الحب أو.. لا شيء عنه

  أكتب القصص القصيرة، تلك التي لا طائل من ورائها، أكثر من ( 167 ) قصة في تسع مجموعات، ومازالت الكلمات تعيد نفسها.

في النهاية المطابع لا تعي، تلتهم كل شيء، ولا تشبع، والصفحات الكثيرة تترف حبرها الأسود، تستهلك ذاكرتي وأيامي، فيما أقف أنا مصلوبًا

أتساءل: ما الجدوى؟.

هل أنا الذي أكتب الكتب، أم أﻧﻬا هي التي تكتبني؟

الحكاياتُ في العادة حائرٌة، مشعثٌة، وفوضوية، أزمات أصطنعها، حبكة تصنعني، أصوغ الكذباتِ مترادفًة، أما الحقيقة فعالقٌة داخل الحلق، مؤجلٌة على نحو ما، تتوارى خلف الحواجز، حيث أتعرى، أو أزداد تخفيًا، مأخوًذا بعالم من المتناقضات منذ البداية وحتى النقطة الأخيرة. الخاتمة والتفاصيل التي لم يشهدها أحد، أكتبها وسرعان ما أنساها، إلا تلك القصة التي لم أنج منها ولا أتذكر أني كتبتها..

***

أعلنت أمي استنفارًا غير مسبوق، قالت بكلمة قاطعة: سيأتينا .

في ضيق يشبه ضيق بيتنا آنذاك، كانت الحركة، أيُّ حركة، تصنع جلبة عالية، الترتيبات وحالة الاضطراب أنبأت الطفل الذي كنته بأن قدومه لا يشبه قدوم الآخرين، والتي تترافق عادة بكأس شاي محلى، تقدمه أمي مع ابتسامتها الودودة، وعبارات تتفنن بحشوها باﻟﻤﺠازات.

قالت أمي:

- معجنات أم سعد لذيذة وشهية .

لكن خالي، وهو للعلم رجل يستشيره الجميع، أشار بأن فطائر أم سعد لا تنفع هذه المرة..

خالي كان يعمل جابيًا، يقطع التذاكر في إحدى حافلات النقل العام.

تتدلى فوق صدره صفارة ينفخها كي ينظم فتح الباب الخلفي وإغلاقه، لكنه ترك عمله الممتع ذاك، وتحول إلى سائق خاص لسيارة سوداء بستائر سميكة، لم يدعُني لركوﺑﻬا، كنت ألامسها فقط مستغربًا زلاقة ملمسها. وقد أكد خالي أكثر من مرة أن خبرته بما يفضله الأثرياء صارت واسعة، رغم  أمزجتهم التي تتغير تبعًا للفصول والمواسم. أما ما تصنعه أم سعد وتضعه فوق الرف الخشبي العالي فهو يناسب كل الأعوام.

كان الوقت شتاء، والأغنياء في مثل هذا الوقت يفضلون الحلوى العربية مغطسة بالقطر، قطع صغيرة من محل يعرفه.. خالي يعرف كل شيء منذ صار مستخدمًا عند السيد سومر، وقد تغيرت رائحته التي كانت تعبق من إبطيه حين يضمني، صار رج ً لا مهمًا و نادرًا ما نراه.

رأس أمي بمنديله المزركش اهتز موافًقا، أرسلت أخي الكبير، وفي يده ورقة رُسمت داخلها خارطة الطريق. لابد للحصول على الحلويات من اتباع إرشادات خالي بحذافيرها والالتزام بتنبيهات أمي.

فيما بعد وجدت علبة ملونة رُبطت بشريط أحمر لامع يشبه ما تضعه أختي أسفل جديلتها أيام العيد.

استرقُ النظر من زاوية العلبة الكرتونية..

5 خمس قطع من حلوى بلا رائحة، ولا تشبه أيًا من أصناف 4 3 2 1 فطائر أم سعد البائسة.

نازعني الشيطان كي أمد يدي، أن أتلمسها فقط، فكرة تذوقها كانت مستبعدة رغم تحلب ريقي.

بحثت عن أمي، كانت دائخة ومشغولة، كنحلة تزن، لم يسأل أحد عني كما اعتادوا أن يفعلوا في حالات مشاﺑﻬة، مما أقلقني أكثر، فصرت ألاحق أمي من مكان إلى آخر.

