الشرق العربي في مرآة السياحة

ناجي مشوح

نشر المقال في آب / أغسطس 1961 ، العدد العاشر ، الرائد العربي

لا أجدني بحاجة الى التدليل على أهمية منطقة الشرق الاوسط في ميزان التقدير السياحي . وحسبنا القول إنه قد لا توجد منطقة اخرى في العالم تماثلها في استهواء السائحين وفي استثارة أخيلتهم . فمنذ مئات السنين ، كان شرقنا العربي موضع اهتمام الآخرين لاعتبارات كثيرة ومختلفة ، من دينية وعلمية وسياسية ومزاجية وتبشرية وتجارية . فالشرق هذا مصنع الابجدية ومنبع الحضارات ومهبط الديانات السماوية ومهد الانبياء والرسل . وهو المسرح التاريخي للمدنيات القديمة التي نشأت فوق أرضه وتفاعلت واصطرعت . من هنا كانت معالمه التاريخية مثار إهتمام الناس على مر العصور.

شرقنا العربي يحتضن أقدس الاماكن ، المسيحية والاسلامية وما قبلهما . منه استفاض النور على اوروبا ، عبر الاندلس ، فكان عصر النهضة . وعلى أرضه امتزجت دماء الغرب بدماء الشرق اثناء الحروب الصليبية وتفاعلت . ومن قبل قامت قصور الخلفاء ومقاصير الحريم وليالي الف ليلة وليلة .

ذلك كله ، وغيره كثير ، جعل القوم في العالم ، يتطلعون دوماً بفضول وشغف الى هذه المنطقة ليقفوا على دفائنها واسرارها وأساطيرها وحقائقها وأفانينها ، فأصبحت مقصداً للزائرين منهم وموضع اهتمام الباحثين والمهتمين بها ، وعددهم اكثر من ان يحصى او يحد . ومن الطبيعي ان يرافق هذا الاهتمام بالمنطقة وأهلها كتابات ودراسات عنها وعنهم ، ثم رحلات وسياحات اليها لا تنقطع . ويمكن تحديد العوامل التي منحت بلادنا هذه الصفة السياحية النادرة ، بما يلي :

أولاً : لم ينقطع سيل السياح والحجاج الوافدين ، عاماً بعد عام ، فرادى وجماعات ، الى هذه المنطقة التي تضم الاماكن المقدسة لدى المسيحيين والمسلمين معاً . فيها الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى ببيت المقدس، وفيها مكة المكرمة والمدينة المنورة ، وفيها بيت لحم وكنيسة المهدحيث ولد السيد المسيح وحديقة الزيتون التي سلم فيها يهوذا السيد المسيح الى اليهود وطريق الالآم الذي إقتيد المسيح عبره الى الصليب ، وفيها كنيسة القيامة والناصرة ونهر الاردنحيث تلقى عيسى المعمودية على يدي يوحنا المعمدان. والى التبرك بهذه الاماكن المقدسة ، توافد الزوار والسياح والحجاج منذ القديم وحتى اليوم من كل بقاع الارض ، وما زالوا يتوافدون اليها وسيظلون الى يوم القيامة والحساب . هذه الصفة جعلت من منطقتنا شيئاً مهماً في مرآة السياحة العالمية .

الحج الى الأماكن المقدسة هو الدافع الاول الى ما رأيناه من رحلات لرحالات كبار في التاريخ مثل ابن جبير وابن بطوطة وجيروم والقديسة سلفيا وثيودوسيوس وجربرت الذي اعتلى عرش الباباوية فيما بعد ، وغيرهم.

ثانياً : طلب العلم والبحث عن المعرفة . كانت المنطقة خلال القرون الوسطى هدفاً لعدد كبير من الباحثين والرحالين المدفوعين للبحث عن المعرفة والقادمين من الاندلس والمغرب والشمال الافريقي عموماً للتزود من الثقافة الاسلامية في بلاد الشام والحجاز ومصر . وفي ذلك يقول ابن خلدون : " أهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم حتى ليظن الكثير من رحالي أهل المغرب الى المشرق في طلب العلم ، ان عقولهم على الجملة أكمل من عقول اهل المغرب وأنهم أشد نباهة واعظم كيساً بفطرتهم الأولى ، وان نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب ، ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقية الانسانية ويتشيعون لذلك ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع " .

 ثالثاُ : الرحلات والمغامرات . ظلت الصورة الحقيقية لدى الكثيرين من أهل أوروبا عن العرب والشرق العربي غامضة ومشوشة الى فترات متأخرة ، أو هي ما زالت كذلك الى الآن ، رغم كل مراحل الاتصال قديماً وحديثاً منذ فتح الاندلس والغزو الصليبي والحربين العالميتين الاولى والثانية وما سبقهما او تخللهما من استعمار او انتداب ، وذلك نتيجة لكتابات المغرضين وذي النيات السيئة . كل هذه العوامل السلبية حفزت الكثيرين منهم الى زيارة المنطقة للتعرف اليها ومعرفة أهلها وانماط حياتهم وطراز عيشهم وطبائعهم . كما ان ما كتب عن المنطقة وبخاصة قصص الف ليلة وليلة بجوها المسحور وخيالها الشائق وليالي شهرزاد واسمارها وعطورها ، وما تناقلته الكتب والالسن عن قصور الخلفاء والجواري ، كلها جذبت العديد من الاوروبين الى التعرف الى هذا الشرق الغريب بسحره . وحسبنا ، هنا ، ان نشير الى ان قصص شهرزاد وحدها ، ترجمت الى أكثر من عشرين لغة اوروبية ، وقلدها عدد من أشهر الادباء الاوروبين بعد ان تأثروا بها . ثم عبرت شهرزاد المحيط الى اميركا على قلم إدغار آلن بو في قصته " الليلة الثانية بعد الألف " . ولم تقف قصص شهرزاد ولياليها عند هذا الحد ، فتأثر بها فنانون عباقرة  هناك وخلدها الموسيقي الاشهر رمسكي كورساكوف في سمفونيته الرائعة " شهرزاد " لنسمع فيها صوت السلطان الصارم الخشن وصوت شهرزاد الحالم الناعم الحلو وهي تحكي للسلطان قصة السندباد وأعياد بغداد ولياليها .

ذلك كله ، أثار إهتمام الغرب بالشرق وزاده فضولاً للوقوف على اسراره ، فقامت جماعات كثيرة من الرحالين والمغامرين ، في فترات متلاحقة ، بالسفر الى الشرق من امثال الرحالة الايطالي  فنشنزو موريستي الذي زار البلاد العربية حوالى عام 1800 ، وكارتسن نيبور الذي ارسله ملك الدانمرك على رأس خمسة من ذوي الاختصاص ، بينهم المؤرخ والطبيب والمهندس والفنان ، عام 1761 لدراسة احوال العرب وتقديم المعلومات الكافية عنهم وعن بلادهم ، فزارت البعثة مصر وجدة واليمن وبعض البلدان العربية الاخرى ، ووضع نيبور كتابين عن مشاهداته خلال رحلته ، الأول " رحلات في بلاد العرب " والثاني " وصف جزيرة العرب " .

رابعاً : الاستشراق . هذا دليل واضح على اهتمام الغرب ببلادنا ، بصرف النظر عن أغراض بعض المستشرقين او معظمهم ونياتهم السيئة . لكن الاستشراق ، على كل حال ، كان من الاسباب التي شاركت في التعريف ببلادنا والتشويق اليها ، نتيجة لمئات الكتب والدراسات والبحوث التي وضعها المستشرقون عن العرب وادابهم وتاريخهم وايامهم وعلومهم . وفي طليعة الدول التي نما فيها الاستشراق ، بريطانيا والمانيا وفرنسا والمجر وايطاليا واميركا .

خامساً : البعثات الاوروبية والاميركية المنقبة عن الآثار . زارت بعثات عديدة البلدان العربية منقبة عن الآثار وكتب بعض علماء هذه البعثات الكثير عن المكتشفات الاثرية عندنا وروعة هذه المخلفات والدور الحضاري الذي لعبته بلادنا في التاريخ القديم . وبعض هذه البعثات شارك في التنقيب في بلدان عربية عديدة.

سادساً : الكتاب والشعراء والفنانون الغربيون . استهوى جمال الشرق وسحره وروحانيته وحضاراته ودياناته العديد من الكتاب والشعراء والمؤرخين والفنانين ، وسجلوا الكثير عنه في كتب وقصص وشعر ولوحات ورسوم . وليس بينهم من كان يعرف العربية بخلاف المستشرقين الذين سبقوهم . ووضعوا مؤلفاتهم وكتبوا شعرهم بلغاتهم الاصلية ، مما ألهب أخيلة قرائهم وبات لديهم بعض الحنين الى هذا الشرق العربي ورغبة في زيارته للوقوف على اسراره ومفاتنه .

كل هذه العوامل شاركت ، من قريب او بعيد ، في تكوين أهمية سياحية فريدة بشرقنا العربي . وما ان تكاملت كل العناصر والاسباب المشوقة حتى بات الشرق منطقة سياحية يؤمها العديد من السياح الاجانب .