بغـداد

بغداد كما جاءت في الاعمال الكاملة للدكتور نفولا زيادة --الجزء الثالث عشر

يعود تاريخ بغداد، عاصمة
العراق، إلى النّصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، حيث ازدهرت فيها مستوطناتٌ بشريةٌ عديدةٌ، منها مدينة "شادوبم" التي تُعرَف اليوم بإسم "تل حرمل" والتي بيّنت الدراسات عن وجود جامعةٍ فيها. وبالقرب من شادوبم كان هناك مركزٌ حضريٌ آخر يُعرَف بإسم زارلو.

 

وفي الجانب الغربي من دجلة كان العديد من المراكز الحضرية الرّئيسية، منها مدينة دوركوريكالزو التي زخرت أبنيتها بقصورٍ مُزيّنةٍ وبرج مدرج ومعابد ودور سكن وشوارع. وتوصّلت التنقيبات إلى أنّ زمن تأسيس المدينة يعود إلى عهد الملك كوريكالزو (القرن الخامس عشر ق.م.). كما اكتُشِفَ في بغداد عددٌ من الآثار التي تمثّل مراكز حضارية من العصرين الآشوري والبابلي.

أمّا تأسيسها الجديد فيعود إلى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، الذي أسّس أولاً مدينة المستديرة، وكانت خالية من كل المنشآت الترفيهية. ولمّا قرّر الخليفة المنصور بناء العاصمة الجديدة واختار لها الموقع الصالح، أمر بتخطيطها على الأرض بمادةٍ قابلةٍ للإشتعال، فأشعل فيها النّار ليلاً، فظهر له شكل مدينته، فاختار لها المُهندسين الذّين أشرفوا على بنائها. هكذا شُيِّدت المدينة التي دعاها المنصور "دار السّلام"، وأحيطت بخندق وأسوار تحميها من الأخطار.

شهدت بغداد خلال سنواتٍ قليلةٍ تطورًا حضاريًا واسعًا، ممّا دفع بالخليفة المنصور إلى تشييد مدينةٍ في الجانب الشّرقي من نهر دجلة سمّاها الرّصافة. ومنذ ذلك الحين صارت بغداد رائدة في مختلف المجالات الإقتصادية والإجتماعية والثّقافية والعلمية. وقد بلغت أوجها في عهد الخليفة هارون الرّشيد حيث بلغ فيها العمران ذروته، فأُقيمَت الجوامع والمساجد ودور العلماء والقصور الفخمة.

وبعد أن نقل الخليفة المُعتصم بالله العاصمة إلى سامراء عَرَفت بغداد فترة انحطاطٍ، لكنّ سرعان ما عادت لتكون هي العاصمة من جديدٍ.

في عهد الخليفة المُعتمد تركّز التّوسع الحضاري في الجانب الشرقي، أي في الرّصافة التي أحاطها الخليفة المُستظهر بسورٍ ضخمٍ، وتمّ ربط دفتيّ دجلة بثلاثة جسورٍ أساسيةٍ، واستُعمِلَت الزّوارق والقوارب في دجلة كوسائط للنقل بين الرصافة والكرخ. وبذلك صارت بغداد بمنشآتها ومرافقها تضمّ أكبر تجمّعٍ سكانيٍ باعتبارها عاصمةً للعالم الإسلامي.

أخذ النّهوض الحضاري المتميّز الذي شهدته بغداد يتآكل بعد استحواذ جماعاتٍ غير عربيةٍ على السّلطة، مُمهِّدةً بذلك للغزو المغولي، فبدأ بريق الحضارة يخبو حتى صارت مركزًا لولايةٍ في أطراف الدولة العثمانية بعد أن كانت عاصمة العالم. وقد ظلّت محصورةً داخل أسوارها القديمة طيلة عدّة قرونٍ من القهر والإستعباد الأجنبي.

 

في القرن التّاسع عشر شهدت بغداد بوادر نهوض الصّراع السّياسي بين أحزاب الدّولة العثمانية الذي أدّى إلى استحداث بعض الإصلاح في بغداد، كذلك فإن فتح قناة السويس قد أدّى إلى تفكّك اقتصاد المقايضة في العراق وربطه بالإقتصاد العالمي. وبعد هزيمة العُثمانيين في الحرب العالمية الأولى وسقوط العراق تحت النّفوذ البريطاني، عادت لتصبح عاصمةً لدولة العراق الحديث.

كان أوّل تطويرٍ عُمرانيٍ خارج المدينة القديمة استيطان القوات البريطانية المحتلّة في منطقتي الهنيدي والوشاش، ثمّ أعقبه التوسع العمراني في منطقة حزام دجلة. وكان صدور نظام الطّرق والأبنية سنة 1935 مؤشّرًا على اهتمام السّلطات على التّوسع العمراني. وكانت أوّل خطةٍ عمرانيةٍ لبغداد في سنة 1939، أعدّها فريقٌ ألمانيٌ تمّ بموجبها توسيع خدمات الماء والكهرباء وفتح شارع الكفاح وشارع الشّيخ عُمر في الرّصافة. وفي أوائل الخمسينيّات بات الإمتداد الشّريطي في حزام نهر دجلة يُغطّي المنطقة الممتدّة من مدينة الكاظمية في الشمال حتّى معسكر الرّشيد في الجنوب. وقد ساعد إنجاز سدّ الثرثار وانحسار خطر الفيضان إلى حدٍ كبيرٍ في هذا التّوجه.

كان لفتح الطُّرق السّريعة في جانبي الكرخ والرصافة الأثر الكبير في التحضر العمودي على النهر، وركنت بغداد إلى إعداد تصميمٍ أساسيٍ تمّ تحديثه في التّصميم الإنمائي الشامل لعام 1973 الذي شرّع بقرار مجلس قيادة الثّورة. وأولى تنفيذ هذا التّصميم أهميةٌ بالغة المتنزهات والمناطق الترويحية والمساحات الخضراء والعديد من الملاعب الرياضية والمسابح ومراكز التّرفيه والتسلية، وفي مقدّمتها "جزيرة بغداد" السياحية التي تشملُ كازينوهات ومطاعم ومسابح ومرافق رياضية ومسرحًا مفتوحًا وبرج الماء المُشيّد بارتفاع 65 مترًا. ومع هذا فقد فَقَدَت بغداد البعض من منشآتها خلال حرب الخليج الأولى، ثم ما حصل بعده من القصف المُتتابع للمدينة من طرف أميركا وحلفائها أثناء حرب الخليج الثانية. وما زالت المدينة تعيش تحت بؤرة التوتر والإحتلال.