1901- 1975م
أم كلثوم إبراهيم البلتاجي، أعظم المجوّدات من نساء العرب. نَسَج لها من الألحان أعظم مُنشئي اللّحن عند العرب في القرن العشرين. وُلِدَت في قرية طمباي الزهايرة من أعمال الدّقهلية، بين القاهرة والإسكندرية، سنة 1896 في قول، وفي قول آخر سنة 1904.
بدأت أم كلثوم تغنّي وهي في الثّالثة عشرة، متجوّلة في قُرى الرّيف مع والدها الشّيخ إبراهيم، مُنشِدةً التّواشيح الدّينية والقصائد الصّوفية. وأخذ يتعرف بها كبار مُنشئي اللّحن آنذاك، منهم الشّيخ أبو العلاء محمد، والشيخ زكريا أحمد وغيرهما.. وفي سنة 1923، تركت الرّيف واستقرت في القاهرة، حيث التقت مرةً آخرى صديق والدها الشّيخ أبو العلاء، سيّد ملحّني القصائد آنذاك، فغنّت من روائعه قصائد، بَقِي منها عشرة على الأقل.
في السّنة التّالية لوصولها إلى القاهرة، تعرّفت بالشّاعر أحمد رامي الذي كان قد أنهى لتوّه دراسة الفارسية في باريس، وبلغ إليه أنّها غنّت له قصيدته: "الصّب تفضحه العيون". وتعرّفت في السّنة ذاتها على طبيب الأسنان الطّنطاوي والفنان الدكتور أحمد صبري النّجريدي الذي لحّن لها أربع عشرة أغنية على الأقل.
وسرعان ما أخذ النّجريدي يلقّنها ضرب العود، إلى أن حلّ محله في هذه المهمّة عبقري الآلة العظيمة، محمد القصبجي، الذي علّم محمد عبد الوهاب هذا الفن أيضًا. في هذه المرحلة أخذت أم كلثوم تظهر على المسارح في القاهرة والأقاليم مع فرقةٍ موسيقيّةٍ تضمّ على العود: القصبجي، وعلى القانون: محمد العقاد، وعلى الكمان: سامي الشّوا.
وإذا كان الموصلي محقًا في أنّ اللّحن صُنعة الرجال، فإن أم كلثوم حاولت الاحتذاء على أستاذها، فلحّنت أغنيتين وغنّتهما: "على عيني الهجر ده"، و "يا نسيم الفجر" على أوديون.
استمرّت رفقتها للقصبجي ملحّنا من سنة 1924 حتى 1948 حين لحّن لها أغنيات فيلم "فاطمة". لكنّه ظلّ يعزف على العود في فرقتها حتى وفاته سنة 1966. ولم يكن شأن هذه الرّفقة إلا أن تترك أثرًا كبيرًا في مسارها الفنيّ. وهذا المسار الطويل مع القصبجي واكبه مسار مواز مع موسيقييّن من سادة اللحن العربي غيره. فمن سنة 1930 إلى 1932، لحّن لها داوود حسني إحدى عشر أغنية، معظمها أدوار.
تعرّفت أم كلثوم رفيق عمرها الثّاني، الشّيخ زكريا أحمد، في حزيران (يونيو) 1919 في السّنبلاوين، وذهبت إليه في القاهرة سنة 1922. ساعدها كثيرًا في أوّل عهدها بالقاهرة، لكنّه لم يبدأ بالتلحين لها إلاّ في سنة 1931. ولعلّه كان مشغولاً عنها بنتاجه المسرحيّ الكثير. وتعرّفت كذلك على رفيق عمرها الثّالث، رياض السّنباطي، فغنّت له أوّل رائعته: "النّوم يداعبُ عيون حبيبي" التي تبدو أشبه بألحان القصبجي.
في هذه المرحلة اهتمّت أم كلثوم بالأفلام الغنائية، فأنتجت ستة منها.
