باب بعثة كسرى لبرزويه إلى بلاد الهند في طلب كتاب كليلة ودمنة

قال بزرجمهر في ذلك: أما بعد فإن الله تبارك وتعالى خلق خلقه أطواراً برحمته ومنّ على عباده بفضله ورزقهم ما يقدرون به على إصلاح معايشهم في الدنيا وما يدركون به استنقاذ أرواحهم من أليم العذاب. فأفضل ما رزقهم ومنّ عليهم به العقل الذي هو قوةٌ لجميع الأحياء. فما يقدر أحد منهم على إصلاح معيشةٍ ولا إحراز منفعة ولا دفع ضر إلا به وكذلك طالب الآخرة المجتهد على استنقاذ روحه من الهلكة. فالعقل هو سبب كل خير ومفتاح كل رغبة وليس لأحد غنىً عنه. وهو مكتسب بالتجارب والآداب وغريزة مكنونة في الإنسان كامنة ككمون النار في الحجر والعود لا تُرى حتى يقدحها قادح من غيرها. فإذا قدحها ظهرت بضوئها وحريقها. كذلك العقل كامن في الإنسان لا يظهر حتى يظهره الأدب وتقويه التجارب، فإذا استحكم كان هو السابق إلى الخير والدافع لكل ضر. فلا شيء أفضل من العقل والأدب. فمن منّ عليه خالقه بالعقل وأعان هو على نفسه بالمثابرة على أدب والحرص عليه سعد جده وأدرك أمله في الدنيا والآخرة.

وقد رزق الله ملكنا هذا السعيد الجد أنو شروان من العقل أفضل الرزق ومن النصيب أجزله وأعانه على ما رزق من ذلك بحسن الأدب والبحث عن العلم وطلب التفسير لجميع علوم الفلسفة والاستنباط عما غاب، والتخير للصواب مما ظهر، فبلغ في ذلك ما لم يبلغه ملك قط ممن كان قبله من الملوك.

وكان فيما يطلب من العلم ويبحث عنه أنه بلغه أن كتاباً من كتب الهند عند ملوكهم وعلمائهم نفيس مخزون وهو أصل كل أدب ورأس كل علم والدليل على كل منفعة ومفتاح طلب الآخرة والعمل للنجاة من هولها والمقوي لما يحتاج إليه الملوك لتدبير ملكهم ويصلحون به معايشهم وهو كتاب كليلة ودمنة.

 

فلما تيقن ما بلغه عن ذلك الكتاب وما فيه من منافع تقرية العقل والأدب لم يطمئن بالاً ولم يسكن حرصاً على استفادته والنظر فيه وفي عجائبه. وكان رجلاً عاقلاً أديباً. فسأهل أهل مملكته أن يختاروا رجلاً عاقلاً أديباً عالماً ماهراً بالفارسية والهندية حريصاً على العلم مجتهداً في استكمال الأدب مثابراً على النظر والتفسير لكتب الفلسفة فيؤتى به. فطلب الرجل حتى ظفروا به فأتي برجل شاب جميل ذي حسب كامل العقل والأدب، صناعته التي يعرف بها الطب وكان ماهراً بالفارسية والهندية يسمى برزويه.

فلما دخل عليه سجد له ثم قام مكفّراً فقال له الملك: يا برزويه إني قد اخترتك لما بلغني عن فضلك وعقلك وحسن أدبك وحرصك على طلب العلم حيث كان. وقد بلغني عن كتاب للهند مخزون بخزائنهم. وقصّ عليه قصته وأخبره بما بلغه عنه وعظيم رغبته فيه وأمره بالجهاز للخروج في طلبه وأن يتلطف بعقله ورفقه وحسن أدبه لاستخراج ذلك الكتاب من خزائنهم ومن قبل علمائهم إما مكتوباً بالفارسية فيستنقذه له هو وغيره من الكتب التي ليست في خزائنه ولا في ملكه.

وأمر أن يحمل معه من المال ما أراد، فإن نفذ قبل أن يصير إلى حاجته كتب إليه ليمدّه من المال ما أحب وإن كثر. وقال: لا تقصّر في طلب كل علم فليست النفقة عوضاً من الفائدة ولو أحاط بجميع ما في خزائني. وأمر المنجمين أن يتخيروا له يوماً يسير فيه وساعة صالحة. فخرج وحمل معه من المال عشرين ألف دينار.

