتى صار قدامه كومةٌ كبيرةٌ من السمك، فقال في نفسه: والله أن لي مدة طويلة ما أكلت من السمك ثم أختار له سمكةً كبيرةً ثمينةً وقال: لما يأتي القبطان أقول له يقلي لي هذه السمكة لأتغدى، ثم أنه ذبحها بسكينٍ كانت معه فعلقت السكين في نخشوشها فرأى خاتم الملك فيه لأنها كانت ابتلعته ثم ساقها القدر إلى تلك الجزيرة ووقفت في الشبكة.

 

فتناول الخاتم ولبسه في خنصره وهو لا يعلم ما فيه من الخواص، وإذا بغلامين من خدام الطباخ أتيا لطلب السمك فلما صارا عند أبا صير قالا له: يا رجل أين راح القبطان؟ فقال: لا أدري وأشار بيده اليمنى وإذا برأسي الغلامين وقعا بين أكتافهما حين أشار إليهما وقال لا أدري، فتعجب أبو صير من ذلك وجعل يقول: يا هل ترى من قتلهما؟ وصعب عليه وصار يفكر في ذلك وإذا بالقبطان أقبل فرأى كوماً كبيراً من السمك ورأى الغلامين مقتولين ورأى الخاتم في إصبع أبي صير فقال له: يا أخي لا تحرك يدك التي فيها الخاتم فأنك أن حركتها قتلتني، فتعجب من قوله: لا تحرك يدك التي فيها الخاتم فأن حركتها قتلتني. فلما وصل إليه القبطان قال: من قتل هذين الغلامين؟ قال له: والله يا أخي لا أدري، قال: صدقت ولكن أخبرني عن هذا الخاتم من أين وصل إليك؟ قال: رأيته في نخشوش هذه السمكة، قال: صدقت فإني رأيته نازلاً يبرق من قصر الملك حتى سقط في البحر وقت أن أشار إليك وقال لي: ارمه فأنه لما أشار رميت الزبيكة وكان سقط من إصبعه ووقع في البحر فابتلعته هذه السمكة وساقها الله إليك حتى اصطدتها فهذا نصيبك، ولكن هل تعرف خواص هذا الخاتم؟ قال أبو صير: لا أدري له خواصاً، قال القبطان: اعلم أن عسكر ملكنا ما أطاعوه إلا خوفاً من هذا الخاتم لأنه مرصودٌ فإذا غضب الملك على أحدٍ وأراد قتله يشير به عليه فيقع رأسه من بين كتفيه، فإن بارقةً تحرج من هذا الخاتم ويتصل شعاعها بالمغضوب عليه فيموت لوقته.

 

فلما سمع أبو قير هذا الكلام فرح فرحاً شديداً وقال للقبطان: ردني إلى المدينة، فقال له القبطان: أردك فأني ما بقيت أخاف عليك من الملك فأنك متى أشرت بيدك وأضمرت على قتله فإن رأسه يقع بين يديك ولو كنت تطلب قتل الملك وجميع عسكره فأنك تقتلهم من غير عاقة ثم أنزله في الزورق وتوجه به إلى المدينة.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة السادسة والثلاثين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن القبطان لما أنزل أبا صير في الزورق توجه به إلى المدينة فلما وصل إليها طلع إلى قصر الملك ثم دخل الديوان فرأى الملك جالساً والعسكر بين يديه وهو في غمٍ عظيمٍ من شأن الخاتم ولم يقدر أن يخبر أحد من العسكر بضياع الخاتم.

 

فلما رآه الملك قال: أما رميناك في البحر كيف فعلت حتى خرجت منه؟ فقال له: يا ملك الزمان لما أمرت برميي في البحر أخذني قبطانك وسار بي إلى جزيرةٍ وسألني عن سبب غضبك علي وقال لي: أي شيءٍ صنعت مع الملك حتى أمر بموتك؟ فقلت له: والله ما أعلم أني عملت معه شيئاً قبيحاً فقال لي: إن لك مقاماً عظيماً عند الملك فلعل أحداً حسدك ورمى فيك كلاماً عند الملك حتى غضب عليك ولكن أنا جئتك في حمامك فأكرمتني ففي نظير إكرامك إياي في حمامك أنا أخلصك وأرسلك إلى بلادك.

 

