نـعي فاضـلة

 الآن وقد عرفتْ تنفست الصعداء؛ أغلقتْ أوراق الجريدة؛ أخلدتْ إلى الراحة؛ ما عادتْ مضطرة للركض، فالوقت أكثر من متاح، وهو منذ
اللحظة كافٍ، مطا ٌط وطويل.

ستستريح، وستنام ساعات متتالية دون أن يقلقها رنين منبه. تبًا لدوامها الصباحي، ولوجه مديرﺗﻬا القاتم باستمرار، وللمواعيد العاجلة والطارئة التي لا يمكن تجاهلها.

أخيرًا ستكون مع نفسها ولنفسها، من دون أن يشق الضوء جفنين مغمضين يغالبان النعاس، ومن دون أن تضطر مرغمة لبدء مشوار الركض والاحتمال.

امتحانات الصبر التي تدخلها لا تقل عن ثلاث مرات يوميًا، تحصي ذلك منذ أعوام. الآخرون خصوصًا أولئك الذين يحبوﻧﻬا، يعرفون كم تضبط أعصاﺑﻬا، لذلك يتكئون عليها، يستنفدون كامل طاقتها، دون أن يلوموا أنفسهم، فهم متأكدون أﻧﻬا ستحتمل. الخبر مكتوب بالخط العريض، إعلان يشغل الزاوية اليسرى من الصفحة.

الأيسر زاوية القلب، قلبها المتعب ظل يعاند ويكابر حتى ضاق تنفسها، واختلجت أطرافها، ازرقت أظافرها، ثم أغمي عليها مرتين متتاليتين.. قال لها كامل: إشارة خطر، والدكتور صاحبنا لن يأخذ (كشفية).

الدرجات الثلاثون التي كانت تصعدها بخفة فراشة لتصل قبل أي من أولادها، صار يستغرق منها ردحًا بين التلكؤ والراحة. تلتقط أنفاسها عند البسطات، أحيانًا تدخل عند جارﺗﻬا المطلقة أم ربيع فتشرب معها عصير الليمون المركز مذابًا بكم وافر من الماء، ينعشها، تستريح لبرهة، تحكيان عن كل شيء وعن لاشيء، وحين تتبادلان عبارة (اللهم احفظها علينا نعمة) تكون بمثابة إشارة تعني انفضاض اﻟﻤﺠلس .

- بخاطرك..
- مع السلامة..
- ابقي ضلك طلي..

لا شيء يفوق الصحة أهمية، هذا ما يدركه المرضى عادة. حين كانت بلياقة بطل ملاكمة، تجر خلفها قطارًا من المسؤوليات، استهترت بإرهاقها. يخيفها الألم، واحتمال ارتمائها في الفراش، المقعدون تتفسخ جلودهم، ويقرض الدود خلاياهم الحية، تتر قروحهم صديدًا، فتنبعث رائحٌة نتنٌة، وهي تعلم مقدار كسل زوجها ودلاله لنفسه، وتعلم أيضًا أن ابنتها الصغرى مصابة بمرض القرف، وأن ابنيها يفضلان لعب الكرة أكثر من تقليب جسد مريض، من طرف إلى طرف. لن يعتني ﺑﻬا أحد، لذلك استقبلت الخبر ﺑﻬدوء بالغ، بل إن ابتسامة طفيفة اختلجت بين شفتيها حين قرأت اسمها (سمر بنت الحاج عادل قرقفي زوجة المحامي كامل رضوان السيد). سمر، بحروف ثلاثة غير منقوطة، اسم سلس لأقل المخلوقات عبًئا، لا يهاﺑﻬا أحد، حتى زوجها الذي ارتبط بعلاقة مع جارﺗﻬا، اعتاد أن يشرب العصير عندها، خذلها، كما فعل الحزن والمرض، وقبلهم جميعًا أمها التي خذلتها حين تركتها صبية صغيرة، وأقامت مع زوجها الثاني في فرنسا.

لحقت هوى فؤادها، لا تذكر أﻧﻬا لامتها، إلا حين كانت تخلد للنوم في غرفتها المهملة في بيت أخيها حيث أودعتها، قبل أن تنتقل إلى بيت الزوجية، فترتاح زوج أخيها من همها. كانت متهمة بأﻧﻬا السبب الأوحد دون احتمالات ثانية للخناقات والمشاكل في البيت، لم تحتج يومًا، تعودت أن تتصل شهريًا بأمها، لتطمئنها عبر خطوط البرق والهاتف وعلى نحو منتظم. تضحك حين تربط الموعد بوقت دورﺗﻬا الشهرية كي لا تنسى. أمها كائن رقيق لا تحتمل النكد، لذلك كانت تروي لها في كل مرة نكتة تحفظها خصيصًا لتقهقا معًا. صوت أمها  حين تضحك يشبه تغريد بلبل، سيتعكر مزاجها بنبأ موﺗﻬا، وستركب الطائرة متحملة مشقة السفر البعيد لتأتي مجللة بملابس سوداء تليق بجسدها الممشوق.

