غدر أبـو قير

كان في "الإسكندرية" صبّاغ ماهر اسمه "أبو قير". وكان يُتقن صباغة القماش بالألوان الزّاهية الجميلة.

 

ولكنّ أبا قيرٍ كان كسولاً لا يحبّ العمل، ومهملاً يَعِدُ زبائنه بأن ينجز لهم صباغة ثيابهم ثمّ لا يفي بوعده. وكانوا عندما يحضرون لأخذ أغراضهم يجدونها من غير صباغٍ، فيزعم أبو قير لهم أنّه كان مريضًا، أو أنه مشغولٌ كثيرًا، فلم يتمكّن من الوفاء بوعده لهم.

 

بعد مدّةٍ من الزّمن، ساءت سمعته في أحياء الإسكندريّة، وعرف النّاس أنّه صبّاغ كسول وكاذب ومُهمل، لا يهمّه من الحياة إلاّ أن يأكل بشراهةٍ، فتركه الزّبائن وكسد عمله.

 

وفي أحد الأيّام، جاء إلى دكان أبي قير رجلٌ غريبٌ لم يسمع بمعاملته السّيئة، وسلّمه قطعةً حريريةً من القماش، وطلب أن يصبغها له. فوعده أبو قير بإنهاء صباغتها بعد أسبوعٍ واحدٍ، وأخذ منه الأجر مقدّمًا.

 

بعد أسبوعٍ، جاء الرّجل الغريب لكي يأخذ قطعته الحريرية؛ لكنّ أبا قير شعر بقدومه، فهرب إلى دكّان جاره الحلاّق واختبأ فيه. وهكذا كان أبو قير يختبئ كلّما شعر بقدوم زبونٍ لم ينجز له عمله. وكان الرّجل الغريب يجد دكان أبي قير خاليًا كلما زاره. ولمّا عثر عليه مرّةً، عاتبه ووبّخه، ثم تخاصم الإثنان وتشاجرا.

 

لما يئس الرّجل الغريب من وعود أبي قير. ذهب إلى القاضي وشكا إليه أنّ أبا قير كَذَبَ عليه وخدعه وأخذ أجرًا على صباغة قطعة الحرير من دون أن ينجز وعده، فلم يصبغ قطعة الحرير، ولم يرجع المبلغ الذي أخذه مقابل الصّباغة.

 

عندئذٍ أصدر القاضي حكمًا على الصّباغ الخدّاع بالسّجن لمدّة أسبوعين، ثم أمر بإغلاق مصبغته، ومنعه ممارسة مهنة الصّباغة، لئلا يقع الزّبائن في شباك كذبه وخداعه.

 

أمضى أبو قير في السّجن أسبوعين، ثم خرج بائسًا حزينًا، ولابُدّ أن يبحث عن عملٍ يُوفّر له حاجته من المال والطّعام. ذهب إلى جاره الحلاّق الذي كان يختبئ لديه، فشكا إليه بؤسه وسوء حاله، وأنّه أصبح من الصّعب عليه أن يجد عملاً بعد أن عرف أهل الإسكندريّة سيرته السّيئة وإهماله في عمله.

 

كان الحلاق، واسمه أبو صير، طيّب القلب، بسيطًا ومُهذّبًا. فأشفق على جاره القديم أبي قير، واستقبله استقبالاً حسنًا، وأكرمه وأنزله عنده، وأخذ يشاركه في المال الذي يجنيه من عمله كلّ يوم.

 

وفي يومٍ من الأيّام، قال أبو قير لصديقه أبي صير: "أليس من المُحزن، يا صديقي، أن أصير إلى هذا الحدّ من البؤس والفقر، وأنا أمهر العاملين في صباغة الأقمشة، وأحسن صبّاغ يتّقن مزج الألوان في الإسكندريّة كلّها. إنّي آخذ الثياب باهتة اللّون، وبعد أن أصبغها تخرج من بين يديّ زاهيةً برّاقةً، تُسرّ النّاظرين".

