كتاب كليلة ودمنة

قال علي بن الشاه الفارسي: كان السبب الذي من أجله وضع بيدبا الفيلسوف الهندي لدبشليم ملك الهند كتاب كليلة ودمنة أن الإسكندر ذا القرنين الرومي لما انتصر على الملوك الذين كانوا بناحية المغرب سار يريد ملوك المشرق من فرس وغيرهم. فلم يزل يحارب من نازعه ويواقع من واقعه ويسالم من وادعه من ملوك الفرس وهم الطبقة الأولى حتى ظهر عليهم وقهر من ناوأه وتغلب على من عاداه فتفرّقوا طرائق، وتمزقوا خرائق، فتوجه نحو بلاد الصين فبدأ بملك الهند ليدعوه إلى طاعته والدخول في ملته وولايته. وكان على الهند في ذلك الزمان ملك ذو سطوة وبأس ومنعة ومراس يقال له فُورَك. فلما بلغه إقبال ذي القرنين نحوه تأهب في التألب عليه، وجمع له العدة في أسرع مدة من الفيلة المفرزة للحروب، والسباع المضرّاة للوثوب مع الخيل المسوّمة، والرماح المقوّمة، والسيوف القواطع، والحراب اللوامع.

 

محاربة الاسكندر ذي القرنين لملك الهند

فلما قرب ذو القرنين من فورك الهندي وبلغه ما قد أعدّ له من الخيل، التي كأنها قطع الليل، مما لم يلقه بمثله أحد ممن كان يقصده من الملوك الذي كانوا في الأقاليم تخوّف من تقصير يقع به إن عجّل المبارزة.

وكان ذو القرنين رجلاً ذا حيل ومكايد مع حسن تدبير وتجربة فرأى بعد إعمال الحيلة التأهب والترفق. فاحتفر خندقاً على عسكره وأقام بمكانه لاستنباط الحيلة والتدبير في أمره وكيف ينبغي الإيقاع بهذا الملك. فاستدعى بالمنجمين وأمرهم باختيار يوم ووقت تكون له فيه سعادة لملاقاة ملك الهند والنصرة عليه. فاشتغلوا بذلك. وكان ذو القرنين لا يمر بمدينة إلا أخذ المشهورين من صناعها بالحذق من كل صنف. فنتجت له همته ودلته فطنته أن يتقدم إلى الصناع الذين معه بأن يصنعوا له خيلاً من نحاس مجوفة عليها تماثيل من الرجال على بكرٍ تجري به وإذا دُفعت مرت سراعا. وأمر إذا فرغوا منها أن تحشى أجوافها بالنفط والكبريت وأن يلبس الفارس آلة الحرب ويقدم ذلك أمام الصف في القلب وقت ما يلتقي الجمعان لتضرم فيها النيران. فإن الفيلة إذا ألقت خراطيمها على الفرسان وهي حامية جلفت. وأوعز إلى الصّنّاع بالتشمير والفراغ منها. فجدوا في ذلك وعجلوا.

وقرب أيضا اختيار المنجمين لليوم. فأعاد ذو القرنين رسله إلى فورَك ملك الهند يدعوه إلى طاعته والإذعان لدولته. فأجاب جواب مُصِرّ على مخالفته مقيم على محاربته.

فلما رأى ذو القرنين عزيمته سار إليه بأُهبتِه وقدّم فورك الفيلة أمامه ودفعت الرجال تلك الخيل النحاس وعليها التماثيل كالفرسان فأقبلت الفيلة نحوها وألقت خراطيمها عليها. فلما أحست بالحرارة ألقت من كان عليها من الرجالة المقاتلة وداستهم تحت أرجلها ومضت مهرولة هاربة لا تلوي على شيء ولا تمر بأحد إلا وطئته. وتقطّع فورك وجمْعه وتبعهم أصحاب الإسكندر وأثخنوا فيهم الجراح. وصاح الإسكندر: يا ملك الهند ابرز إليّ وابق على عدتك وعيالك ولا تحملهم على الفناء. فإنه ليس من السياسة أن يرمي الملك عدته في المهالك المتلفة، والمواضع المجحفة، بل يقيهم بماله ويدفع عنهم بنفسه. فابرز إليّ ودعِ الجند فأينا قهر صاحبه فهو الأسعد.

فلما سمع فورك من ذي القرنين هذا الكلام دعته نفسه إلى ملاقاته طمعاً فيه فسارع إليه وظن ذلك فرصة. فبرز إليه الإسكندر فتجالدا على ظهرَيْ فرسهما ساعات من النهار ليس يلقى أحدهما من صاحبه فرصة ولم يزالا يتعاركان. فلما أعيا الإسكندر أمر فورك ولم يجد له فرصة ولا حيلة أوقع بعسكره صيحة عظيمة ارتجّت لها الأرض والعساكر. فالتفت فورك عندما سمع الزعفة وظنها مكيدة وقعت في عسكره فعاجله ذو القرنين بضربة أمالته عن سرجه وأتبعها بأخرى فوقع إلى الأرض. فلما رأى الجند ما نزل بهم وما صار إليه ملكهم حملوا على الإسكندر فقاتلوه قتالاً شديداً أحبوا معه الموت.

