حكايـة التاجر مع العفريت

قالت شهرزاد:

بَلَغَني أيّها الملك السّعيد، أنّه كان تاجر من التّجار، كثير المال والمُعاملات في البلاد، فاشتدّ عليه الحرّ، فجلس تحت شجرةٍ وأكل كسرة خبزٍ كانت معه وتمرة. فلمّا فرغ من أكل التّمرة، رمى النّواة، وإذا هو بعفريتٍ طويل القامة وبيده سيفٌ مسلولٌ، فدنا من ذلك التّاجر وقال له: "سأقتلك مثل ما قتلتَ ولدِي".

 

فسأله التّاجر: "كيف قتلتُ ولدَكَ؟"

 

قال له: "لمّا رميتَ نواة التّمرة جاءت النّواة في صدر ولدي، وكان ماشيًا فمات من ساعته".

 

فاعتذر إليه التّاجر وقال: "إن كنتُ قتلته، فما كان ذلك إلاّ خطأً منّي، وأرجو أن تعفوَ عني".

 

فقال الجنيّ: "لا بُدّ لي أن أقتلَك..!"

 

فقال التّاجر: "إعلَم أيّها العفريت أنّ عليّ دَيْنًا، ولي مال كثير، وأولاد وزوجة ورهون، فدعني أعودُ إلى بيتي وأوصل إلى كلّ ذي حقٍ حقّه، وأعود على رأس السّنة، ولك عليّ عهد من الله أنّي أعود إليك، فتفعل بي ما تريد، والله على ما أقول وكيلٌ".

 

فاستوثق منه الجنّي وأطلقه. فرجع إلى بلده وقضى جميع ما عليه، وأوصل الحقوق إلى أهلها، وأعلم زوجته وأولاده بما جرى له فبكوا، وكذلك جميع أهله. وأوصى، وقعد عندهم إلى تمام السّنة، ثم ودّع أهله وجيرانه.

 

مشى التّاجر إلى أن وصل ذلك البستان في أوّل السّنة الجديدة. وبينما هو جالس يبكي حاله، إذا بشيخٍ كبيرٍ قد أقبل عليه ومعه غزالة مربوطة بسلسلةٍ؛ فسلّم على التّاجر وقال له: "ما سبب جلوسك في هذا المكان وأنتَ منفرد وهو مأوى الجنّ؟"

 

فأخبره التّاجر بقصته، فقال الشيخ: "والله يا أخي لا أترك هذا المكان حتّى أعرف ما يجري لك مع العفريت".

 

وفيما هما يتحدّثان، إذا بشيخٍ ثانٍ قد أقبل عليهما ومعه كلبان من الكلاب السّلاقية (كلاب الصّيد) السُّود. فسألهما، بعد السّلام عليهما، عن سبب جلوسهما في هذا المكان، وهو مأوى الجان، فأخبراه القصة.

 

فلم يستقرّ به الجلوس حتّى أقبل عليهم شيخٌ ثالثٌ ومعه بَغلَة، فسلّم عليهم وسألهم عن سبب جلوسهم في هذا المكان، فأخبروه بالقصة. وبينما هُم كذلك، إذا بغَبرةٍ هاجت وسط تلك البرّية. ولما انكشفت الغبرة، إذا بذلك الجنيّ بيده سيف مسلول يطلّ، فأتاهم، وجذب التّاجر من بينهم، وقال له: "قُم.. سأقتلك مثل ما قتلتَ ولدِي".

 

بكى التّاجر وبكى الشّيوخ الثلاثة. وقام الشّيخ الأول، وهو صاحب الغزالة، وقبّل يد العفريت وقال له: "يا تاج ملوك الجان، إذا حكيتُ لكَ حكايتي مع هذه الغزالة، ورأيتها عجيبة، أَتَهِبني في ثلث دم هذا التّاجر؟"

 

قال: "نعم أيّها الشّيخ".

 

فقال الشّيخ الأوّل: "إعلم أيّها العفريت أنّ هذه الغزالة هي بنت عمّي، وكُنت قد تزوّجتُ بها وهي صغيرة السّن، وعشت معها نحو ثلاثين سنة ولم أُرزَقُ منها بولدٍ، فتزوّجت أخرى ورُزِقتُ منها بولدٍ ذكر كأنّه البدر. وكبُر إلى أن صار ابن خمس عشرة سنةٍ. وذهبت في سفرة بتجارةٍ عظيمةٍ، وكانت بنتُ عمّي– هذه الغزالة– تعلّمت السّحر من صغرها، فسوّت ذلك الولد عجلاً، وسَحَرَت أمّه بقرةً، وسلّمتهما إلى الرّاعي.