 

وتابع أبو قير كلامه: "وأمّا أنتَ يا صديقي أبا صير، فإنّك حلاّق ماهر، خفيف اليد، ولكن زبائنك قليلون، وإذا بقيتَ قانعًا بما أنت عليه، فستظلّ قليل المال، فقير الحال. هيّا بنا نرحل عن هذه المدينة، إلى مكانٍ آخرٍ، نجد فيه الزّبائن الأغنياء الذين يُقدّرون مهارتك ومهارتي، فنكسبُ من عملنا مالاً وفيرًا ونصبح بعد وقتٍ قصيرٍ من الأغنياء".

 

فكّر الحلاق أبو صير في كلام صديقه الصّباغ أبي قير، واقتنع به. فاتّفقا على أن يُهاجرا معًا من المدينة، ويتشاركا في كلّ ما يكسبانه من عمليهما، وأن يتقاسماه معًا في أمانةٍ وصدقٍ.

 

وعَلِمَ الصّديقان أن سفينةً كبيرةً ستغادر ميناء المدينة بعد أيّامٍ قليلةٍ، وستُبحر إلى بلادٍ عديدةٍ.

 

انضمّ أبو قير وأبو صير إلى المُسافرين على ظهر السّفينة، وكان عددهم كبيرًا، بعضهم تجّار يُسافرون ليجلبوا بضائع وسلعًا متنوّعةً، وبعضهم عُمّال يُسافرون بحثًا عن عملٍ في أيّ بلدٍ من البلاد، وبعضهم يُسافر سائحًا مُتفرّجًا على بلاد الله الواسعة.

 

لم يلبث المُسافرون أن تعرّفوا بالحلاّق أبي صير حتّى أقبلوا عليه يقصّون شعرهم، إذ وجدوه حلاقًا ماهرًا طيّب القلب، رضيّ النّفس؛ فأكرموه وأكثروا له العطاء.

 

وسارت السّفينة في البحار، وكانت تنتقل من ميناءٍ إلى ميناءٍ، فينزل منها بعض المُسافرين، ويصعد غيرهم مكانهم، والحلاّق النّشيط يُلبّي رغبات المُسافرين في قصّ شعرهم من دون كللٍ أو مللٍ. وكان يقتسمُ مع صديقه الصّباغ كلّ ما يكسبه من أجرٍ على عمله. ولمّا كان الصّباغ يحبّ الأكل، فإن الحلاّق كان يرغب إلى زبائنه في أن يكون أجره طعامًا وشرابًا وفاكهةً، ليتمكّن صديقه الصّباغ أن يأكل ما يحبّ ويشتهي.

 

كان أبو قير، عندما يشبعُ، يلتفت إلى أبي صير ويقول له: "إنّ الله رَزَقني صديقًا وفيًّا مثلك، وإنّي أرجو أن أردّ لكَ معروفك عندما أجد عملاً يُكسبني مالاً". وسمع ربّان السّفينة بمهارة الحلاّق أبي صير فاستدعاه ليقصّ له شعره. أُعجبَ الرّبان بنشاطه وخفّة يده، فرغب إليه أن يتردّد عليه يومًا بعد يومٍ ليقصّ له شعره. وأعطاه الكثير من الطّعام والحلوى ليشبع بهما رفيقه الأكول.

 

كان أبو قير يلتهم الطّعام الذي يكسبه رفيقه الحلاّق، ولا يترك له إلاّ بضع حبّاتٍ من الزّيتون، وبضع لُقيماتٍ من الخبز. وكان أبو صير يتناول ما ترك له الأكول برضا وصبرٍ، فلا يتذمّر ولا يتأفّف.

 

عندما بلغت السّفينة نهاية رحلتها، ورست في آخر ميناءٍ في الرّحلة، التفت ربّانها إلى أبي صير وقال له: "إنّك رجلٌ كريمٌ ونشيطٌ، وإنّي أدعوك إلى البقاء معنا، تنتقل من بلدٍ إلى بلدٍ وتمارس عملك بين ركّاب السّفينة الذّين يريدون قصّ شعرهم، أو تخفيف لحاهم وشواربهم، وهكذا تكسب مالاً وتتفرّج على بلاد الله الواسعة في وقتٍ واحدٍ".