لم تتشدد أمي قبل ذاك النهار بقضية النظافة، لكنها صرخت بأختي كي تعيد مسح الغبار، لأن عنكبوتًا واحدًا فقط يعيش بين الستارة والحائط، ركضت لأراه قبل أن تقضي الفوطة عليه، ولمحت دمعة حانقة في عيني أختي التي بدأت تتذمر بأﻧﻬا تعبت من الكنس والمسح.

في حركة مكوكية كنت أحوم بين العلبة المرفوعة كأﻧﻬا قدس الأقداس، وبين باقي أرجاء البيت حيث يتراكض الجميع هنا وهناك.

في القصة هناك أبي أيضًا، وقد نسيت أن أخبركم عنه، هو رجل متحكم، له شاربان يهتزان كلما غضب فأهرب مختبًئا في حجر أمي حتى لا أراهما، وهما نفسهما، أي الشاربان يؤلمني وخزهما حين يلاعبني، فيمرغهما برقبتي، وقد ظهر ذاك اليوم مترعجًا، يروح ويجئ، يعتصر كفيه ويسأل:

"كم صارت الساعة.. ترى ما الذي أخره؟."

الضيف المهم بمجيئه المهم شغل الجميعَ. قالت لي أمي ذلك، ولم تشرح لي معنى أن يكون الشخص مهمًا، لذلك ﺗﻬيأ لي أنه يشبه خالي، أو أنه صديق له، لأنه جلس مسترخيًا فوق المقعد، مادًا ذراعيه دون تكلف على اتساعهما، مصالبًا ساقيه.

كنت أسترق النظر من الباب الموارب، كان حذاؤه لامعًا، والمدهش أنه نظيفٌ من أسفل، يبدو أن الرجال المهمين لا يركضون في الطرقات، ولا يخوضون في برك الماء والطين!.

طلب كأس ماء.

انتفض أبي لتلبية طلبه، كان طوي ً لا جدًا، لاسيما حين يقف، وهو في العادة يجلس باسترخاء وكسل، ويأمرني، أو يصرخ بأمي لتحضر له طلباته  التي لا تنتهي، فمن أين جاءه كل هذا النشاط؟.

جلس يومها مواجهًا الضيف، بميل خفيف نحو الأمام، يبدو سعيدًا بابتسامة لصقها تحت شاربيه.

أمي في المطبخ نظفت الكأس النظيف مرتين، ثم جففته بطرف كمها، 5 القطع الخمس بأكملها، إذا أكلها 4 3 2 فيما قدمت أختي القطع الملونة، 1 جميعها، فأين حصتي؟!.

"الأكل على قد المحبة" سمعت أحدهم يقول.

الجميل في الأمر، وقتها، أن الضيف لم يكترث كثيرًا بالحلوى، لأنه ترك الصحن، وانشغل بالحديث، ثم أشعل لفافة ضخمة غامقة اللون، بدأ يدخنها، وهو يراقب أختي التي ارتبكت، وكادت تقع، كانت في الخامسة عشرة من عمرها، نحيلة جدًا وخجولة، تبكي بسرعة.

الرائحة المنبعثة لا تشبه تلك التي تتصاعد من سجائر أبي، سعلتْ أختي، كانت هي الأخرى تنقل نظرها ما بين الدخان الكثيف المتصاعد و الصحن المدهش.. وكنت، من شق الباب، أراقبهما معًا، أختي والقطع الملونة.

طلب الضيف فنجان قهوة، واشترط أن تصنعه الصبية الصغيرة التي لا يعرف أن اسمها خنساء.

لم أعد أذكر ملامحَ وجه الضيف، ولكني لم أنس قط رائحَة تبغ سيجاره، ولا نع َ ل حذائه النظيف، ولا بكاءَ أمي طول الليل، لأن ذلك الضيف اختار أختي لا أمي كي تعمل خادمة في بيته.

***

أعرف أن السماءَ بعيدة، وأن أحدًا لا يعرف لماذا هي بعيدة إلى هذه الدرجة؟ حتى حين أكتب قصصًا مترفة عن الحب، أو لا شيء عنه، وأتجاهل قصة طفل، ما إن كبر قلي ً لا حتى أدار ظهره، تار ً كا خلفه أخته وأمه وقبر أبيه، الطفل الذي بصق فوق قطع الحلوى العجيبة من غير أن يتذوق طعمها.. وصار يبكي.