صبراتة

تقع مدينة صبراته التاريخية على بعد 67كم غرب العاصمة اللّيبية طرابلس، على ساحل البحر الأبيض المتوسّط، وسط وشاحٍ أخضر، تلتقي عنده نهايات سهل جفارة الفاصل بين حواف الجبل الغربي ومياه المتوسّط. وعلى بعد كيلومترٍ واحدٍ من شوارع المدينة .عماراتها وحركتها الدّائبة، تجثم، بجلالٍ وسكينةٍ، آثار صبراته الفينيقيّة الرّومانية بجدرانها الدّهرية الفخمة ومدافنها الفينيقية وأعمدتها المرمريّة ومسرحها الفخم المُرمّم وممرّاتها المرصوفة، متحدّيةً عاديات الزّمن، وشاهدةً على ما عرفته المنطقة من حضاراتٍ ودولٍ وعصورٍ ومواسم. فالأضرحة الفينيقيّة تتجاورُ مع الآثار الرّومانية الهائلة المُتجهّمة التي تحملُ الكثير من قسمات الرّومان أنفسهم. وتنبىء عن الطّينة التي خبزوا منها، مثلما يشي موقع المدينة السّاحر والإستراتيجي بمدى حنكة مؤسّسيها الفينيقييّن وشاعريّتهم.

ليس ثمّة اتّفاقٍ بين المؤرّخين على تحديدٍ دقيقٍ لتاريخ تأسيس مدينة صبراته، وإن كان البعضُ يرجّح أن تكون اُسِّسَت في القرن السّادس قبل الميلاد. ويؤيّد هذا الكلام الحفريات التّي أُجريَت حديثًا بمدينة صبراته، في المنطقة ما بين الفورم والبحر، حيث وُجِدَت بها آثار فينيقيّةٌ تتمثّل في مصاطب رمليةٍ، كان الفينيقيّون يقيمون فوقها أكواخًا مؤقّتةً لفترةٍ قصيرةٍ من السّنة. وأثناء الحفريّات، وُجِدَت فوق المصاطب طبقاتٌ سميكةٌ من الرّمال. وهذا دليل على أنّ الموقع ظلّ مهجورًا لفترةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ. وفي تلك الأكواخ، وُجِدَت جرارٌ بونيقيّةٌ، وقدور يونانيّةٌ ترجع للقرنين السّادس والخامس قبل الميلاد.

وعلى جانب المدينة الفينيقيّة، بُنِيَت المدينة الرّومانية بمسرحها الفخم وبيوتها العالية وأعمدتها وأقواسها. وشكّلت هذه المدينة أحد أهمّ المراكز التّجارية على السّاحل الإفريقي لحوض البحر الأبيض المتوسّط، وإحدى المُدن الثّلاث التّي سُمّيَ بها إقليم طرابلس، وهي: لبدة الكبرى وأويا (طرابلس الحاليّة) وصبراته. ومن هذه الحواضر الفينيقيّة الشّقيقات الثلاث، سُمّيَ الإقليم كلّه: طرابلس.

أمّا بالنّسبة للتّسمية، فقد وُجِدَ إسم المدينة بصيغة "صبرات" على العملة البونيقيّة الحديثة، وأحيانًا "صبراتن". وتَعني هذه العبارة "سوق الحبوب"، لذا يُرجّح بعض المؤرّخين أنّ المدينة كانت تلعب دورًا كبيرًا في المُبادلات التّجارية بين شرق وشمال المتوسّط من جهةٍ وتُجّار محاصيل المنطقة الطّرابلسية وحتّى الجبل الغربي (جبل نفوسة) وغدامس من جهةٍ أخرى. وإن كان المؤرّخ فيليب وارد يرى أنّ يونان جزيرة صقلّية هُم مَن كانوا يُصدّرون الحبوب لصبراته- لا العكس.