 

ولما قدم برزويه على أرض ذلك الملك وتخلل مجالس الأسواق وسأل عن قرابة الملك والأشراف وعن العلماء والفلاسفة جعل يغشاهم في منازلهم ويتلقاهم بالتحية والمساءلة على باب الملك ويخبرهم أنه رجل غريب قدم بلادهم في طلب العلم والأدب، وأنه محتاج إلى معونتهم على ما طلب من ذلك ويسألهم إرشاده إلى حاجته. ومع شدة كتمانه لما قدم له لم يزل في ذلك زماناً طويلاً يتأدب بما هو أعلم به ويتعلم من العلوم ما هو ماهر فيه. واتخذ لطول إقامته إخواناً كثيرين من أهل الهند من الأشراف والسوقة ومن العلماء وأهل كل صناعة واختص من جماعتهم رجلا يسمى أدويهْ وجعله صاحب سره ومشورته لما ظهر له من حسن علمه وفضل أدبه وصحة إخائه ومحض مودته. وكان يستشيره في جميع الأمور إلا أنه كان يكتمه الأمر الوحيد الذي يعنيه. وكان يألوه باللطف لينظر هل يراه موضعاً لإطلاعه على سره.

فلم يزل يبحث عن ذات نفسه حتى وثق به وعرف أنه لما استودع من السر موضع وفيما طلب منه مجمّل وبما سئل مشفّع وفيما استعان به عليه مجتهد، فازداد له إلطافا. وكان إلى ذلك اليوم الذي رجا أن يكون قد بلغ فيه حاجته قد أعظم النفقة مع طول الغيبة في استلطاف الأصدقاء ومجالستهم على الطعام ومنادمتهم على الشراب لطلب الثقات منهم. فلم يطمئن لأحد ممن آخاه إلى لصديقه الذي ذكرناه. وكان ممك حكّم به برزويه صديقه ذلك والذي رد عليه وكيف فتّش عقله حتى وثق به واطمأن إليه أن قال له وهما خاليان: يا أخي ما أريد أن أكتمك من أمري شيئاً فوق ما كتمتك. فاعلم أني لأمري ما جئت وهوغير ما تراه يظهر مني. والعاقل يكتفي من الرجل بالعلامات من نظره وإشارته بيده لكي يعلم سر نفسه وما يضمر في قلبه.

قال له الهندي: إني وإن لم أكن بدأتك وأخبرتك بماله جئت وإياه طلبت وإليه قصت وإنك تكتم أمراً تطلبه وأنت مظهر غيره، فإنه لم يكن ليخفى عني ولكن لرغبتي في إخائك كرهت أن أواجهك به فإنه قد ظهر لي ما تكتم، وقد استبان لي ما أنت فيه وما تخفيه عني. فأما إذا فتحت الكلام فأنا مخبرك عن نفسك ومظهرر لك سريرة أمرك ومعلمك حالك الذي قدمت له. فإنك قدمت بلادنا لتسلبنا كنوزنا النفيسة فتذهب بها إلى بلادك لتسر بها ملكك. وكان قدومك بالمكر ومصادقتك بالخديعة ولكني رأيت من صبرك ومواظبتك على طلب حاجتك وتحفظك أن تسقط في طول مكثك عندنا بكلام يستدل به على سر أمرك فازددت رغبة في عقلك وأحببت إخاءك فلا أعلم أني رأيت رجلاً أرصن عقلاً ولا أحسن أدباً ولا أصبر على طلب حاجة، ولا أكتم للسر منك، ولا أحسن خلقاً ولا سيما في بلاد الغربة ومملكة غير مملكتك، وعند قوم لم تكن تعرف شيمهم وأمرهم. واعلم أن عقل الرجل يستبين في هذه الثماني الخصال: الأولى الرفق والتلطف، والثانية أن يعرف الرجل نفسه فيحفظها، والثالثة طاعة الملوك وأن يتحرّى ما يرضيهم، والرابعة معرفة الرجل موضع سره كيف ينبغي أن يطلع عليه صديقه، والخامسة أن يكون على أبواب الملوك أديباً حيّلاً ملق اللسان، والسادسة أن يكون لسره وسر غيره حافظاً، والسابعة أن يكون على لسانه قادراص فلا يفلظ من الكلام إلا ما قد تروّى فيه وقدّره فلا يطلع عليه إلا الثقة، والثامنة أن لا يتكلم إذا كان من المحفل عما لم يسأل عنه ولا يقول ما لم يستقينه ولم يظهر من الأمر ما يندم عليه. فمن اجتمعت فيه هذه الخصال كان هو الداعي إلى الخير والربح والمجتنب الشر والخسران. وهذه الخصال كلها بينة ظاهرة فيك واضحة لي منك، فالله يحفظك ويمتعني بمودتك. ومن اجتمعت فيه هذه الخصال الثماني كان أهلاً أن يشفع في طلبته ويسعف بحاجته ويعطى سؤله. ولكن حاجتك التي تطلب قد أرعبتني وأدخلت عليّ الوحشة والخشية فنسأل الله السلامة.