كانت تغار منها وتلومها، دون أن تعلن ذلك، لأﻧﻬا لم تورثها قامتها، بل تركتها ل(جينات) أبيها في قصر القامة والسمنة، تتمايل مثل البطة. الفجيعة أصغر حين لا تفتح عينيك جيدًا عليها. هذا ما تفعله غالبًا مدعية أﻧﻬا عمياء حتى حين تكون وجهًا لوجه أمام موﺗﻬا وفنجان قهوﺗﻬا الذي لم تنهه بعد.

تركت كل شيء على حاله، أزف الرحيل، وانتهت المدة التي ظنت أﻧﻬا لن تكفيها. من المتوقع أن تجد ثغرة في السماء تنفذ منها. لا مجال للخطأ، فالصحف لا تصدر إلا الأخبار الصادقة، وهي تتبع كل شاردة وواردة فيها، تبحث عن الأسرار الصغيرة، تقرأ فضائح الصفحة الأخيرة بلهفة حتى ما عاد هناك ما يفاجئها، تخثر دمها على مر الوقت والتجربة.

حين ينسل زوجها من جانبها، تعرف أنه لن يخرج من بوابة العمارة، وتعرف أنه سيعود بعد ساعة أو أكثر لاهًثا بوجه أحمر وعينين لا تنظران مباشرة إليها.

الصفحة الأخيرة وهامش طويل من حقارات دنيوية: اغتصابات.. حوداث.. خيانة.. قتل.. سلب.. سرقات حدثت، وهي مثل دودة لا تترك
سطرًا لا تنبشه. لم يدهشها اسمها في صفحة الوفيات، بقدر ما أدهشتها المساحة التي شغله إعلان وفاﺗﻬا، كامل رغم بخله تكلف مبلغًا محترمًا. يبدو أن الأحزان تحتاج إلى مواقفَ جليلةٍ تناسب هيبة الموت، موﺗﻬا مث ً لا، خاصة أﻧﻬا في مقتبل العمر، ومأسوف على شباﺑﻬا. من مصلحة زوجها أن يعرف الجميع أﻧﻬا غابت، ربما ليؤكد لنفسه أنه حرٌ من جديد، وأنه غير مضطر من الآن فصاعدًا أن يقطع الدرج قفزًا.

كلاهما يأتي على غفلة منا: الموت والولادة..

هذا ما يؤكده الجميع بشكل نظري تمامًا، صراخ البكاء الأول، وحشرجة الأنفاس الأخيرة التصرفان الوحيدان غير المفتعلين، دون ادعاء أو مراضاة لأحد. التمهل يناسب الجميع، ويناسبها كذلك. صوان العزاء منصوب عند مدخل الشارع، يشغل الرصيف وجزءًا من الطريق، يعيق المرور على السيارات والسابلة.. يتمهلون، يتلون الفاتحة على روحها الشفافة التي تحلق فوق المكان.

"أحب أن أقرأ اسمي مطبوعًا ولو على ورقة نعي". هذه الجملة لكاتب ساخر، ستتذكر اسمه لاحًقا..

نعم.. نعم.. إﻧﻬا لسعيد تقي الدين[ 1]، بدت لها عبارة صادقة بالفعل، اسمها مبلل بحبر الحزن، وبشهقات المحبين. من بينهم تميز زوج أخيها ينهنهها المصاب، تتنشق ماء الزهر كلما ضاقت أنفاسها، كذلك أم ربيع الفاضلة بثياﺑﻬا السوداء تتنقل داخل البيت، تحمل الكؤوس، وتجلب المناديل لمزيد من البكاء، أمها في صدارة اﻟﻤﺠلس، تبدو الأجمل بقامتها المنتصبة وشعرها المصفف، صارت تشبه الفرنسيات، أي حب هذا الذي يحافظ على شباﺑﻬا رغم سنوات عمرها!.

و.. لحية زوجها النابتة، هامدٌ، يسرح في البعيد، لو كان هو المتوفى لتوجب عليها أن تقِّر في بيتها، وتعتزل الرجال طوال أربعة أشهر وعشرة أيام، وفاء واحترامًا لرجل بيتها وعماده، يا ليته يفعل ذلك، بعدها ليتزوج أم ربيع ويشبع ﺑﻬا، لكنه لن يفعل، ذهنه مشغول بترتيبات أبعد ما تكون عن حلقة العزاء، يفكر هل يعلن زواجه سريعًا ويتعلل بالأطفال الصغار، أم يخفيه ثم يشهره فيما بعد؟.

الموت خطفها من أيامها، ولم يسألها رأيها، تمامًا كما فعل الآخرون معها. الآخرون الذين يحبوﻧﻬا ولا يتسع وقتهم للحزن عليها، سينسون بأسرع مما ترغب، لذلك عليها وحدها، دون أن تعتمد على أحد، أن تجلس مدة العدة، تواسي نفسها بنفسها، وتكمل فنجان قهوﺗﻬا.