 

ولمّا عدتُ من السّفر، سألت عن ابني وأمه، فقالت: "ابنك هرب وزوجتك ماتت. فحزِنتُ عليهما سنةً.

 

ولمّا جاء عيد الأضحى، طلبتُ من الرّاعي أن يعطيني بقرةً سمينةً لأذبحها، فجاء بزوجتي التّي سحَرَتها بنت عمّي، ولما هَمِمتُ بذبحها، أخذت تصرخُ وتصيحُ، فأعطيتها للرّاعي ليذبحها.

 

وطلبتُ عجلاً بدلاً منها، فجاءني بابني المسحور. وصار العجل يبكي فرأفتُ به ولم أذبحه... فصاحت بنتُ عمّي الغزالة بأنه... لا بدّ من ذبحه... ولكنّي أعطيته للرّاعي ولم أذبحه!

 

وفي اليوم التّالي أقبل الراعي عليّ، وقال: <<يا سيّدي، إنّي سأقول لك شيئًا تُسرّ به ولي البشارة>>.

 

فقلت : "نعم".

 

فقال: "أيّها التّاجر، إنّ لي بنتًا كانت تعلّمت السّحر في صغرها، فلما كُنّا بالأمس، وأعطيتني العجل، دخلتُ به عليها ، فنظرَت إليه بُنَيّتي، وبكت ثم ضحكت وقالت: "كيف تُدخِلُ عليّ الرّجال الأجانب؟"

 

فقلت لها: "وأين الرّجال الأجانب؟ ولماذا بكيت وضحكت؟"

 

فقالت لي: إنّ هذا العجل الذّي معك هو ابن سيدي التّاجر، ولكنه مسحور، وقد سحرته زوجة أبيه هُو وأمّه، فهذا سبب ضحكي. وأمّا سبب بُكائي، فمن أجل أمّه، إذ ذبحها أبوه".

 

وما إن طلع الصّبح حتّى جئتُ إليك لأُعلِمَك.

 

فلمّا سمعت أيها الجنّي كلام هذا الراعي فرحتُ جدًا، وأتيت داره، فرحّبَتْ بي بنت الرّاعي وقبّلت يديّ.

 

وجاء العجل إليّ وتمرّغ عليّ، فقلتُ لابنة الرّاعي: "أحقًا ما تقولين عن ذلك العجل؟"

 

قالت: "نعم يا سيّدي.. إنّه ابنك!"

 

فقلتُ لها: "أيّّتها الصّبية! إن أنتِ خلّصته فلكِ عندي ما تحت يد أبيك من المواشي والأموال".

 

فتبسّمَت وقالت: "يا سيّدي.. ليس فيّ رغبة في المال إلاّ بِشَرطين: الأوّل هو أن تُزوّجني به، والثّاني أن أسحر مَن سَحَرَته وأحبسها، وإلاّ فلستُ آمنةً من مكرها".

 

فلمّا سمعتُ، أيّها الجني، كلام بنت الرّاعي قلتُ: "ولكِ، فوق ما طلبتِ، جميع ما تحت يد أبيك من الأنعام والأموال، وأمّا بنت عمّي فدمها لك مُباح!!"

 

فلمّا سمعت كلامي، أخذت طاسةً وملأتها ماء. ثم قرأت عليها كلامًا ورشّت بها العجل وقالت لهُ: "إن كان الله خلقك عجلاً فابق على هذه الصّورة ولا تتغيّر، وإن كنتَ مسحورًا ، فعُد إلى خلقتك الأولى بإذن الله تعالى!".

 

وإذا به ينتفض. ثم صار إنسانًا، فقلتُ له: "بالله عليك! احكِ لي جميع ما صَنَعَت بكَ وبِأُمّك بنتُ عمّي!" فحكى لي جميع ما جرى لهما، فقلتُ: "الحمد لله الذي خلّصك". ثم إنّي زوجته، أيها الجني، ابنة الرّاعي، ثم إنها سحرت ابنة عمي هذه الغزالة، وجئتُ إلى هنا، فرأيت هذا التاجر، فأخبرني عن حاله، فجلست لأنظر ما يكون من أمره، وهذا حديثي.

 

فقال الجني: "هذا حديث عجيب، وقد وهبتُك ثلث دمه".

 

فعند ذلك، تقدّم الشّيخ صاحب الكلبين السّلوقيين، وقال له: "اعلم يا سيّدي، ملك ملوك الجان، أنّ هذين الكلبين أخواي، وأنا ثالثهما. وقد مات والدي وخلّف لنا ثلاثة آلاف دينارٍ، ففتحتُ دكانًا أبيع فيه وأشتري، وسافر أخواي بتجارتهما وغابا سنةً كاملةً وعادا وما معهما شيء. فأخذتهما وألبستهما حلتين فاخرتين، وعشنا معًا وقد قسّمت ربحي معهما، ثم عادا وطلبا السّفر وأن أسافر معهما، فلم أوافق".

