السلاجقة

يعود السلاجقة في أصلهم إلى الغز من الترك، ويدينون بالإسلام ويأخذون برأي أهل السنة والجماعة، ويرجع أول أمرهم إلى سلجوق بن تقاق الذي هرب من بلاد الترك خوفاً على نفسه من السلطان. ولما دخل سلجوق بلاد المسلمين، اعتنق الإسلام مع جماعته وبدأ يغير على بلاد الترك.

استعان السامانيون بسلجوق في رد غارات الترك على بلادهم، فكان يوجه إليهم قوة عسكرية بإمرة ابنه أرسلان الذي استطاع أن يسترد من الترك ما أخذه من بلاد السامانيين. توفي سلجوق ومن بعده ابنه ميكائيل. وكان لميكائيل هذا ولدان برزا من بعده هما:
طغرل بك محمد وداوود جعفر بك. ودانت لهما جماعتهما بالطاعة والولاء، وسكنوا قرب بخارى. ووقع الخلاف مع ملك التركستان ونشبت بينهم الحروب، ثم انضموا إلى الدولة السامانية التي كانت على آخر عهدها. وكانت تبرز قوة جديدة هي قوة الغزنويين، وقد اصطدموا معهم، ثم تصالحوا.

توسع ملك السلاجقة أيام ملكشاه كثيراً إذ ضم إليه دمشق عام 468 هـ وسار صاحب
دمشق اتسز بن أوف الخوارزمي بملاحقة العبيديين لحدود مصر. كما ضم السلاجقة حمص وحلب، وبعد هذا دخل ملكشاه بغداد مع وزيره «نظام الملك» وذلك عام 480 هـ. حينها تزوج الخليفة بابنة ملكشاه. ثم ضم السلاجقة إلى أملاكهم بخارى وسمرقند وبلاد ما وراء النهر كلها عام 482هـ. ثم زار بغداد للمرة الثانية عام 484 هـ.

كما عمل السلاجقة على استرداد مواقعهم من الروم فحرروا منبج في شمالي
سورية عام 468هـ. كما استرد سليمان بن قطلمش من الروم انطاكية السورية أيضا عام 477 هـ. ثم عاد ملكشاه إلى بغداد ولكنه كان يضمر شراً للخليفة المقتدي بالله. وفعلاً فقد طلب منه أن يخرج من بغداد لأي مكان آخر ولم يعطِ الخليفة المقتدي أي فرصة للانتظار. وما إن انتهت المهلة حتى مات ملكشاه وذلك عام 485 هـ. وكان له عدد من الأولاد أكبرهم بركيارق واستطاعت زوجة ملكشاه «تركان خاتون» بمساعدة الوزير تاج الملك تولية ابنها الصغير محمود في بغداد، وكان بركياق في أصبهان. ووقع الخلاف بين الأخين وهزم جيش محمود وقتل الوزير تاج الملك واتجه بركيارق إلى بغداد ونودي به سلطاناً عام 487 هـ، عقب تسلم الخليفة العباسي المستظهر بالله زمام الحكم.

كان تتش تاج الدولة عم بركيارق صاحب دمشق قد طمع بالسلطنة فسار بالجيش نحو
بغداد. ووجد آق سنقر نفسه مضطراً للمسير مع تتش لأنه أقوى منه واتجهوا إلى أذربيجان لملاقاة بركيارق فضعف جيش تتش وانسحب إلى بلاد الشام.

أمر بركيارق قائده الجديد آق سنقر بالتوجه إلى
حلب للتضييق على تتش وأمده بقوة كبيرة والتقيا على مقربة من حلب وهُزم آق سنقر وقتل. وسار تتش بعد ذلك لقتال ابن أخيه بركيارق في الري، غير أنه هُزم وقتل مع ابنه دقاق.