فوعدهم من نفسه بالإحسان ومنحه الله أكتافهم. فاستولى على بلادهم وملّك عليهم رجلاً من ثقاته وأقام بالهند حتى استوثق له ما يريده من أمورهم واتفاق كلمتهم. ثم انصرف من الهند وخلّف ذلك الرجل عليهم ومضى متوجهاً نحو ما قصد له.

فلما بعد ذو القرنين عن الهند بجيوشه تغير الهنود عما كانوا عليه من طاعة الرجل الذي خلفه عليهم وقالوا: ليس يصلح للسياسة ولا ترضى الخاصة ولا العامة أن يُملّكوا عليهم رجلا ليس منهم ولا من أهل بيوتهم. فإنه لا يزال يستسفلهم. ثم أجمعوا على أن يُملّكوا عليهم رجلا من أولاد ملوكهم فملّكوا عليهم ملكاً يقال له دبشليم وخلعوا الرجل الذي ملّكه عليهم الإسكندر.

فلما استقر لهذا الملك واستوثق له الأمر طغى وعتى وتجبر وتكبر وجعل يغزو من حوله من الملوك. وكان مع ذلك مظفّراً منصوراً فهابته الملوك وخافته الرعيّة. فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة عبث بالرعية واستصغر أمرهم وأساء السيرة فيهم وكان لا يرتقي حاله إلا ازداد عتواً ومكث على ذلك برهة من دهره.

 

محاولة بيدبا لاصلاح سيرة ملك الهند

وكان في زمانه رجل فيلسوف من البراهمة فاضل حكيم يعرف بفضله ويرجع إليه في قوله يقال له بيدبا الفيلسوف. فلما رأى ما عليه الملك من ظلم الرعية فكّر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه وردّه إلى العدل والإنصاف، فجمع لذلك تلامذته وقال: هل تعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه؟ قالوا: لا. قال: اعلموا أني أجلت الفكرة، وأطلت العبرة في دبشليم الملك وما هو عليه من الخروج عن العدل ولزوم الشرور ورداءة السيرة وسوء عشيرته مع الرعية. وإننا نروّض أنفسنا لمثل هذه الأمور إذا ظهرت من الملوك لنرُدّهم إلى فعل الخير ولزوم العدل. ومتى أغفلنا ذلك وأهملناه لزمنا من وقوع المكروه بنا وبلوغ المحذور إلينا ألمُ الجهّال وبلغ إليهم أننا كنا في أنفسهم أجهل منهم وفي عيونهم أقل منهم.

وليس الرأي عنديَ الجلاء عن المواطن وليس يسعنا في الحكمة أن نبقيَ الملك على ما هو عليه من رداءة السيرة وسوء الطريقة. ولا يمكننا مجاهدته بغير أسنتنا. ولو ذهبنا لنستعين عليه بغيرنا لما تهيّأت لنا معاودته ولو أحس منها مخالفتنا وإنكارنا لسوء سريرته لكان في ذلك بوارنا. وقد تعلمون أن مجاورة الكلب والسبع والحية والثور للوثوب على طِيبِ الوطن ونضارة العيش تغريرٌ بالنفس، وأن الفيلسوف لخليق أن تكون همته إلى ما يحفظ به نفسه من نوازل المكروه ولواحق المحذور ويدفع المَخوف لاجتلاب المحبوب. وقد كنت أسمع أن فيلسوفاً كتب إلى تلميذ له يقول له: إن المجاورة للرجال السوء والمصاحبة لهم كراكب البحر إن سَلِم من الغرق لن يسلم من الخوف. فإذا هو أورد نفسه موارد الهلكات ومصادر المَخوفات عُدّ من البهائم التي لا أنفس لها لأن الحيوان البهيميّ يقد خصّ في طبائعه بمعرفة ما يكتسب فيه النفع ويجتنب المكروه. وذلك أن الحيوانات لم تورد بأنفسها مورداً فيه مهلكها وأنها متى أشرفت على موردٍ مهلك لها مالت بطبائعها التي ركّبت فيها وتباعدت عنه شحّاً بأنفسها. وقد جمعتكم لهذا الأمر لأنكم أسرتي وموضع سرّي وبكم أعتضد وعليكم أعتمد. فإن الوحيد في نفسه والمنفرد برأيه حيثما كان هو ضائع ولا ناصر له.

 

مثل القنبرة والفيل

والمثل في ذلك أن قنبرة اتخذت أدحية وعششت فيها وباضت على طريق الفيل. وكان للفيل مشربٌ يتردد إليه فمرّ ذات يوم على عادته ليَردَ مورده فوطئ عشّ القنبرة فهشم بيضها. فلما نظرت ما ساءها علمت أن ذلك من الفيل فطارت حتى وقعت على رأسه باكية. وقالت له: أيها الملك لم هشمت بيضي وقتلت أفراخي؟ أفعلت استضعافاً منك وقلّة لي واحتقاراً لأمري؟ فقال الفيل: هو الذي حملني على ذلك. فتركته وانصرفت إلى جماعة من الطيور فشكت إليهن ما نالها من الفيل. فقلن: وما عسى أن نبلغ منه ونحن طير ضعاف. فقالت للعقائق والغربان: أحب منكن أن تنصرفن معي إليه فتفقأن عينيه فإني بعد ذلك أحتال عليه بحيلة أخرى. فأجبنها إلى ذلك ومضين إلى الفيل فلم يزلن ينقرن عينيه حتى ذهبن بهما وبقي لا يهتدي إلى طريق مطعمه ومشربه إلا ما يقمّه من موضعه.