 

فأجابه أبو صير قائلاً: "أشكرك أيّها الرّبان على دعوتك، لكنّني لا أستطيع تلبيتها لأنّني مُرتبط مع صديقي أبي قير على أن نسافر معًا ونقيم معًا ونتاجر معًا ونتقاسم ما نكسب بالتّساوي، وليس من الأمانة أن أنقضَ الإتّفاق أو أخلف الوعد، أو أترك صديقي أبي قير في بلادٍ غريبةٍ، لا يعرف فيها أحدًا، ولا يعرفه أحدٌ".

 

فقال ربّان السّفينة لأبي قير: "إن صاحبك لا يريد أن يعمل عملاً نافعًا ليكسب من تعبه، وقد أحَبَّ حياة الكسل والإعتماد على نشاطك وعملك. وهذه الصّفات ليست صفات الصّديق الشّريف. إنّه أنانيّ يحبّ نفسه فقط، ومن الخير أن تجعله يعمل لئلا يظلّ كسولاً يعتمد على عمل غيره. وعلى كلّ حالٍ هذا أمر يخُصّك، وإنّي أتمنّى لك الخير والسّعادة، وإلى اللقاء".

 

شكر أبو صير ربّان السّفينة، وتمنّى له سفرًا سعيدًا ورحلةً هادئةً لا تهبّ فيها رياحٌ شديدةٌ على السّفينة.

 

وحمل أبو صير أمتعته ونزل من السّفينة إلى الأرض، يتبعه رفيقه أبو قير.

 

وبعد أن تجوّلا في طُرُق المدينة، وتعرّفا بأشهر أحيائها، استأجر أبو صير غرفةً أقام فيها مع رفيقه.

 

وفي اليوم التّالي، ذهب أبو صير إلى سوق المدينة واتّخذ مكانًا له وبدأ يُمارس مهنة الحلاقة. وفي المساء، عاد إلى الغرفة حاملاً الطّعام والفاكهة، فأكل رفيقه أبو قير كثيرًا وبقي لأبي صير القليل القليل.

 

استمرّت الحال على هذا الشّكل: الرّجل الطيب، أبو صير، يعمل في حلاقة الشّعر طوال النّهار، ثم يحمل معه الطّعام في المساء؛ وأبو قير يمضي الوقت متكاسلاً، مُتمدّدًا ثم يشارك رفيقه في الأكل.

 

وبعد عدّة أسابيع، شعر أبو صير بالتّعب والإرهاق بسبب العمل المتواصل من غير راحةٍ. وما لبث أن وجد نفسه في صباح يومٍ من الأيّام مريضًا، لا يستطيع القيام من فراشه من شدّة الألم وارتفاع الحرارة.

 

وكان من الواجب أن يتولّى أبو قير خدمة رفيقه والإشراف على إسعافه ومداواته وتوفير الطّعام له. ولكنّ أبا قير، بدلاً من ذلك، غافل رفيقه المريض الذي يتلوّى من الألم، وسرق كيس النّقود وأوهمه بأنّه ذاهب لإحضار الدّواء والطّعام.

 

تجوّل أبو قير في طُرُق المدينة وأسواقها، وراقب النّاس فيها، فلاحظ أنّهم يلبسون ثيابًا بيضاء وسوداء. وبينما كان يشتري بعض الفاكهة من أحد الدّكاكين، سأل البائع: "لماذا لا تلبسون ثيابًا ملوّنةً بألوانٍ أخرى غير الأبيض والأسود؟". فأجابه البائع: "ليس في المدينة صبّاغ يتّقن تلوين الثياب وسائر الأقمشة".

 

عندئذٍ رأى أبو قير أنّ الفرصة سانحة ليستفيد منها، فذهب إلى قصر السّلطان وطلب مقابلته. فلمّا أَذن السّلطان لأبي قير بالدخول، روى لهُ قصّته، وقال إنه رجل غريب، قدم من الإسكندريّة على ظهر سفينةٍ، وأنّه يحسن صباغة الأقمشة الحريريّة والقطنية والصّوفيّة، فيجعلها حمراء وصفراء وخضراء وزرقاء، كما يريد صاحبها، وأنه على استعدادٍ للقيام بعمله في هذه المدينة وإفادة أبنائها من مهارته وخبرته.