فلما عرف برزويه أن الهندي قد علم أن مصادقته إياه كانت مكراً وختلاً لطلب حاجته وأنزل ذلك منه منزلة اختلاس وسلب فلم يزجره ولم ينتهره ولكنه ردّ رداّ لينا كرد الأخ على أخيه باللين والإشفاق حتى اطمأن ووثق بقضاء حاجته. ثم قال للهندي: إني قد كنت هيّأت كلاماً كثيراً ووضعت له أصولاً وشعّبت فيه شعاباً وشجّنت له شجوناً وأنشأت له أغصاناً وأطرافاً. فلما اكتفيت به فعرفت باليسير أُبتُ عما كنت قد اختلقته فسلم الله لك في العقل والأدب فكفيتني مؤونة الكلام وحزت الجواب باليسير من القول والإسعاف بالحاجة كما قد بدا لي منك. فإن الكلام إذا انتهى إلى العلماء والسر إذا استودع اللبيب الحافظ ثبت وبلغ غاية أمل صاحبه قوياً ثابتاً كثبات القصر الذي أحكم أساسه بالصخور، وكالجبل الذي لا تزعزعه الرياح ولا تزلزله.

قال الهندي: لا شيء أفضل من المودة، فمن خلصت مودّته كان أهلاً أن يخلطه الرجل بنفسه ولا يذّخر عنه شيئاً مما عنده. ورأس الأدب حفظ السر فإذا كان السر عند الأمين الحافظ فهو موضعه مع أنه خليق أن لا يكتم وأن لا يكون سرا لأن السر إذا تكلم به لسانان صار إلى ثلاثة فشاع في الناس، حتى لا يستطيع صاحبه أن يجحده، كالغيم إذا كان متقطعاً فقال أحد إن هذا غيم متقطع، لم يكذبه أحد على ذلك بل يصدقه كل من يراه متقطعا. وأما أنا فقد اشتدّ سروري وابتهاجي بمودتك ومخالطتك. وهذا الأمر الذي تطلبه مني سر ليس بمكتتم ولا بد أن يفشو في المجالس. فإذا فشا وعلن هلكت نفسي هلاكاً لا أقدر على الخلاص منه بالفداء بمال وإن كثر لأن ملكنها فظّ غليظّ يعاقب على الطفيف فكيف على مثل هذا.

فقال برزويه: إن العلماء مدحت الصديق إذا كتم سر صديقه، وهذا الأمر الذي له قدمت إياك اعتمدت به ولك أفشيته ومنك أرجو الحاجة، وهو أمر جسيم وخطره عندي عظيم وأنا واثق بعقلك ولطفك وحسن تأتّيك وحيلتك في دركي ما أمّلته على يديك وبيمنك وبركتك وإن مسّتك في ذلك مشقة من خشية. وأنا أعلم أنك آمن من قبلي أن أطلع عليه أحداً ولكنك تتقي أهل بلادك المطيفين بالملك أن يشيّعوا ذلك. وأرجو أن لا يشيع لأني ظاغن وأنت مقيم وما أقمت فليس بيننا ثالث وإذا رحلت عنك أمنت نفسك أن تفشيه عليك.

 

وكان الهندي خازن الملك وبيده مفاتيح خزانته فأعطاه حاجته من الكتب. فلما وقف برزويه على مطلوبه أخذ في نسخ كليلة ودمنة وتفسيره وأقام على ذلك زماناً طويلاً. ثم عظمت فيه نفقته ومؤونته وأنصب في بدنه وسهر فيه ليلة ودأب فيه نهاره وهو على خوف من نفسه. فلما فرغ من ذلك الكتاب ومما رغب من سائر الكتب وأحكممها كتب إلى أنو شروان يعلمه بما لقي من النصب والروع وأنه قد فرغ من حاجته.

فلما انتهى الكتاب إلى أنو شروان وقرأه وعلم أنه قد فزع من حاجته فرح فرحاً شديداً ثم تخوف معالجة المقادير أن تنغّص عليه فرحه وينقض سروره وأمر بالكتاب إلى برزويه يسأله أن لا يعرج عن القدوم وأن يبسط أمله بما جدد له من حسن رأي الملك فيه، وأنه مفضله ومتخذه وزيراً وأن يبادر الأجل ويعزم على الصبر فإن عاقبته إلى خير ونجاة في الدنيا والآخرة.