كان مؤيد الملك ابن نظام الملك وزيراً لبركيارق، غير أنه لم يلبث أن عزله وعين مكانه أخاه عز الملك الشاعر الطغرائي، فأصبح مؤيد الملك عدواً لبركيارق واستطاع أن يؤثر على الخليفة ويعطي السلطنة إلى محمد الأخ الأصغر لبركيارق، فنشبت الحرب بين الأخين وامتدت خمس سنوات يتصالحان ثم يختلفان. في عام 498 هـ توفي بركيارق وخلفه ابنه ملكشاه. غير أنه كان صغيراً فلم يتم له الأمر حتى عزل وخلا الجو لمحمد وبقي في السلطنة حتى عام 511 هـ. ومن أهم الأحداث التي وقعت في عهده أنه وقف بوجه أياز الذي حاول استلام السلطنة، كما حارب صدقة بن فريد صاحب
البصرة وواسط الذي انضم إلى ابن أياز، وقد انتصر على السلاجقة. إلا إنه هزم فيما بعد وقتل عام 501 هـ. كما أن السلطان محمد حارب الباطنيين أيضاً. فقد كثروا وازداد عددهم عام 492 هـ مستغلين الخلاف الناشىء بين بركيارق وأخيه محمد. فلما صفا الجو لمحمد، شن عليهم حرباً شعواء واستطاع عام 500هـ أن يدخل قلعة أصبهان.

لعل أهم حدث مر على السلاجقة في هذه المرحلة هو الغزو الصليبي في حملته الأولى الذي بدأ عام 489 هـ مستغلاً الحروب التي نشأت بين بركيارق وأخيه محمد فاستطاعوا دخول بلاد الشام واحتلال مدنه واحدة تلو الأخرى، ثم دخلوا
بيت المقدس بعد أن انتصروا على جيش السلاجقة الذي كان بقيادة كربوقا صاحب الموصل ودقاق صاحب دمشق وجناح الدولة صاحب حمص وذلك عام 492 هـ.

كان الصليبيون أثناء دخولهم المدن الإسلامية يرتكبون أفظع المجازر وأبشعها بحق الشعب كبيره وصغيره نساءه ورجاله إضافة إلى السرقات والنهب. وقد لاقى الاجتياح الصليبي الترحيب من بعض النصارى العرب والأرمن في المدن الإسلامية فكانوا يساندونهم في الحروب وشكلوا لهم عيوناً على المسلمين لمراقبة تحركاتهم. وعندما وصل الخليفة المسترشد بالله إلى الخلافة، كان محمود بن محمد ملكشاه قد ورث أباه في السلطة وكان عمره أربع عشرة سنة، وقد واجه العديد من المشاكل مع أخيه
طغرل وكذلك مع عمه سنجر الذي كان يعد شيخ آل سلجوق في ذلك الوقت. وقد تمكن سنجر من هزيمة ابن أخيه إلا أنه صالحه فيما بعد ثم عادت الخلافات أيضاً بين السلطان محمود والخليفة فنزل السلطان محمود إلى بغداد بالقوة فاضطر الخليفة إلى الخروج منها. إلا أن السلطان محمود استعطفه واسترضاه وأعاده إلى بغداد. وفي عام 525 هـ توفي محمود وخلفه ابنه داوود الذي قام بمحاربة الباطنية ودخل قلعة الموت في فارس وقلعة بانياس في بلاد الشام. وهذا ما جعل الباطنيين يفكرون بالتخلص من الخليفة المسترشد الذي شن عليهم حملات عدة. ثم اختلف مسعود مع ابن أخيه السلطان ونازعه على السلطنة ثم تصالحا، ثم اتفق سنجر مع طغرل بن محمد على مسعود وحاربه في نهاوند وانتصر عليه، ثم اختلف طغرل مع السلطان داوود وقد انتصر داوود الذي عاد واصطدم مع أخيه مسعود فانتصر مسعود وسار إلى بغداد يضمر الشر للخليفة فخرج الخليفة بجيشه لمواجهته ففر كثير من عسكر الخليفة المسترشد فأُسر الخليفة وسجن في همدان. وقد حزن أهل بغداد على الخليفة كثيراً وقاموا بالعديد من الأعمال التي أخافت سنجر عم مسعود فأمره بأن يعيد الخليفة إلى مكانه وعرشه ويقبل الأرض بين يديه ويسعى لخدمته، فاستجاب مسعود لدعوة عمه سنجر فأرسل الخليفة مع عدد من جنده كي يعيدوه إلى بغداد. إلا أن عدداً من أصحاب الباطنية كانوا قد أندسوا بين أفراد هذه الفرقة سراً واستطاعوا أن يتسللوا ليلاً إلى خيمة الخليفة وأصحابه ويقتلوهم. فلما شعر بهم العسكر ألقوا القبض عليهم، ثم قتلوهم. وكان ذلك عام 529 هـ.  

