صيدا

صيدا كما جاءت في الاعمال الكاملة للدكتور نفولا زيادة --الجزء الثالث عشر

صيدا، المدينة اللّبنانية، هي صيدون القديمة، من أقدم وأهمّ ممالك فينيقيا.

كانت تُقسَم قديمًا إلى قسمين- كما تدلّ النّقوش التي وُجِدَت في معبد أشمون: صيدا الكبرى أو البحرية وهي مركز الصّناعة والتجارة وتقوم المدينة الحالية مكانها؛ وصيدا الصّغرى وكانت تقع قي الضاحية على سفوح المُرتفعات التّي تحيط بالمدينة.

يرجع تاريخ صيدا إلى ظهور الفينيقيّين فيها في أوائل الألف الثالث ق.م. وتُنسَب صيدا إلى صيدون بكر كنعان، وقد كانت رئاسة المدن الفينيقية والسيادة البحرية من نصيبها، فمارست هذه الرئاسة على جنوب لبنان بما في ذلك صور، واحتفظت بسيادتها البحرية كما فعلت من قبل جبيل وأرواد في شمال لبنان. وكانت صيدا أُمًا لمدينة "هبّو" في شمالي إفريقيا و"كيثيوم" في قبرص، كما كانت صور أمًا لمدينة قرطاجة.

ازدهرت المدينة بنوعٍ خاصٍ في أواخر الألف الثّاني وأوائل الألف الأوّل ق.م، بعد أن سيطرت على الحوض الشرقي للمتوسّط فترة من الزمن. وكان كتاب أسفار العهد القديم، كما كان الشّاعر اليوناني هوميروس، يسمون الفينيقيين "صيدانييّن"، ممّا يدل على قِدَم صيدا في التاريخ الفينيقي وازدهارها وسيطرتها. ويذكر هوميروس في إلياذته الصُّناع والفنّانين الصّيدانيين ويمدحهم ويشير إلى "الثياب المُطرّزة من صُنع الصيدانيات" ويصفها بإعجاب. وفي القرن الثّاني عشر ق.م خسرت صيدون سيادتها فترةً من الزّمن، وذلك بسبب غزو الفلسطو لها وتدميرهم إيّاها. فانتقلت عظمتها إلى صور.

توالى على المدن الفينيقية، بما فيها صيدون، الفاتحون والغزاة. وكان الإحتلال الأجنبي عنيفًا طاغيًا حينًا وضعيفًا لا أثر له حينًا آخر حسب مراحل الإزدهار أو الإنحطاط التي كانت تمرّ بها الدّولة المُحتلّة.

تعاقب على صيدون الحماية أو الإحتلال المصري الذي دام فترةً طويلةً، ثم الآشوريون. وقد ثارت المدينة على العاهل الآشوري  أسرحدون حوالى سنة 680-670 ق.م، فجاء هذا الملك الطّاغية ودمّر المدينة وذبح وجهاءها ونفى سكّانها إلى آشور.

وأثناء الإحتلال الفارسي ثارت المدينة أيضًا ضد إرتحششتا الثالث، فأتاها بجيشٍ وحاصرها. ولمّا رأى الصيداويّون أنّ المفاوضة لا تجدي  نفعًا فضّلوا الموت على السّبي والأسر. فأغلقوا مدينتهم وأحرقوا جميع مراكبهم وأشعلوا النيران في المدينة واستسلموا للموت حرقًا. ويُقال إنّ أكثر من 40 ألف نسمةٍ هلكوا في هذا الحريق الهائل.

 

بعد الفرس استسلمت صيدون إلى الإسكندر المقدوني من دون مقاومةٍ، ومن بعده إلى خلفائه. وفي أوائل العهود الرومانية كانت  صيدون تُشكّل شبه جمهورية صغيرة، لها حكّامها وقضاتها ومجلس شيوخها.