ووجه بالكتاب مع بعض ثقاته مع البريد وأمره أن يسير في غير الجادة حذر أن يوجد فيفشو ما كان أسرّ فيذهب كل ما كان عمل ضلالاً.

فلما انتهى الرسول إلى برزويه دفع الكتاب إليه سرا. فلما قرأه تجهز للسفر وسار حتى قدم إلى أنو شروان. فأخبر بقدومه فأمر بإدخاله عليه. فلما رأى ما أصابه من التعب والنصب رقّ له وقال: أبشر أيها العبد الصالح فستأكل حلاوة ثمرة نصيحتك فقرّ عيناً فقد استوجبت الشكر من جميع الرعية وعظيم المكافأة منا وننزلك أفضل المنازل وأشرفها. وأمره أن يريح نفسه وبدنه سبعة أيام ثم يأتيه ذلك.

فلما كان الثامن دعا به وأمر أن يحضر العظماء والأشراف. فلما اجتمعوا وعنده برزويه أمر بإحضار الكتب التي قدم بها من الهند ففتحت وقرئ ما فيها على رؤوس الأشهاد. فلما حكوها على ألسن الحيوان والطير فرحوا فرحاً شديداً وشكروا الله على ما منّ به عليهم على يد برزويه. وأحسنوا الثناء عليه في إنصاب بدنه واستخراج الكتب لهم وإفادتها إياهم.

ثم أمر الملك بعد ذلك أن تفتح لبرزويه خزائن الجوهر والذهب والفضة والكسوة وأقسم عليه الملك إلا دخل وأخذ ما أحب منها وأن لا يقصر فإن ذلك كله ليس بعوض مما أفاده. فسجد برزويه للملك ودعا له ثم قال: أكرم الله الملك كرامة يجمع له بها شرف الدنيا والآخرة وأحسن جزاءه، فقد أغناني الله بحسن رأي الملك عن جميع عروض الدنيا بما وهب الله لي على يديك أيها الملك العظيم الخطير الكريم الخلق السعيد الجد. ولا حاجة لي إلى المال ولكن لسروري بموافقة الملك سيدي واتباع مسرّته آخذ من كسوة الملك تختاً من طراز قوهستان أتجمل به في خدمة الملك وعلى بابه.

فأخذه وذهب به إلى منزله ليفاخر مَن بباب الملك من أهل بيته وخاصته ثم قال: أصلح الله الملك وأكرمه. إن الإنسان إذا كان ذا عقل وأدب فأكرم وأعطي وأحسن إليه وجب عليه أن يشكر ذلك، وإن كان قد استوجبه قبل أن يعطاه. فأنا للملك شاكر أسأل الله له دوام السرور والغبطة في جميع الأمور. ولي أعز الله الملك حاجة هي أعظم الحوائج عندي وأكملها لدي وأشرفها قدراً عندي بعد رضا الملك. فإن رأى الملك أن يشفعني بحاجتي ويعطيني سؤلي فإنها يسيرة على الملك وعظيمة القدر والموقع مني. قال أنو شروان كسرى: سل تعط ما أحببت واشفع تشفع واذكر حاجتك تسعف بها وتكرم، فإن جزاءك عندنا عظيم. ولو سألت الشركة في الملك لم نردّ طلبتك فكيف ما سوى ذلك. فقل فإن جميع ما تسأل مبذول لك وحباً وكرامة.

قال برزويه: أكرم الله الملك وأحسن عني جزاءه فلست أمنّ على الملك بنصبي وعنائي. فله الفضل علي بما عوّضني وشركني في هذه الفائدة. والملك بكرمه وفضل رأيه قد كافأني وأحسن إلي فليعظّم المنّة على عبده باستتمام النعمة إليه وإلى أهل بيته ويشرّفه بأن يأمر بزرجمهر ابن البختكان وزيره ويعزم عليه أن يجهد نفسه في وضعه باباً يذكر فيه أمري وحالي ويبالغ في ذلك بأحسن الكلام وأزين الذكر وأحسن التأليف، ويأمر بذلك الباب إذا فرغ منه أن يضعه بين تلك الأبواب التي في الكتاب ليحيا به ذكري ما حييت في الدنيا وبعد وفاتي، فإنه إن فعل ذلكبي فقد شرّفني وأهل بيتي إلى آخر الأبد ما دام هذا الكتاب منشوراً في الدنيا يُقرأ.