فلما عرفت القنبرة ذلك منه جاءت إلى غدير فيه ضفادع كثيرة فشكت إليهن ما نالها من الفيل فقلن لها: ما حيلتنا نحن في عظم الفيل وأنى نبلغ منه؟ فقالت: أريد أن توافين معي هويّةً تقرب منه فتنقنقن وتضججن بها فإنه إذا سمع أصواتكن لم يشك في الماء فيهوي فيها. فأجابتها الضفادع إلى ذلك واجتمعن في الهوية ونقنقن فسمع الفيل نقيقهنّ وقد أجهده العطش، فأقبل حتى وقع في الهوية فارتطم فيها. وجاءت القنبرة ترفرف على رأسه فتقول: أيها الطاغي المغترّ بقوّتك المحتقر لأمري، كيف رأيت عظيم حيلتي في صغر جثتي عند عظيم جثتك وصِغَر همّتك؟

فليُشر كل واحد منكم بما يسنح له من الرأي. فقالوا بأجمعهم: أيها الفيلسوف الفاضل الحكيم العادل، أنت المقدّم فيمنا والمفضّل علينا، فما عسى أن يكون مبلغ رأينا عند رأيك وفهمنا من فهمك ونحن نعلم أن السباحة في الماء مع التمساح تغرير والذنب فيه لمن دخل عليه في موضعه. والذي يستخرج السم من ناب الحية فيجرّبه على نفسه فليس الذنب للحية. ومن دخل على الأسد في غابته لم يأمن وثبته. وهذا الملك لم تؤدّبه التجارب ولم تقرّعه النوائب ولسنا نأمن عليك وعلى أنفسنا من سورته ومبادرته بسطوته متى لقيته بغير ما تحب مما هو عليه من همته.

فقال بيدبا: لعمري لقد قلتم فأحسنتم وأجبتم فأبلغتم لكن ذا الرأي الحازم لا بد له أن يشاور من هو دونه أو فوقه في المنزلة. والرأي الفرد لا يُكتفى به في الخاصة ولا ينتفع به في العامة. وقد صحّ عزمي على لقاء الملك دبشليم، وقد سمعت مقالتكم وبانت ليه نصيحتكم والإشفاق عليّ وعلى أنفسكم. غير أني قد رأيت رأياً وعزمت عزماً فستعرفون نتيجته عند لقاء الملك ومحاورتي إياه، فإذا اتصل بكم خروجي من عنده اجتمعوا إليّ.

 

دخول بيدبا على دبشليم وسعيه في تقويم سلوكه

ثم إن بيدبا إذن لأصحابه في الانصراف فقاموا بين يديه يدعون له بالسلامة، واختار يوماً للدخول على الملك دبشليم. حتى إذا كان اليوم المختار ألقى عليه مسوحه، وهو لباس البراهمة، وجاء فسأل عن صاحب إذن الملك فأُرشد إليه فأتاه وسلّم عليه وأعلمه أنه رجل قصد الملك في أمر له فيه النصيحة. فدخل فاستأذن له على الملك وكان في ذلك اليوم فارغاً غير مشغول. فأذن له فدخل ووقف بين يديه وكفّر وسجد ثم استوى قائماً وسكت فلم يتكلّم بشيء.

ففكر الملك دبشليم في سكوته وقال: إن هذا الفيلسوف لم يقصدنا إلا لأحد أمرين: إما ليلتمس منا شيئاً يصلح به حاله أو أمر لحقه فلم يكن له به طاقة ولا وجد عليه مستصرخاً فاعتمصم بنا كي يكون له أبلغ نكايةً وأشد عقوبة على ضده. ثم قال: وبعد فليس هذه الحالة من شرط الفيلسوف لأنه وإن كانت الملوك لها فضل في مملكتها فإن الحكماء لهم فضل في حكمتهم أعظم من الملوك، لأن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم وليس الملوك بأغنياء عن الحكماء بالمال. وقد وجدت العقل والحياء أحق متآلفين لا يفترقان. ومتى فُقِد أحدهما لم يوجد الآخر، كالمتصادقين من الناس وغيرهم إن عَدِم أحدهما صاحبه لم تطب نفس الآخر بالبقاء بعده تأسفاً عليه. ومن لم يستحي من الحكماء ويكرمهم ويعرف فضلهم ويصرفهم عن مواقف الذّلة وينزّههم عن المواطن الرّذلة كان ممن حرم عقله وخسر حياته وظلم الحكماء في حقوقهم وعدّ من الجهّال.