ونذكر بالمناسبة أنّ القديس بولس عندما رفع دعواه إلى قيصر، سافر إلى روما من مرفأ صيدون. وبالرغم ممّا اعتراها من جمودٍ في  هذه القرون، فإنّ هذه المدينة كان ما يزال فيها حركة تجارية لا بأس بها. وفي العهود البيزنطية كانت مركز مطرانية وعاصمة فينيقيّة الساحلية الجنوبية. وفي سنة 667 وقعت صيدون في أيدي العرب، ومنذ ذلك الحين أصبح اسمها صيدا. وأصبحت تابعةً إداريًا لمدينة دمشق عاصمة الأموييّن فيما بعد. وفي سنة 1111 حاصرها الملك "بدوين الأوّل" الصّليبي ملك القدس، فاستسلمت بعد حصار 47 يومًا.

وفي العهد الصليبي كانت صيدا مركز ولايةٍ من الولايات الأربع التّي تؤلّف مملكة القُدس وكان يحكمها كونت، وتمتدّ حدودها من الدامور  شمالاً إلى جبل الكرمل جنوبًا.

وفي سنة1187 استسلمت من دون مقاومةٍ إلى صلاح الدين الأيوبي، فهدم أسوارها. وفي سنة1197 استعادها الصّليبيون ثم استردّها العرب في سنة 1249 لتعود وتقع مرةً أخرى في يد الإفرنجة. وقد أصلح الملك لويس التاسع الفرنسي أو القديس لويس  أسوار المدينة أثناء إقامته فيها. وفي سنة 1291 تخلّى عنها "فرسان المعبد" نهائيًا بعد سقوط مدينة عكّا، آخر معقلٍ من معاقل الصّليبيين في هذه البلاد.

وفي عهد المماليك تأخّرت مدينة صيدا كثيرًا وانحطّ شأنها وشأن كلّ المدن السّاحلية، لأنّ المماليك كانوا يعمدون إلى طمر الموانىء وتخريبها لمنع سُفن الأعداء من دخولها.

وفي العهد العُثماني أصبحت صيدا سنة 1662 مركز ولايةٍ، ثم اتّسعت في ما بعد حدود الولاية على أيّام الجزّار بما ضمّ إليها من بلاد.

وفي القرن السّابع عشر عرفت المدينة بعض الإزدهار على عهد الأمير فخر الدين الثاني المعنيّ الذي جعلها عاصمةً له، فنشطت الحركة التّجارية وأخذ الأجانب يتمركزون فيها ويوسّعون تجارتهم معها، وخصوصًا بعد أن فقدت طرابلس مركزها التّجاري. وكانت صيدا وحلب تتنافسان الزّعامة الإقتصادية والتجارية في عهد فخر الدين.

ولعلّ سبب ازدهار هذه المدينة في هذه الفترة بالذّات هو سياسة فخر الدين الخارجية وحمايته لأجانب من تجّار ومرسلين. هذا من ناحيةٍ. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ إنّ صيدا هي المرفأ الطّبيعي لدمشق وسوريا الداخلية وطريق صيدا- مرجعيون- دمشق، طريق طبيعيّ تاريخي. طبيعي لأنه أقصر الطرق إلى داخلية سوريا ولأن الثلوج لا تقفله شتاءً؛ وتاريخي يدلّنا على تلك القلاع المبنية على طوله في أماكن استراتيجيةٍ، مثل قلعة الشقيف وقلعة بانياس.

كثُرت في صيدا الأبنية المعنيّة التي ما يزال منها باقيًًا حتّى يومنا هذا، وكثُرَت أيضًا الحانات التي كان يقيم فيها التّجار الأجانب وقناصل الدّول الأوروبية.

وفي أواخر القرن الثّامن عشر نقل الجزّار مركز ولاية صيدا إلى عكّا، وهذا ما عجّل في سقوط المدينة. ولم يكتف الجزار بذلك، بل قام  بطرد التّجار الأجانب منها. ومنذ ذلك التاريخ برزت بيروت كمركزٍ واحتلّت مكان صيدا في العلاقات التجارية مع أوروبا.

وفي أيّام الإحتلال المصري أصابها زلزال مُهمّ فتهدّم قسم منها ولكن سليمان باشا الفرنساوي، معاون القائد الفاتح إبراهيم باشا،  أعاد لها عمرانها وأحاطها بسورٍ من جهة اليابسة.

وبعد الحرب العالمية الأولى التي انتهت بإجلاء العثمانييّن عن هذه البلاد، أُعيدَت مدينة صيدا إلى الوطن الأم وضُمَّت إلى الجمهورية  اللبنانية. ومنذ ذلك الوقت ومدينة صيدا عاصمة لبنان الجنوبي.