 

اقتنع السّلطان وساعد أبا قير في إنشاء مصبغةٍ كبيرةٍ، وأمر بأن تُشتَرى له الأدوات اللاّزمة وأن يعمل عنده عددٌ من العمّال.

 

وما كاد الناس يعرفون بأن مصبغة بدأت تعمل في مدينتهم، حتّى أقبلوا عليها يصبغون أقمشتهم بالألوان الحمراء والصّفراء وغيرها.

 

بعد مدّةٍ قليلةٍ، بدأ يظهر في طُرُق المدينة شباب يرتدون ثيابًا ملوّنةً جميلةً.

 

وهكذا أصبحت مصبغة أبي قير مقصد النّاس الرّاغبين في الألوان الجديدة، وأصبح أبو قير غنيًا مِن كثرة مَا ربح من عمله.

 

أمّا أبو صير، الرّجل الطّيب، فقد ظلّ في غرفته وحيدًا لا يشعر أحدٌ بمرضه. وبقي على هذه الحال عدّة أيامٍ، إلى أن سمع أحد الجيران أنينه، فدخل عليه، فلمّا رآه على هذه الحال، أسرع فأحضر إليه طبيبًا فعالجه ووصف له الدّواء المناسب.

 

لازم الجار أبا صير، وأشرف على إعطائه الدواء في المواعيد التّي قرّرها الطّبيب، وأحاطه بعنايته.

 

وعندما تمكّن أبو صير من تناول الطّعام، كان الجار الطّيب يشتري له ما يحتاجه ويقدّمه إليه.

 

وطالت إقامة أبي صير في غرفته، ولم يتماثل إلى الشّفاء إلاّ بعد أسابيع عديدةٍ. وبالرّغم من كلّ ما حدث لأبي صير من أعمال أبي قير معه، فقد ظلّ يظنّ أن أبا قير وقع له حادث منعه من العودة إلى البيت، وأنّه ربّما أخذ النّقود ليشتري بها طعامًا لهما...

 

لم يخطر لأبي صير أن رفيقه كان سيّئ النّية لأنّه هو كان طيّب القلب، رضيّ النّفس، بسيطًا.

 

خرج أبو صير من الغرفة بعد شفائه من مرضه، وسار في المدينة ليبحث عن رفيقه، وليبحث عن عملٍ يوفّر له عيشه.

 

وبينما هو يسير في الطّريق، وصل إلى مصبغة أبي قير، وشاهد النّاس مزدحمين أمامها. وبعد أن سأل بعضهم عن ذلك، عرف أنّه أمام مصبغة رفيقه القديم، وأنّ هؤلاء النّاس يريدون صباغة ثيابهم وتلوينها بالألوان الجميلة، وعرف أن رفيقه الصّباغ أصبح مشهورًا وغنيًا.

 

دخل أبو صير المصبغة ليقابل أبا قير ويسأله عن أحواله، وكيف استطاع أن ينجح في هذا الوقت القصير.

 

وعندما أطلّ أبو صير على داخل المصبغة، رأى منظرًا غريبًا لم يكن يتوقّعه. لقد رأى أبا قير يجلس على منصّةٍ عاليةٍ، وهو يستند على الوسائد الحريريّة، ويحيط به الخدم من كلّ جانبٍ، ويلقي الأوامر على هذا وذاك، فيُنفّذ كلّ واحدٍ ما أمره به.

 

ولم يكد أبو صير يقترب من منصّة رفيقه الصّباغ، حتّى أشار أبو قير على أحد الخدم بأن يقبض على أبي صير ويرميه أرضًا ويضربه مئة ضربةٍ.

ولم يستطع أبو صير المسكين أن يتكلّم، فتلقّى الضّربات بصبرٍ وألمٍ. وبعد الضّرب، ألقاه أحد الخدم في الشّارع...

 

ولكن ماذا فعل أبو صير بعد ذلك؟

 

وهل سيظلّ أبو قير ناجحًا في عمله؟

 

لا، إنّه لا بدّ من أن ينتصر الرّجل الوفيّ على الغادر الخائن، ولا بُدّ أن يتغلّب الرّجل النّشيط على الكسول.

 

ولكنّ كيف سيحدث ذلك، وكيف سيَلقى كلّ منهما ثمرة عمله..