ثم رفع طرفه إلى بيدبا فقال له: إني أنظرك ساكتاً، لا تعبّر عن حاجتك ولا تذكر بغيتك لعلمتُ أن الذي أسكتك إنما هو بليّةٌ ساورتك أو حيلة أدركتك وتبيّنتُ ذلك في طول وقوفك وقلت: لم يكن بيدبا ليطرقنا من غير عادة إلا لأمري حرّكه، وإنه لمن أفضل زماننا ولا سألته عن سبب دخوله إلينا فإنه لو كان شيء يلتمس فيه الاعتزاز بنا من ضيمٍ ناله كنت أول من أخذ بيده وسارع إلى تشريفه وأولاه بلوغ مراده. وإن كانت بغيته عرضاً من عروض الدنيا أمرت بإرضائه من ذلك بما يحب. وإن يكن شيء من أمر الملك ما لا ينبغي للملوك أن يبذلوه من أنفسهم ولا ينقادوا إليه نظرت مقدار عقوبته عليه. على أنه لم يكن ليحضرني على إدخال نفسه في باب مسألة الملوك وإن كان شيء من أمور الرعية يقصد به صرف عنايتي إليه نظرت ما هو. فإن الحكيم لا يخبر إلا بخير والجاهل يشير بضده. وإني قد فسخت لك الكلام فقل ما بدا لك.

فلما سمع بيدبا كلام الملك أفرح روعه وسرّي عنه ما كان وقع في نفسه من الخوف فكفّر له وسجد ثم قام بين يديه وقال: إن أول ما أقول أن أسأل إله بقاء الملك على الأبد، ودوام ملكه على الأمد، فقد جعل في مقامي هذا شرفاً لي على من يأتي بعدي من العلماء وذكراً باقياً على الدهور عند الحكماء إذ أقبل الملك عليّ بوجهه وعطف عليّ بكرمه. والأمر الذي حملني على الدخول إلى الملك ودعاني إلى التعرض لكلامه المخاطرة بالإقدام على نصيحته التي اختصصتُهُ بها دون غيره. وسيعلم من يتصل به ذلك أني لم أقعد عن غاية فيما يجب للملوك على الحكماء. فإن فسح في كلامي ورعاه عني، فهو حقيق بما يراه في ذلك. وإن ألقاه، فقد بلّغت ما يجب عليّ وخرجت عليّ من لوم يلحقني.

فقال الملك: يا بيدبا تكلم فإني مصغ إليك وسامعٌ منك ما تقول، فقل ما عندك لأجازيك عليه بما أنت أهله.

 

نصيحة بيدبا للملك دبشليم

فقال بيدبا: أيها الملك إني وجدت الأمور التي يختص بها الإنسان من بين سائر الحيوان أربعةً وفيها جماع كل ما في العالم، وهي الحكمة والعفّة والعقل والعدل. فالعلم والأدب والرويّة داخلة في باب الحكمة. والحلم والصبر والرفق والوقار داخلة في باب العقل. والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلة في باب العفة. والصدق والمراقبة والإحسان وحسن الخلق داخلة في باب العدل. فهذه هي المحاسن، وأضدادها هي المساوئ. فهي إن كملت في واحد لم تخرجه الزيادة في نعمته إلى سوء حظّ في دنياه أو إلى نقص من عقباه، ولم يتأسف على ما لم يُغنِ التوفيق ببقائه، ولم يحزنه ما تجري به المقادير في ملكه، ولم يندهش عند مكروه يفدحُهُ. والحكمة كنز لا يفنى مع الإنفاق، وذخيرةٌ لا يضرب لها بالأملاق، وحلةٌ لا تخلق جِدّتها، ولذة لا تتصرّم مدتها. إن كنت عند مقامي بين يدي الملك أمسكت عند ابتدائه فإن ذلك لم يكن مني إلا لهيبة منه وإجلال. ولعمري إن الملوك لأهل لأن يُهابوا ولا سيما من هو في المنزلة التي حلّ فيها الملك عن منازل الملوك قبله.

وقد قالت الحكماء: الزم السكوت فإن فيه السلامة، وتجنب الكلام الفارغ فإن عاقبته ندامة. وحُكي أن أربعة من الحكماء ضمّهم مجلس ملك فقال لهم: ليتكلم كل واحد منكم بكلام يكون أصلا للأدب. فقال الأول: أفضل حلية العلماء السكوت. وقال الثاني: أنفع الأشياء أن لا يتكلم الإنسان حتى يعرف قدر منزلته من عقله. وقال الثالث: أنفع الأشياء للإنسان أن لا يتكلم بما لا يعنيه. وقال الرابع: أروح الأمور للإنسان التسليم للمقادير.

واجتمع في بعض الزمان ملوك الأقاليم من الصين والهند وفارس والروم وقالوا: ينبغي أن يتكلم كل واحد منا بكلمة تدوّن عنه على غابر الدهر: فقال ملك الصين: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر مني على ما ردّ ما قلت. وقال ملك الهند: عجبت ممن يتكلم بالكلمة إن كانت له لم تنفعه وإن كانت عليه أوهنته. وقال ملك فارس: إذا تكلمتُ بالكلمة ملكتني وإذا لم أتكلم بها ملكتها. وقال ملك الروم: لم أندم قط على ما لم أقل، ولقد ندمت على ما قلت كثيراً. والسكوت عند الملوك أحسن من الهَذَرِ الذي لا يُرجع منه إلى نفع. وأفضل ما استظلّ به الإنسان لسانه.