لمدينة صيدا اليوم مرفأ واحد صالح للسّفن الشراعية. أمّا صيدون القديمة فكان لها ثلاثة مرافئ، هي المرفأ الشّمالي ويقع مكان المرفأ الحالي، والمرفأ الجنوبي أو المرفأ المصري ويقع جنوبي المدينة القديمة، والمرفأ الخارجي ويقع في الجزيرة قبالة صيدا.

تقع القلعة البحرية المعروفة بقلعة صيدا التي بناها الصّليبيون في القرن الثالث عشر على جزيرةٍ صغيرةٍ كانت تتّصل باليابسة بحاجزٍ من الصّخور وتتحكّم بمدخل صيدا. فهي إذن في موقعٍ استراتيجيٍ مهمٍ. ويُظنّ أنه كان يقوم على الجزيرة الصغيرة معبد فينيقي مُخصّص لعبادة "الإله ملكرت"، يدلّ على ذلك العمد القديمة والحجارة الأثرية التي استُعمِلَت في بناء القلعة الصّليبية والظاهرة الآن لِمَن يُدقّق النظر في هذا البناء. ويصل القلعة اليوم بالمدينة جسر له قناطر، رُمّم منذ مدةٍ حديثة على العهد الإستقلالي.

جلب الصّليبيون معهم إلى الشّرق نظام الحصون أو القصور المُحصّنة التي كان يسكنها الإقطاعيون في أوروبا، في العصور الوسطى للتّحصين ضد العدو الخارجي أو الغاز المفاجئ. ومن هذه القصور "القصر العصيّ" القائم على ربوةٍ عاليةٍ أو مكانٍ حصينٍ يُحيط به  خندق أو هوة عميقة تُملأ بالماء. ولهذا القصر باب رئيسي وأبراج مستديرة وجسر متحرك. ويحيط بالقصر سور ضخم يتخلّله أبراج مستديرة لها فجوات صغيرة لرمي النّبال. ووراء هذا السور في وسط القلعة يقوم القصر، وهو بناء متين سميك الجدران، ضخم الحجارة، معدّ لسكن صاحب القصر أو الحاكم مع حرسه وجنوده وسائر الرعية.

إنّ الزّائر لمدينة صيدا الحالية يعتقد لأوّل وهلةٍ أنّها مبنية بشكلٍ فوضويّ، وإن المرء يضلّ في أزقّتها الملتوية المُظلمة. ولكنّ نظرة واحدةً إلى خارطة صيدا ترينا أنّ هذه الأخيرة مدينة لها طرازها القديم ولها هندستها الخاصة. فمعظم شوارعها، إذا صحّ أن نسمّيها شوارع،  مُمتدّة من الجنوب إلى الشمال، بحيث تؤدّي كلّها إلى المرفأ. وهذه الشوارع الطّولية تخترقها شوارع عرضية من الشرق إلى الغرب وتؤلّف معًا "مصلّبيات" أو ساحات. إلاّ أنّ هذه الشوارع أو الطّرقات تُغطّيها الأبنية المرصوصة جنبًا إلى جنب، فتأخذ منظرًا مُعتمًا خاصًا.

نجد في صيدا قصرًا "معنيًا"، كان القسم العلويّ منه مركزًا لمدرسة عائشة أُم المُؤمنين، إلى جانبه حمّامه "حمام الجديد" ويأتي هذا الحمّام في المرتبة الثّانية بعد حمّام قصر بيت الدّين من حيث الجمال والهندسة. وقد سكن هذا القصر أسعد باشا العظم، والي صيدا، عام 1143هـ، وكان معاصرًا للأمير ملحم الشهابي.

وهناك الجامع البرّاني الذي يقع قبالة قشلة الدّرك، وهو من بناء المعنييّن. والظّاهر أنه أوّل بناءٍ بُنِيَ خارج صيدا، لذلك لُقّب بهذا الإسم. وبه دُفِنَ الأمير ملحم المعنيّ في غرفةٍ خاصةٍ يعلوها قبة. وقد كُتِبَ على ضريحه ما يلي: "بسم الله تعالى الرّحمن الرحيم هذه روضة المرحوم الأمير ملحم بن معن، تُوفّي إلى رحمة الله تعالى في أواسط شهر ذي الحجّة، سنة ثمانية وستين وألف".