وقد ذكر وبلينيوس الأكبر في كتابه "التّاريخ الطّبيعي" وكذلك بطليموس في كتابه "الجغرافيا" أن إسم صبراته أُطلِقَ لتحديد منطقتين: الأولى بالدّاخل، وكانت تدفع الضرائب للثّانية السّاحلية. والمصادر التّاريخية تذكر وجود آثار رومانيّة بالقرب من الجوش، القائمة في عمق البرّ. وهذا دليلٌ على سابق وجود مدينةٍ مهمّةٍ، والمصادر التّاريخية نفسها تُسمّي هذه المدينة صابريّة، وهو يشبه إسم المدينة السّاحلية "صبراته" التّي نتحدّث عنها هنا.

وإذا رجعنا مع التّاريخ، نجد أنّ بداية تأسيس المدينة مُرتبط بموجة الإكتساح الحضاري الفينيقيّ لسواحل حوض البحر المتوسط. وربّما يكون من الضّروري أن نشير في هذا المقام إلى أن الفينيقييّن هؤلاء هم شعب سامٍ، كان يتركّز أساسًا ببلاد الشّام. وقد مهروا في الملاحة البحرية والتّجارة، وكانوا شعبًا وديعًا مُسالمًا، وهم مَن بنى صور وصيدا وغيرهما من حواضر بلاد الشّام. كما أسّسوا مراكز حضريّة في جُزر المتوسط، ووصلوا إسبانيا وبريطانيا. وكانوا يمرّون بمحاذاة شواطىء شمال إفريقيا ليتمكّنوا من اللّجوء إليها في حالة هبوب العواصف العاتية. ومع مرور الوقت أسّسوا عددًا كبيرًا من المُدُن على هذه الشّواطىء الإفريقية الشّمالية. كانت أبرزها: قرطاج والمدن الطّرابلسية، وجزيرة قرقنة بتونس، وقابس، وحضرموت (سوسة بتونس الآن)، وهيبو رحبيس (عنابة) وغيرها..

وهكذا نلاحظ أنّ الفينيقييّن لم يؤسّسوا هذه المحطّات فحسب، بل إنّهم أقاموا العديد منها. وكان غالبها مجرّد محطاتٍ صغيرةٍ تُقام على الشّاطىء في كلّ 30 كلم تقريبًا، وذلك خوفًا من الإبتعاد عن السّواحل ولكيّ يستريحوا من تعب السّفر ويتزوّدوا بالطّعام والماء، ويستطيعوا إصلاح سُفُنهم إن أصابها عطل. وقد لعبت تلك المحطّات، التّي أُنشئت لأغراض سوقيّة وتجارية، دور الوطن البديل الذّي هاجرت اليه موجاتٌ من الفينيقيّين بعدما اشتدّ ضغط الآشوريين في وطنهم الأصلي، حيث قام مهاجرون من صيدا بالإستيطان نهائيًا بالإقليم الطّرابلسي، ولحق بهم آخرون من صور.

يُخبرنا الشّاعر اللاّتيني سيليوس ايتاليكوس أنّ مدينة صور ومُهاجريها هم مَن أنشأوا مدينتي لبدة وصبراته، ولكنّ مَن قام بإنشاء مدينة أويا (طرابلس) هُم مهاجرون من صقلّية، من أصلٍ فينيقيٍّ. أمّا المؤرّخ سالوستيوس كرسبيوس 34-86) ق.م) الذي كان ينتمي لأسرةٍ من العامّة، وشغل منصب بروقنصل لإفريقيا الجديدة في عهد قيصر، فقد قال إنّ مهاجرين من صيدا هُم مَن أنشأ لبدة؛ وعند مقارنتنا لرأي الكاتبين، يتبيّن أنّ الكُتّاب اللاّتين كانوا يخلطون في كتاباتهم بين مدينتي صيدا وصور. وفي كلتا الحالتين، فإنّ المقصود هو أنّ صبراته والمُدن الطّرابلسية قد أسّسهما واستقرّ بهما الفينيقيّون أوّلاً.