غير أن الملك، أطال الله بقاءه، لما أفسح لي في الكلام وأوسع ليه فيه، أول ما أبدأه به من الأمور التي هي غرضي أن تكون ثمرة ذلك له دوني، وأختصّه بالفائدة قبلي، على أنّ العقبى فيما أقصد من كلامي له إنما هي نفعه دوني، وشرفه راجع إليه وأكون أنا قد قضيت فرضاَ واجباً علي.

فأقول أيها الملك إنك في منازل آبائك من الملوك وأجدادك من الجبابرة الذين أنشأوا المدن قبلك ودانت لهم الأرض وبنوا القلاع وقادوا الجيوش واستحضروا العدة وطالت لهم المدة واستكثروا من السلاح والكراع وعاشوا الدهور في الغبطة والسرور، فلم يمنعهم ذلك من اكتساب الجميل ولا قطعهم عن اغتنام الشكر فيما خُوّلوه، وحسن السيرة فيما تقلّدوه، مع عظم ما كانوا فيه من عزة الملك وسكرة الاقتدار.

فإنك أيها الملك السعيد جدّه، الطالع في الكواكب سعده، قند ورثت أرضهم وديارهم وأموالهم التي كانت عندهم فأقمْتَ فيما خوّلك الله من الملك وورثتَ الأموال والجنود، فلم تقم في ذلك بحقّ ما يجب عليك ولا أدّيت المفترض على الملوك إذا أفضى المُلك إليهم، بل طغيت وبغيت وعتوت وعلوت على الرعية وأسأت السيرة وعظمت منك البلية. وكان الأَولى والأشبه بك أن تسلك سبيل أسلافك وتتبع آثار الملوك قبلك وتقفوَ محاسن ما أبقَوه لك وتقلع عما عارُهُ لازم لك وشينُهُ واقع بك، وتحسن النظر في رعيتك وتسنّ لهم سنن الخير الذي يبقى بعدك ذركه، ويعقبك فخره، ويكن ذلك أبقى على السلامة وأدوم على الاستقامة. فإن الجاهل من استعمل في أموره البطر والأمنيّة، والحازم اللبيب من ساس المُلك بالمداراة والرفق. فانظر أيها الملك ما ألقيتُ إليه، ولا ييقُلنّ عليك، فإني لم أتكلم بهذا ابتغاء غرضٍ تجازيني به ولا التماس معروف تكافئني عليه، ولكني أتيتك مشفقاً ناصحاً لك.

فلما قضى بيدبا مقالته، وأنهى مناصحته، ارتعب قلب الملك فأغلظ له الجواب استصغاراً لأمره، وقال: لقد تكلمت بكلام ما أظن أحداً من أهل مملكتي يقدر أن يستقبلني بمثله ويقدم على ما أقدمت عليه، فكيف أنت مع صغر شأنك وضعف منفعتك وعجز قوتك. وقد احتملت على أن تجيبني بمثل هذا الكلام الذي ليس لأحد أن يخاطبني به. ولقد كثر إعجابي من إقدامك وتسلطك بلسانك فيما جاوزت فيه حدّك. وما أجد شيئاً في تأديب غيرك أبلغ من التنكيل بك. ففي ذلك عبرة وموعظة لمن عساه أن يروم من الملوك ما رُمت إذا أوسعوا لهم في مجالستهم.

ثم إن الملك أمر أن يقتل ويصلب. فلما مضوا به فيما أمرهم أمر بإعادته فأحجم عنه ثم أمر بحمله إلى السجن، فحُمل مقيّداً. ثم وجّه في طلب تلامذته ومن كان يجتمع إليه ليودعهم في محبسه فهربوا في البلاد واعتصموا بجزائر البحار. ومكث بيدبا في محبسه أياماً كثيرة لا يسأل الملك عنه، ولا يلتفت إليه، ولا يتجاسر أحدٌ أن يذكره عنده. حتى إذا كانت ليلة من الليالي سَهِد فيها الملك سهداً شديداً ومدّ إلى الفلك بصره ففكر في تنقله وحركات الكواكب فيه، فغرق في الفكر فسلك به إلى استنباط شيء عرض له من أمور الفلك والمسألة عنه. فتذكر عند ذلك بيدبا وتفكّر فيما كلّمه به وارعوى لذلك وقال في نفسه: لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف وضيّعت واجب حقه وحملني على ذلك سرعة الغضب. فإنه قيل: لا ينبغي أن يكون الغضب في الملوك، فإنه أجدر الأشياء مقتاً لأن صاحبه لا يزال ممقوتاً، والبخل فإنه ليس بمعذور مع ذات يده، والكذب فإنه ليس أحد يجاوزه، وعدم الرّفق في المجاورة فإن السّفه ليس من شأنها. وإني أتيت إلى رجل نصيح لي ولم يكن ثلاّباً فقابلته بضدّ ما كان مستحقاً وكافأته بخلاف ما يستوجب، وما كان ذلك جزاءه مني، بل الواجب أن أسمع كلامه وأنقاد لمشورته.