وفي الجهة الغربية، كان يقع على الأرجح قصر الأمير فخرالدّين الخاص، وبقربه حمّامه الذّي مايزال قائمًا ويُسمّى حمّام المير. وإلى شمال السّاحة يقع خان الإفرنج، وهو بناء ضخم يحتلّ مساحةً كبيرة، وله بابان رئيسيان مُصفّحان بالحديد.

وقد سكن هذا الخان في ما مضى قناصل الدولة الفرنسية والآباء الفرنسيسكان الذين شيّدوا كنيسة الناحية الشرقية، وما تزال هذه الكنيسة باقية حتّى اليوم. وهي خاصة طائفة اللاّتين في صيدا.

ومن الآثار المعنية أيضًا كنيسة اليسوعييّن، وهي قديمة جدًا، يظهر أنّها من بناء الأمير فخر الدين المعني.

وأخيرًا نذكر الجامع العُمَريّ الكبير الذّي يقع بالقرب من كليّة المقاصد الإسلامية. وهو من الأماكن الأثريّة الصليبية. يقوم على ربوةٍ عاليةٍ تشرفُ على البحر من جهة الغرب. وهو أكبر مسجدٍ في صيدا، بديع الطّراز، جميل الهندسة، مُتّسع الباحات. كان كنيسةً في القرن الثالث عشر لفرسان القديس يوحنّا، ثم حُوِّل بعد عهد الصّليبيّن إلى جامعٍ.

أمّا القلعة البرّية فلم يبق منها إلاّ القليل لأنها هُدمت واستُعملَت حجارتها لترميم القلعة البحرية.

وفي صيدا مدافن وحفريات فينيقيّة. فقد بدأت الحفريات والتّنقيب عن الآثار القديمة منذ سنة 1855 في محلّة مغاير طبلون، في عين  الحلوة جنوبي غربي المدينة الشّعبية، ومغارة طبلون تحريف لـ:مغارة أبولون.

تقع في هذه المحلّة مدافن من أهم مدافن صيدا القديمة، وتتألّف من عدّة مغاير، يُقرَن أهمّها بمغاور طبلون المغرقة في القِدَم، وهي  جزءٌ بسيطٌ من مدافن صيدون القديمة التي ترجع إلى عهودٍ مختلفةٍ. إلاّ أنّه لم يبق منها شيء الآن بعد أن دُمَّر أكثرها أو استُعمِل مقالع للحجارة، وأصبحت معظم محتوياتها في متاحف الآستانة وأوروبا.

وقد عُثر في مدافن صيدا على النّواويس الملوكيّة الثّلاثة، وهي على الشّكل المصري ومن الحجر الأسود القاسي. ويظهر أن الفينيقييّن ابتاعوها من مصر وأفرغوها من جثّثها الأصلية ومحوا كتابتها الهيروغليفيّة ثم وضعوا فيها جُثث ملوكهم ونقشوا عليها  الكتابة الفينيقية. وأخيرًا اكتشف الدّكتور فورد، أحد مؤسّسي الكلية الإنجيلية في صيدا، خمسةً وعشرين ناووسًا على الشّكل المصري، وهي موجودة الآن في المتحف اللبناني.

وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المنطقة ما تزال تحتوي على الكثير من النّواويس، وأن التنقيب والحفريات ستُكشَف عنها عما قريب.

هيكل أشمون

كان لكلّ مدينةٍ فينيقيّةٍ إلهٌ خاصٌ بها، هذا إذا لم يكن لها عدّة آلهة. ومن آلهة صيدون الإله أشمون إله الشفاء وشفيع صيدا. وقد  أُجرِيَت حفريات في هيكل أشمون حوالى عام 1900، قام بها "مكريدي بك" مع مُهندسين من البعثة الألمانية التّي كانت تشتغل في هياكل بعلبك. وقد عثرت الحفريات على نتائج في غايةٍ من الأهمّية، إذ وُجِدَ على حجارة المعبد نقوشٌ فينيقيّةٌ ذات فائدةٍ كبيرةٍ لتاريخ فينيقيا.