فلما سمع الملك وعظماؤه مقالته عجبوا من عقله ومما سما إليه رأيه وما طلب من الشرف الدائم في الدنيا. وقال الملك: أنت أهل أن تشفع بطلبك فما أيسر ما طلبت في جنب ما تستوجب وإن كان عندئذ عظيم الخطر.

فأرسل الملك إلى وزيره بزرجمهر من ساعته فقال له: فقد علمت مناصحة برزويه وتحرّيه لمسرّتنا ومرضاتنا وركوبه الهول والمخاوف في حاجتنا، وإنصابه نفسه وبدنه فيما يسرّنا وما أصبنا على يديه من العقل والحكمة، وما عرضنا عليه لكي نعوضه من ذلك، فلم يقبل ورضي منا بالأمر اليسير. فإني جزاء له وكرامة أحب أن نشفعه في ذلك. ويسرني أن نجتهد في قضاء حاجته وأن تُكتب باباً مشابهاً لتلك الأبواب التي في ذلك الكتاب وتذكر فيه فضل برزويه وكيف كان بدء أمره وشأنه وطبّه وصناعته وأدبه وترفّعه من ذلك إلى بعثتنا إياه إلى الهند بأفضل ما تجد من المدح في الكلام بما تسرّني به وتسرّه وجميع أهل المملكة. فإنه يستحق ذلك منا ومنك خاصة لعظيم مجبتك الأدب والعلم وأهله. فإن اجتهادك في ذلك وترتيبه راجع فضله إليك. وكلما نظر فيه أحد من العلماء كنت شريك برزويه في ذلك الذكر. واجعل ذلك الباب أول الأبواب. فإذا أنت فرغت من ذلك الباب ووضعته موضعه فأرنيه حتى أجمع العظماء والأشراف والعلماء فتقرأه على رؤوسهم ليظهر لهم من علمك وأدبك واجتهادك في مسرّتنا ما خفي عليهم.

فلما سمع برزويه مقالة الملك وعظيم منزلته عنده خرّ له ساجداً وقال: أدام الله لك أيها الملك السرور والفرح وقرة العين، ورزقك من الشرف في الدنيا ما تفوق به جميع المخلوقين، وفي الآخرة أفضل المنازل مع الصالحين في جنات النعيم.

 

فخرج بزرجمهر من عند الملك فأخذ في وضع ذلك الباب ووصف أمر برزويه من أول ما دفعه أبواه في التعليم إلى أن بعثه الملك إلى الهند، وجاء به بأحسن ما يقدر عليه من الوصف وما عرف به من أدب برزويه وسيرته من أول ما عرفه، وما ظهر للناس من استحقاره الدنيا وزهده فيها ورغبته في الآخرة، ولم يترك من اخلاق برزويه وطبائعه شيئاً إلا ذكره بأحسن ما يقدر عليه بتأليف ونسق محكم. ثم أعلم الملك بفراغه منه وأنه قد وضعه في أول الكتاب وهو باب برزويه المتطبب.

فجمع أنو شروان العظماء والأشراف فدخلوا عليه ودعا بزرجمهر والكتاب بمحضر من برزويه فقرئ على رؤوس الأشهاد. ففرح الملك بذلك وبما أوتي بزرجمهر من العقل والعلم وبما اجتهد في مدح بزرجمهر من العقل والعلم وبما اجتهد في مدح برزويه من غير كذب ولا ادعاء باطل في المدح. فأمر له بجائزة عظيمة من المال والحلي والثياب، فلم يأخذ إلا كسوة كانت من ثياب الملك خاصة. وشكر له برزويه وقبّل رأسه ويده، وأقبل برزويه على الملك يشكره فقال: أدام الله لك أيها الملك والكرامة والجمال في الدنيا والآخرة بما أكرمتني به وأعظمت عليّ المنّة به من تشريفي بالجزاء وأفضل وأكمل ما جازى به أحد من خلقه وأعانني الله على تأدية شكرك ومبلغ رضاك وطاعتك، وعمّرك أقصى ومنتهى غاية ما عمّر به أحداً من آبائك في أفضل السرور وأعم العافية، ووصل ذلك بجزيل شرف الآخرة ورضوان الرب. إنه على ذلك قدير. وجزى الله بزرجمهر بن البختكان خير الجزاء وأحسن عني مكافأته.

فقد عجز لساني عن تأدية شكر الملك وشكره ولو أطنبت بكل ثناء وشكر. والله وليّ ذلك والقادر عليه والسلام.