ثم أنفذ من ساعته من يأتيه به.

 

اكرام الملك لبيدبا وتعيينه وزير الدولة

فلما مثل بين يديه قال له: يا بيدبا ألست الذي قصدت إلى تقصير همتي وعجّزت رأيي فيما تكلمت به آنفا؟ قال بيدبا: يا أيها الملك السعيد إن ما أنبأتك به فيه صلاح لك ولرعيتك وفيه دوام ملكك.

فقال له الملك: أعد عليّ ما قلت ولا تدع منه حرفاً واحداً إلا جئت به. فجعل بيدبا ينشر كلامه والملك مصغ إليه. وجعل كلما سمع كلامه ينكت الأرض بشيء كان في يده. ثم رفع رأسه إليه وأمره بالجلوس فجلس. ثم قال له: يا بيدبا إني قد استعذبت كلامك وحسن موقعه من قلبي وأنا ناظر في الذي أشرتَ به وعاملٌ عليه. ثم أمر بقيوده ففكّت، وألقى عليه من لباس الملوك، وتلقاه بالقبول.

فقال بيدبا: أيها الملك، إن في دون ما كلّمتك به ناحية لمثلك. فقال الملك: صدقت أيها الحكيم الفاضل، ولقد ولّيتك في مجلسي هذا جميع مملكتي. فقال له بيدبا: أيها الملك اعفني من هذا الأمر فإني غير مضطلع بتقويمه إلا بك. فقبل ذلك منه وأغفاه.

فلما انصرف علم أن الذي فعله ليس برأي فبعث إليه واستردّه وقال له: إني فكرت في إعفائك فيما عرضته عليك فوجدت أنه لا يقوم إلا بك ولا ينهض به غيرك، ولا يستطيع له سواك ولا يتخالفني فيه. فأجابه بيدبا إلى ذلك.

وكان من عادة الملوك في ذلك الزمان إذا ألبسوا وزيراً أن يعقد على رأسه تاج ويركب في أهل المملكة ويطاف به في مدينة الملك. فأمر دبشليم أن يُفعل ببيدبا ذلك، فوُضع التاج على رأسه وركب ودار في المدينة ورجع وجلس في مجلس العدل والإنصاف وأخذ للضعيف من القوي وردّ الظالم، ووضع سنن العدل. والتصل الخبر بتلامذته فأتوه من كل ناحية مستبشرين بما ناله من الملك من الأخذ والعطاء والبذل، وشكروا الله تعالى على توفيق بيدبا في إزالة دبشليم عما كان عليه من سوء السيرة، واتخذوا ذلك اليوم عيداً يعيّدون فيه. فهو إلى يومنا ثابت في بلادهم.

 

عرض الملك على بيدبا تأليف كتاب يكون دستورا لحسن السياسة

ثم إن بيدبا خلا فكره من أشغاله بدبشليم وتفرّغ من السياسة فعمل كتباً كثيرة فيها من دقيق الحيل. ومضى الملك على ما رسم بيدبا من حسن السيرة والعدل في الرعية فرغب إليه الملوك الذين كانوا في نواحيه وانقادت له الأمور على استوائها وفرحت به رعيته وأهل مملكته. 

ثم إن بيدبا جمع تلامذته ووعدهم وعداً جميلاً وقال لهم: لست أشك أنه وقع في نفوسكم وقت دخولي على الملك أن قلتم إن بيدبا قد ضاعت حكمته وبطلت فكرته إذ عزم على الدخول إلى هذا الجبّار الطاغي. فقد علمتم نتيجة رأيي وصحة فكري، وإني لم آت الملك جهلاً به لأني كنت أسمع ما يقال: إن الملوك لها سكرةً كسكرة الشبان. فلا يفيق الملوك من سكرتهم إلا مواعظ العلماء وأدب الحكماء. ويجب على الحكماء تأديب الملوك بألسنتها وتقويم حكمتها وإظهار الحجة البيّنة اللازمة لما هم عليه من الاعوجاج والخروج عن العدل. فوجدت ما قالت العلماء فرضاً واجباً على الحكماء لملوكهم ليوقظوهم عن سِنَة سكرتهم، كالطبيب الذي يجب عليه في صناعة الطب حفظ الأجساد وردّها إلى الصحة. فكرهت أن يبقى وأموت فيكون ذلك حسرة عليّ وعليكم وما يبقى على الأرض إلا من يقول كان بيدبا الفيلسوف في مدة دبلشيم الملك فلم يردّه عما كان عليه.

فإن قال قائل: إنه لم يمكّنه كلامه خوفاً على نفسه، قالوا: إن الهرب منه ومن جواره أولى به، والانزعاج عن الوطن شديد. فرأيت أن أجود بحياتي فأكون قد أتيت فيما بيني وبين الحكماء بعدي عذراً. فحملت نفسي على التغرير أو الظفر بما أريد وكان في ذلك ما أنتم معاينوه. فإنه يقال في بعض الأمثال إنه لم يبلغ أحد مرتبة إلا بإحدى ثلاث: إما بمشقة تناله في نفسه وإما بوضيعة في ماله أو بوكَسٍ في دينه. ومن لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب. ثم إن الملك مكث على حسن السيرة زمناً طويلاً وبيدبا يتولى ذلك ويتقدم به.