وعلى أيّة حالٍ، فإنّ مدينة صبراته لم تبلغ أوج ازدهارها إلاّ بعدما بسطت عليها قرطاجة سيطرتها، إثر تدخّلها لطرد اليونانيين الذّين حاولوا، بقيادة دوريوس، بناء مستوطنةٍ باقليم غرب ليبيا عند مصبّ وادي كنبس (وادي كعام). وظلّت المدينة قرطاجية مع نوعٍ من الحُكم الذّاتي حتى تمكّن الرّومان من تدمير قرطاج وإحراقها نهائيًا في نهاية الحروب البونيقية عام 146 ق.م، لينتهي بذلك حلم فينيقيّ بدأته مُؤَسِّسة قرطاجة أليسار، شقيقة الملك الصّوري بجماليون.

أمّا على مستوى الحياة الرّوحية، فقد كانت تسود صبراته الدّيانات الشرقية التي استقدمها الفينيقيّون والمُتميّزة بتعدُّد الآلهة الأسطوريّة، وفي مقدّمة تلك الآلهة، الإلهة "تانيت بينبعل" التّي هي في الأصل الألهة "أسطرطة" إلهة القمر عند الفينيقييّن بمدينة صور. وكانت بمثابة الإلهة "هيرا"، زوجة الإله زيوس عند اليونان، وفي مقام الإلهة "يونوسيليستس" زوجة الإله جوبيتر عند الرّومان.

يعتقد أحمد صقر، في كتابه "مدينة المغرب العربي في التّاريخ"، أنّ تانيت بينبعل كانت تُعبَد كإلهة للبذر والحصاد والتّناسل، ويُستغاث بها عند الولادة. وقد دلّت الحفريات التّي أُجرِيَت بمنطقة رأس المنفاخ بمدينة صبراته، في سنتيّ 1974-75م، أنّ الإلهة تانيت هي المعبود الرّئيسي بالمدينة، حيث أنّ معظم الأحجار النّذرية التي وُجِدَت بالمقبرة البونيقية، تحتوي على عظام الأطفال المحروقين والمُقدّمين قربانًا للإله "بَعل". ومن بين الأدلّة التي تُبَيّن عادةُ التّضحية بالأطفال تلك الصّورة المنحوتة على النّصب التّذكاري الموجود بتونس والذّي يمثّل كاهنًا يرتدي جبّة شفّافة وهو يرفع يديه مبتهلاً ومتضرعًا إلى المعبود "بعل" ومُقدّمًا له القرابين.

وقد اصطلح علماء الآثار على تسمية الجِرار والمدافن التي تحوي عظام أطفالٍ محروقةٍ كقرابين فينيقيا بإسم "توفيت"؛ ويُؤكّد مثل هذه العبادة المؤرّخ اليوناني القديم بلوتارخ (45-125م) الذي يقول إنّ "المؤمنين الحقيقييّن كانوا لا يتردّدون في تقديم أطفالهم قرابين على مذبح الآلهة. أمّا الأغنياء ذوو العقلية الواقعيّة، فقد كانوا يقدّمون للآلهة صغار الرّقيق أو يشترون أبناء الفقراء ويستعيضون بهم عن أبنائهم قرابين".

استُعيضَ لاحقًا عن تقديم قرابين بشريّةٍ بقرابين من الماعز والماشية. والدّليل على ذلك أنّ الأواني الفخارية التي اكتشفت برأس المنفاخ بصبراته كانت ملأى بعظام ماشيةٍ محروقةٍ. وقد أيّدت هذا الكلام الحفريات الأثرية وكذلك النّقوش التي وُجِدَت على الأنصاب الرّومانية في نقاوس، حيث يقول النّقش: "روح بروحٍ ودم بدمٍ وحياة بحياةٍ"؛ وهذه العبادة تعني أنّ الإله "بَعل" قد قبل التّعويض عن حياة البشر بحياة الحيوان، كما تُعدّ دليلاً على أنّ الديّانة التّوحيدية قد عَرفت طريقها إلى الفينيقيين في آخر عهودهم أيضًا.