بدأت أم كلثوم في مطالع العقد الخامس حفلاتها الثّلاثية الشّهرية، في أوّل خميسٍ من كلّ شهر، عدا أشهر الصيف. فظهرت لها أنماط جديدة ومختلفة من الأغنيات التي غلب عليها شكل زاوج الطّقطوقة الطويلة بالمونولوج، منها: "أنا في انتظارك"، "الآهات"، "حبيبي يسعد أوقاته"، "سلو قلبي"، وغيرها... لكن فيلم "فاطمة" كان خاتمة مرحلةٍ وبداية مرحلةٍ، إذ ارتأى الشّيخ زكريا وتوأمه الشّاعر الخالد بيرم التّونسي أنّ السّت لا تفيهما حقّهما الماليّ لقاء التأليف والتلحين لها. ولم يكن ريع الحقوق مُنتظمًا آنذاك بل كان المُغنّي يشتري الكلام واللّحن فتصبح الأغنية ملكًا خاصًا به. فتوقّفا عن العمل معها. ولم تغن لزكريا بعدئذٍ، حتّى كانون الأوّل (ديسمبر) 1960، حين غنّت رائعتهما: "هو صحيح الهوى غلاّب"، مع أغنية بليغ حمدي "حب إيه".
لمّا عاودت أم كلثوم الغناء لمُلحّنين آخرين، كان خط الأغنيات السّنباطية الكُلثومية اتّخذ وجهته، فتابعه السّنباطي بعد 1960 بعددٍ من الأغنيات الكبيرة: "الحب كده"، "حيّرت قلبي"، "حسيبك للزمن"، "لا يا حبيبي"... ولعل من خفايا ما يُذكر ما صادَفَته أم كلثوم أنّها غنّت قصيدة أبي فراس الحمداني "أراك عصي الدّمع" في ثلاثة ألحان.
كُتِبَ كثيرًا في "كوكب الشّرق"، وعُرِفَت مراحل حياتها في نطاقٍ واسعٍ، منذ زواجها بالمُلحّن الكبير محمود شريف، حتّى زواجها الآخر بطبيب الجلد الشّهير حسن الحفناوي. وقد امتاز صوت كوكب الشرق بستّة عناصر قويّة، يكفي كلّ منها ليجعل صوتَها ظاهرة عظيمة:
1- المساحة؛ إذ يغطّي صوتها ديوانين، من وسط موقع صوت الباريتون، الصّوت الرّجالي المتوسط في تصنيفات الأصوات الغربية.
2- التّملك من الصّوت؛ فهي كانت تستطيع أن تؤدّي بسهولةٍ جملةً غنائيّةً صعبةً للغاية، بزخرف صوتٍ يصل إلى حدّ الإعجاز.
3- قوّة الصّوت؛ فالغناء المعتمد على الحجاب الحاجز في أسفل الرئتين، يجعل ضغط الهواء في الحُنجرة مساويًا مرّتين ونصف مرّة للضغط الجوي. أمّا غناؤها فكان يعتمد على الضّغط المباشر على الحنجرة.
4- القوة البدنيّة؛ ذلك أنّ أطول حصّةٍ غنائيةٍ في أطول الأوبرات الأوروبية لمغنٍ بمفرده، لا تزيد على أربعين دقيقة ولا تتجاوز مدّة الغناء المتواصل خمس عشرة دقيقة. بينما كانت أم كلثوم تغنّي أربع ساعاتٍ وحدها، في سهراتٍ تستمرّ في المُعتاد، مع الإستراحة واللّوازم الموسيقية ست ساعاتٍ تقريبًا.
5- طول العمر؛ فأم كلثوم غنّت مُذ كانت في الثالثة عشرة حتى الثّالثة والسبعين، أي ستّين سنة كاملة. وليس في تاريخ الغناء في العالم ظاهرة مماثلة أو مقاربة، ولم يُعرَف مغنّون أوروبّيون غنّوا أكثر من أربعين سنةٍ.
6- دقّة الصّوت؛ إذ أُجرِيَت سنة 1975 تجارب إلكترونيّةٍ لقياس نسبة النّشاز في الأصوات المصرية المعروفة. ويُذكَر أنّ الطنين الكامل بين مقام (دو) ومقام (ري) يتّخذ معيارًا في القياس، إذ إن تسع الطّنين هو الفارق الذي تستطيع الأذن العادية أن تميّزه. وأظهرت الآلات الإلكترونية أن دقّة صوت أم كلثوم بلغت واحدًا على الألف من الطّنين، ودقّة صوت عبد الوهاب واحد على ألف ومائتين من الطّنين.