ثم إن دبشليم لما استقرّ له الملك وسقط عنه النظر في أمور الرعية والنظر في الأعداء ومحاربتهم إذ قد كفاه بيدبا ذلك، صرف همته إلى النظر في الكتب التي وضعتها فلاسفة الهند لآبائه وأجداده، وأحبّ أن يكون في الخزانة كتاب باسمه. وعلم أن ذلك لا يقوم به إلا بيدبا فدعاه وخلا به وقال له: يا بيدبا إنك حكيم الهند وفيلسوفها وإن فكرت ونظرت في خزائن الحكمة التي كانت الملوك قبلي جميعها فلم أر أحداً إلا وقد وضع له كتاب يذكر فيه اسمه وأيامه وسيرته وينبئ عنه وعن أدبه وأهل مملكته. ومنه ما وضعته الملوك لأنفسها ولذلك بانت حكمتها، ومنه ما وبضعته حكماؤها. وإني خفت أن يلحقني ما لحق أولئك مما لا حيلة ليه فيه وهو الموت ولا يوجد لي في خزانتي كتاب يذكره الملوك بعدي وأذكَر فيه وأنسب إليه كما ذكر من كان قبلي بكتبهم. وقد أحببت أن تصنع لي كتاباً بليغاً تستفرغ فيه عقلك، يكون ظاهره سياسة للعامة وتأديبها، وباطنه لأخلاق الملوك وسياستها للرعية على طاعة الملك وخدمته فيسقط بذلك عني وعنهم كثير مما يحتاج إليه في معاناة المُلك. وأريد أن يبقى لي هذا الكتاب ذكراً على غابر الدهر.

 

تأليف بيدبا لكتاب كليلة ودمنة

فلما سمع بيدبا كلامه خرّ له ساجداً ثم رفع رأسه وقال: أيها الملك السعيد جدّه، علا نجمك وغاب نحسك ودامت أيامك. إن الذي قد طُبع عليه الملك من جودة القريحة ووفور العقل ينبهه لذلك ويحرّكه لمعالي الأمور التي سُمعت به فتعلو همّته إلى أشرف المنزلة وأبعدها غاية، فأدام الله تعالى سعادة الملك وأعانه على ما عزم عليه فأعانني على بلوغ مراده. وليأمر الملك بما شاء من ذلك فإني صائرٌ إلى غرضه ممهّد فيه الرأي.

قال له الملك: لم تزل يا بيدبا معروفاً بعقد الرأي المبارك بطاعة الملوك في أمرهم وقد اختبرت ذلك منك واخترت أن تضع هذا الكتاب وتجهد فيه نفسك وتعمل فيه بغاية ما تجد إلي السبيل. وليكن مشتملاً على الجد والهزل واللهو والحكمة والفلسفة ليفرغ الحكيم ذهنه لما فيه من حكمة، وتشرح المعاني صدره لما فيه من لهو.

فكفّر له بيدبا وسجد وقال: أجبت الملك لما أمرني به من ذلك وجعلت بيني وبينه أجلاً. قال الملك: وكم هو يا بيدبا؟ قال: سنةٌ. قال: لقد أجّلتك يا بيدبا. وأمر له بجائزة سنيّة يستعين بها على عمل الكتاب كما رسم له الملك.

ثم إن بيدبا أخذ يتذكر أياماُ في الأخذ في ابتداء الكتاب وفي أي صورة يبتدئ به وعلى أي وضع يضعه وعلى أي جنس يرسمه. وجمع تلامذته وقال لهم: إن الملك قد ندبني لأمر فيه فخري وفخركم وفخر بلادكم إلى الأبد، وقد جمعتكم لهذا الأمر. إن الملك دبشليم قد بسط لساني في أن أضع له كتاباً فيه من ضروب الحكمة. ثم وصف لهم ما أشار إليه الملك من أمر الكتاب والغرض الذي قصده في نظمه وترتيبه. وقال لهم: فليضع كل واحد شيئاً في أي فنّ شاء وليعرضه عليّ لأعرف مقدار عقله وأين بلغ من الحكمة فهمه.

قالوا بأجمعهم: أيها الحكيم الفاضل واللبيب العاقل والذي وهب كل ما منحك من الحكمة والعقل والصيانة (وهو الله تعالى)، ما خطر هذا في قلوبنا ساعة قط وأنت رئيسنا وفاضلنا بك شرفنا وعلى يديك انتعاشنا، ولكن سنجهد أنفسنا فيما أمرت. فلم يقع لهم الفكر في ما تقدم به الملك.

فلما لم يجد عندم ما يريد فكّر بفضل حكمته، وعلم أن ذلك أمر إنما يتم باستفراغ الفكر وإعمال العقل. وقال: أرى السفينة لا تجري في البحر إلا بأمر الملاحين لأنهم يعدلونها، وإنما تقطع اللجة وتسلك البحر بمدبّرها الذي تفرّد بإمرتها، ومتى ثقلت بالركّاب وكثر ملاحوها لم يؤمن عليها الغرق.