حين بَسَط الرّومان سيطرتهم على المدينة، بالغوا في بناء مبانٍ ضخمةٍ، مازال بعضها قائمًا حتّى الآن بصبراته، كالمسرح ومعبد الفورم والأقواس الفخمة التي تُذكّر بقوس ماركس أورليوس بطرابلس. وعرفت المدينة ازدهارًا شديدًا على المستويين الفكري والتّجاري. وقد سَجّلت لنا وثيقةٌ الصّراعات الفكرية بين رومان صبراته، في كتاب المُطارحات الشّهير: "دفاع صبراته"؛ فحين وصل الفاتحون أبواب صبراته، فتحت لهم ذراعيها بكلّ حُبٍ. وتُحدِّثُنا كتب المغازي بأنّ أهالي هذه المدينة فتحوها للمُسلمين صلحًا من دون قتالٍ، ربّما لأن الأرض تحنّ إلى أهلها. فهذه المدينة العربية الفينيقية رأت في الفتح الإسلامي عودةً إلى الأصل وخلاصًا من براثن الرّومان.

بعد عدّة قرونٍ من صراعات دول شمال إفريقيا الإسلامية، أصاب المدينة تهميشًا، بعدما نهضت مدنٌ أخرى في الدّواخل، كانت أكثر أمنًا وأبعد عن طارقي البحر وغزاته ومُغامريه. فتآكل الكثير من أحياء المدينة وحلّ بالبعض الآخر الخراب، وذلك لطبيعة المواد التي استُعملَت في البناء ومعظمها من الحجر الجيري المُغطّى بطبقةٍ من الجبس (السّتوكو). فكانت طبقة الجبس تتآكل مع الزّمن لتنهار ومعها المباني، ويتحول الكلّ إلى أكوامٍ من الحجارة والأعمدة المنهارة أو المتصدّعة. وقد ذكر الرّحالة اليعقوبي، في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، أنّه مرّ بصبراته وأنّ بها مباني وتماثيل فخمةٍ. أمّا التيجاني فقد مرّ بها في القرن الرّابع عشر ووصف أعمدة الرّخام والمباني بقوله: "وبهذه المدينة آثار قديمة وأعمدة مرتفعة من الرّخام قائمة إلى الآن لا بناء يكنفها، وَوُجِدَت ساريتان منها متجاورتان على شكلٍ واحدٍ، وكلّ واحدةٍ مؤلّفةٍ من أربع قطعٍ في غاية الفخامة والإرتفاع وحُسن الصّنع".

كما وَصَف آثار صبراته الكثير من الرّحالة الأوروبييّن في القرن التّاسع عشر، مثل "بارت" الذي تحدّث عن المسرح والأعمدة والأقواس. وقد رأى أيضًا رصيف الميناء وتمثالين من الرّخام، أحدهما لامرأةٍ ذات جسمٍ متناسقٍ. كما وصفها الرّحالة "فون مالتزان" ووصف المسرح الدائري والتّماثيل والميناء وبعض الأبنية البيزنطيّة المتأخّرة. ومع الإحتلال الإيطالي لليبيا عام 1911م، قرّرت الحكومة الإيطالية تكليف بعثةٍ من كبار المؤرّخين وعلماء الآثار بالبحث عن الآثار الرّومانية بصبراته وغيرها من المُدن اللّيبية. وبدأت الحفائر المُكثّفة بصبراته من سنة 1923 إلى 1936، وأدّت إلى اكتشاف وترميم معظم مباني وشوارع ومسرح ومدافن المدينة القائمة حتّى الآن.

ربّما تكون هذه هي الحَسنة الوحيدة التي تركها الطّليان بليبيا، وإن كانوا نهبوا الكثير من الآثار ثم رمّموا الضّريح البونيقي الشّهير، العائد للقرنين الثّالث والثاني قبل الميلاد، والذي هو مسلّة شاهقة تُرى مع المسرح من عدّة كيلومتراتٍ. وإلى جانب مدينة صبراته الأثرية، تقف الآن ثانيةً المدينة الحديثة بشوارعها وعماراتها ونخيلها وزيتونها؛ فأرضها شديدة الخضرة تمتدّ حتّى دحمان وحرمان شرقًا وجبار والعجيلات وسوق العلالقة جنوبًا.

 

صنفتها منظمة اليونيسكو مدينة تراثية عالمية عام 1982