 

عملنا في التّجارة ست سنوات، ومرّة ثانيةً قسّمتُ الرّبح بيننا، وعزمنا على السّفر بحرًا. وعند الشّاطئ، وجدنا جاريةً عليها ثياب مقطّعة، فقبّلت يدي ورَجَتني أن أتزوّجها. فحنّ قلبي إليها، وأكرمتها. وغار مني أخواي وطمِعا في المال كلّه، وتحدثا بقتلي، وأخذاني وأنا نائم ورَمَياني في البحر.

 

استيقظت زوجتي وانتفضت فصارت عفريتةً وحملتني إلى جزيرةٍ، وأخبرتني أنّها هي التي أنقذتني، وأنّها غضبت على أخويّ وتريد قتلهما. فرفضتُ ذلك، وحكيت لها ما جرى لي معهما من أوّل عمرنا.. فقرّرت أن تُغرقَ مراكبهما، فرجوتها ألاّ تفعل...

 

وعادت بي إلى داري، وفتحت دُكّاني...

 

وفي اللّيل، دخلتُ داري فوجدتُ هذين الكلبين مربوطين. فلمّا رأياني قاما إليّ وبكيا وتعلّقا بي، فجاءت زوجتي وقالت: "هذان أخواك.. وأختي. حوّلتهما كلبين بناءً على طلبي، وما يتخلّصان إلاّ بعد عشر سنواتٍ".

 

عدتُ بعد عشر سنواتٍ لأخلّصهما، فرأيتُ هذا الفتى، فأخبرني بما جرى له، فأردتُ ألاّ أغادر المكان حتّى أنظر ما يجري بينك وبينه. وهذه قصّتي".

 

قال الجنيّ: "إنّها حكاية عجيبة، وقد وهبتك لك ثلث دمه..."

 

عند ذلك، تقدّم الشّيخ الثالث، صاحب البغلة، وقال للجنيّ: "أنا أحكي لك حكاية أعجب من حكاية الإثنين، وتهبني باقي دمه وجنايته".

فقال الجني: "نعم".

 

فقال الشيخ: "أيها السّلطان ورئيس الجان، إنّ هذه البغلة كانت زوجتي، سافرتُ وغبتُ عنها سنةً كاملةً، ثمّ قضيتُ سفري وجئتُ إليها في اللّيل، فرأيت عبدًا أسودًا في البيت وهُما في كلامٍ وضحكٍ.

 

فلما رأتني عجّلت وقامت إليّ بكوزٍ فيه ماء، فتكلّمَت عليه ورَشّتني وقالت: "أخرج من هذه الصّورة إلى صورة كلبٍ!" فصرتُ في الحال كلبًاً، فطردتني من البيت، فخرجتُ ولم أزل سائرًا حتًى وصلتُ إلى دكّان جزّارٍ، فتقدّمت وصرتُ آكل من العظام، فلما رآني صاحب الدّكان أخذني ودخل بي بيته. فلمّا رأتني بنت الجزّار غطّت وجهها مني، فقالت: "أتجيء لنا برجلٍ وتدخل علينا به؟" فقال أبوها: "أين الرّجل ؟" قالت: "إنّ هذا الكلب سحرته امرأةٌ، وأنا أقدر على تخليصه".

 

قال: "بالله عليك يا بُنّينتي خلّصيه!" فأخذت كوزًا فيه ماء وتكلّمت عليه، ورشّت منه قليلاً، وقالت: "أخرج من هذه الصّورة إلى صورتك الأولى!" فصرتُ إلى صورتي الأولى".

 

قبّلتُ يدها، وقلتُ لها: أريد أن تسوّي زوجتي كما سحرتني فأعطَتني قليلاً من الماء، وقالت: "إذا رأيتُها نائمةً فَرِشّ هذا الماء عليها، فإنّها تصير كما أنتَ طالب". فوجدتها نائمةً فرشَشتُ عليها الماء، وقلتُ: "أخرجي من هذه الصّورة إلى صورة بغلةٍ، فصارت في الحال بغلةً، وهي هذه التي تنظرها بعينك أيّها السُّلطان ورئيس ملوك الجان. ثم التفت إليها السّلطان وقال: "أصحيح هذا؟"

 

فهزّت البغلةُ رأسها وقالت بالإشارة: "نعم، هذا صحيح". فلمّا فرغ من حديثه، اهتزّ الجنّي من الطّرب، ووهبه باقي دم التّاجر. وأدرك شهرزاد الصّباح، فسكتَت عن الكلام المُباح...