ثم لم يزل يفكر في رسم الكتاب حتى وضعه على الانفراد بنفسه مع رجل من تلامذته كان يثق بعقله. فخلا به قعد أن أعد من الورق شيئاً كثيراً ومن القوت ما يقوم به وبتلميذه مدة سنة، ثم احتبسا في مقصورة وردّا عليهما الباب. ثم بدأ بيدبا في نظم الكتاب على غاية منها قائم بنفسه. وفي كل باب مسألة والجواب عنها، ليكون فيه هحظ لمن نظر في الأبواب، وسماه كتاب كليلة ودمنة. وجعل الكلام على ألسن البهائم والسباع والوحش والطير ليكون ظاهره لهواً للعامة وباطنة سياسة للخاصة، متضمنا ما يحتاج الإنسان إليه من أمر دينه ودنياه وآخرته على حسن طاعة الملوك ومجانبة ما تكون مجانبته خيراً له. ثم جعله ظاهراً وباطناً كسائر كتب الحكمة، فصارت صور الحيوانات فيه لهواً وما نطقت به حكما وأدباً.

ولما ابتدأ بيدبا بذلك جعل أول الكتاب وصف الصديق، كيف يكون صديقان وكيف يقطع المودة الثابتة بينهما ذو الحيلة والنميمة. فأمر تلميذه أن يكتب على لسانه ما كان الملك شرط عليه. وذكر بيدبا أن الحكمة متى دخلها كلام الغفلة أفسدها واستجهلت حكمتها.

ثم إن بيدبا وقع له موضع الهزل من الكتاب فرسمه، وموضع الجد فأثبته. فجاء الكتاب على لسان البهائم. وكانت الحكمة ما نطقوا به فترك العقلاء الظاهر من ذلك واشتغلوا بما فيه من الحكم والآداب. وأما الجهّال فلم يعلموا السبب فيما وُضع لهم وأظهروا عجباً من محاورة بهيمتين فاتخذوه لهواً وعجزوا عن معنى الكلام أن يفهموه، ولم يعلموا الغرض الذي وُضع لهم لأن الفيلسوف كان غرضه في الباب الأول أن يُخبر عن تواصل الإخوان وكيف تتأكد بينهم المحبة بالتحفّظ من أهل السّعاية والتحرّز عن بُرقُع العداوة والقطيعة بين المتحابين بالكذب ليجرّ الساعي بذلك نفعاً إلى نفسه.

فلما تم الكتاب وتم الأجل أنفذ الملك دبشليم إلى بيدبا أن قد جاء الوعد فماذا صنعت؟ فأنفذ إليه بيدبا: إني على ما وعدت الملك فليأمرني لأحمله إليه بعد أن يجمع أهل مملكته لتكون قراءتي لهذا الكتاب بحضرتهم.

فلما رجع الرسول إلى الملك دبشليم سُرّ بذلك سروراً عظيماً ووعده يوماً يجمع أهل مملكته فيه. ثم نادى في أقصى بلاد الهند ليحضروا قراءة الكتاب. فلما كان اليوم واجتمع الناس أمر الملك أن يُنصب له سرير ولبيدبا سرير. 

وحضروا، وقام بيدبا وعليه ثياب الحكمة التي كان يلبسها إذا دخل على الملوك وهي المسوخ السود. فلما دنا من الملك كفّر له وسجد له فلم يرفع رأسه.

فقال له الملك: يا بيدبا رفع رأسك فليس هذا يوم نحيب، هذا يوم سرور وشكر. ثم سأله حين قرأ الكتاب عن معنى كل باب وأيّ شيء قصده فيه، فأخبره بغرضه فيه وقصده في كل باب فازداد به سروراً ومنه تعجّباً وقال له: يا بيدبا ما عدوت ما كان في نفسي، وهذا الذي كنت أطلب، فتمنّ ما شئت وتحكّم. فدعا له بالسعادة وقال: أيها الملك، أما المال فلا حاجة لي فيه، وأما الكسوة فلا أختار سوى لباسي هذا، ولست أخلي الملك من حاجة إذا عرضت. فقال الملك: وما حاجتك الآن، فكل حاجة لك قبلنا مقضيّة. فقال: أسأل الملك أن يأمر بتدوين كتابي هذا كما دوّن آباؤه وأجداده كتبهم وان يأمر بالاحتياط عليه، فإني أخاف أن يخرج من بلاد الهند فيتناوله أهل فارس إذا علموا به فيذهب، والآن لا يخرج من بيت الحكمة. ثم دعا الملك بتلامذته فخلع عليهم وأمر لهم بالجوائز.

ثم إنه لما ملك كسرى أنو شروان، وكان مستبشراً بالكتب في العلم والأدب رُفع إليه خبر هذا الكتاب فلم يقرّ له قرارٌ حتى بعث برزويه الطّبيب فاحتال وتلطّف حتى أخرجه من بلاد الهند فأقرّه في خزائن فارس.