ثم حط في الزورق حجراً عوضاً عني ورماه في البحر ولكن حين أشرت له علي وقع الخاتم من يدك في البحر فابتلعته سمكة وكنت أنا في الجزيرة اصطاد السمك فطلعت تلك السمكة في جملة السمكات فأخذتها وأردت أن أشويها فلما فتحت جوفها رأيت الخاتم فيه فأخذته وجعلته في إصبعي فأتاني اثنان من خدام المشايخ وطلبا السمكة فأشرت إليهما وأنا لا أدري خاصية الخاتم فوقع رأسيهما. ثم أتى القبطان فعرف الخاتم وهو في إصبعي وأخبرني برصده فأتيت به إليك لأنك عملت معي معروفا وأكرمتني غاية الإكرام وما عملته معي من الجميل لم يضع عندي وهذا خاتمك فخذه وإن كنت فعلت معك شيئاً يوجب القتل فعرفني بذنبي واقتلني وأنت في حلٍ من دمي. ثم خلع الخاتم من إصبعه وناوله للملك فلما رأى الملك ما فعل أبو صير من الإحسان أخذ الخاتم منه وتختم به فردت له روحه وقام على أقدامه واعتنق أبا صير وقال: أنت يا رجل من خواص أولاد الحلال فلا تؤاخذني وسامحني عما صدر مني في حقك ولو كان أحدٌ غيرك ملك هذا الخاتم لما كان أعطاني إياه فقال: يا ملك الزمان أن أردت أن أسامحك فعرفني بذنبي الذي أوجب غضبك علي حتى أمرت بقتلي؟ فقال له: والله أنه ثبت عندي أنك بريءٌ وليس لك ذنبٌ في شيءٍ حيث فعلت هذا الجميل وإنما الصباغ قال لي كذا وكذا وأخبره بما قاله الصباغ فقال له أبو صير: والله يا ملك الزمان أنا لا أعرف ملك النصارى ولا عمري رحت بلاد النصارى ولا خطر ببالي أني أقتلك ولكن هذا الصباغ كان رفيقي وجاري في مدينة الإسكندرية وضاق بنا العيش هناك فخرجنا منها لضيق المعاش وقرأنا مع بعضنا فاتحة على أن العمال يطعم البطال وجرى لي معه كذا وكذا وأخبره بجميع ما جرى له مع أبي قير الصباغ وكيف أخذ دراهمه وتركه ضعيفاً في الحجرة التي في الخان وأن بواب الخان كان ينفق عليه وهو مريض حتى شفاه الله تم طلع وسرح في المدينة حسب العادة فبينما هو في الطريق إذا رأى مصبغة عليها ازدحام فنظر في باب المصبغة فرأى أبا قير جالساً على مصطبة هناك فدخل ليسلم عليه فوقع منه ما وقع من الضرب والإساءة وادعى عليه أنه حرامي وضربه ضرباً مؤلماً وأخبر الملك بجميع ما جرى من أوله إلى آخره.

 

ثم قال: يا ملك الزمان هو الذي قال لي اعمل الدواء وقدمه للملك فإن الحمام كاملٌ من جميع الأمور إلا أن هذا الدواء مفقود منه واعلم يا ملك الزمان إن هذا الدواء لا يضر ونحن نصنعه في بلادنا وهو من لوازم الحمام وأنا كنت نسيته فلما أتاني الصباغ وأكرمته ذكرني به وقال لي: اعمل الدواء وأرسل يا ملك الزمان هات بواب الخان الفلاني وصنايعية المصبغة فلما حضر الجميع سألهم فأخبروه بالواقع فأرسل إلى الصباغ وقال: هاتوه حافياً مكشوف الرأس مكتفاً وكان الصباغ جالساً في بيته مسروراً بقتل أبو صير فلم يشعر إلا وأعوان الملك هجموا عليه وأوقعوا الضرب في قفاه ثم كتفوه وحضروا به قدام الملك فرأى أبا صير جالساً جنب البواب وبواب الخان وصنايعية المصبغة واقفين أمامه، فقال بواب الخان: أما هذا رفيقك الذي سرقت دراهمه وتركته عندي في الحجرة ضعيفاً وفعلت معه ما كذا وكذا؟ وقال له صنايعية المصبغة: أما هذا الذي أمرتنا بالقبض عليه وضربناه فتبين للملك قباحة أبا قير وأنه يستحق ما هو أشد من تشديدٍ منكرٍ ونكير؟ فقال الملك: خذوه وجرسوه في المدينة.

 

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

وفي الليلة السابعة والثلاثين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما سمع كلام بواب الخان وصنائعية المصبغة تحقق أنه عنده خبث أبي قير فأقام عليه النكير وقال لأعوانه: خذوه وجرسوه في المدينة وحطوه في زكيبة وارموه في البحر، فقال أبو صير: يا ملك الزمان شفعني فيه فأني سامحته من جميع ما فعل بي فقال الملك: إن كنت سامحته في حقك فأنا لا يمكن أن أسامحه في حقي، ثم صاح وقال: خذوه وجرسوه وبعد ذلك وضعوه في زكيبة ووضعوا معه الجير ورموه في البحر فمات غريقاً حريقاً وقال الملك: يا أبا صير تمن علي تعط، فقال له: تمنيت عليك أن ترسلني إلى بلادي فأني ما بقي لي رغبةٌ في القعود هنا فأعطاه شيئاً كثيراً زيادة على ماله ونواله ومواهبه ثم أنعم عليه بغلون مشحون بالخيرات وكان بحريته مماليك فوهبهم له أيضاً بعد أن عرض عليه أن يجعله وزيراً فما رضي ثم ودع الملك وسافر وجميع ما في الغليون ملكه حتى النوتية ملكه وما زال سائراً حتى وصل أرض الإسكندرية ورسوا على جانب إسكندرية وخرجوا إلى البر فرأى مملوكاً معه زكيبة في جانب البر. فقال: يا سيدي إن في جنب شاطئ البحر زكيبة ثقيلة وفما مربوط ولا أدري ما بها فأتى أبو صير وفتحها فرأى فيها أبو قير قد دفعه البحر إلى جهة إسكندرية فأخرجه ودفنه بالقرب من إسكندرية وعمل له مزاراً ووقف عليه أوقافاً ثم أن أبا صير أقام مدة وتوفاه الله فدفنوه بجوار قبر رفيقه أبي قير ومن أجل ذلك سمي هذا المكان بأبي قير وأبي صير واشتهر إلى الآن بأنه أبو قير، وهذا ما بلغنا من حكايتهما فسبحان الباقي على الدوام وبإرادته تصرف الليالي والأيام.