بقيت العلاقة على توترها بين الخليفة الراشد بن المسترشد عام 530 هـ وبين السلطان مسعود بعد مقتل والده. وكان من نتيجة هذا التوتر أن أهان الخليفة رسول السلطان مسعود، مما دعاه إلى المسير إلى بغداد فاضطر الخليفة الراشد على الخروج من بغداد. فقام مسعود بخلع الخليفة وبايع عمه المقتفي، وذلك بعد عام واحد فقط على خلافة الراشد.

وفي عام 538 هـ حاول السلطان مسعود أخذ الموصل من زنكي لكنه أخفق في ذلك وتصالحا. وفي عام 547 هـ مات مسعود وقام بعده ابن أخيه ملكشاه بن محمود. لذلك جرت معارك بين سنجر والغوريين بقيادة علاء الدين الحسين بن الحسين وانتصر سنجر وأسر علاء الدين. لكنه هُزم وأسر وبقي في الأسر من عام 548 هـ حتى عام 551 هـ حيث أطلق سراحه.

انصرف ملكشاه إلى اللهو فقام أخوه محمد بن محمود بدلاً منه لكنه توفي عام 554 هـ فاستلم السلطنة ابن عمه أرسلان بن أرطغول ثم تولى بعده ابنه طغرل الثاني، غير أنه كان ضعيفاً، وأصبحت منطقة نفوذه ضيقة. في المقابل كانت رقعة الدولة الخوارزمية تتسع، واستطاع علاء الدين تكش أخيراً أن يستولي على البلاد التي كان يسيطر عليها السلاجقة وأن يقتل طغرل الثاني عام 590 هـ وينهي دولة السلاجقة.

ورد في "تاريخ ابن خلدون" المجلد الثالث:

" ابتداء دولة السلجوقية:

قد تقدم لنا أن أمم الترك في الربع الشرقي الشمالي من المعمور: ما بين الصين إلى تركستان إلى خوارزم والشاش وفرغانة، وما وراء النهر بخارى وسمرقند وترمذ، وأن المسلمين أزاحوهم أول الملة عن بلاد ما وراء النهر وغلبوهم عليها، وبقيت تركستان وكاشغر والشاش وفرغانة بأيديهم يؤدون عليها الجزاء. ثم أسلموا عليها فكان لهم بتركستان ملك ودولة نذكرها فيما بعد فإن استفحالها كان في دولة بني سامان جيرانهم فيما وراء النهر. وكان في المفازة بين تركستان وبلاد الصين أمم من الترك لا يحصيهم إلاخالقهم لاتساع هذه المفازة وبعد أقطارها فإنها فيما يقال مسيرة شهر من كل جهة فكان هنالك أحياء بادون منتجعون رجالة غذاؤهم اللحوم والألبان والذرة في بعض الأحيان، ومراكبهم الخيل، ومنها كسبهم وعليها قيامهم وعلى الشاء والبقر من بين الأنعام فلم يزالوا بتلك القفار مذودين عن العمران بالحامية، والمالكين له في كل جهة.وكان من أممهم الغز والخطا والتتر، وقد تقدّم ذكر هؤلاء الشعوب. فلما انتهت دولة ملوك تركستان، وكان شغر إلى غايتها، وأخذت في الاضمحلال والتلاشي كما هو شأن الدول وطبيعتها تقدم هؤلاء إلى بلاد تركستان فأجلبوا عليها بما كان غالب معاشهم في تخطف الناس من السبل، وتناول الرزق بالرماح شأن أهل القفر البادين، وأقاموا بمفازة بخارى.ثم انقرضت دولة بني سامان، ودولة أهل تركستان. واستولى محمود بن سبكتكين من قواد بني سامان وصنائعهم على ذلك كله. وعبر بعض الأيام إلى بخارى فحضر عنده أرسلان بن سلجوق فقبض عليه، وبعث به إلى بلاد الهند فحبسه، وسار إلى أحيائه فاستباحها، ولحق بخراسان، وسارت العساكر في اتباعهم فلحقوا بأصبهان، وهم صاحبها علاء الدولة ابن كالويه بالغدر بهم، وشعروا بذلك فقاتلوه بأصبهان فغلبهم فانصرفوا إلى أذربيجان فقاتلهم صاحبها وهشودان من بني المرزبان. وكانوا لمّا قصدوا أصبهان بقي فلهم بنواحي خوارزم فعاثوا في البلاد، وخرج إليهم صاحب طوس وقاتلهم. وجاء محمود بن سبكتكين فسار في اتباعهم من رستاق إلى جرجان، ورجع عنهم ثم استأمنوا فاستخدمهم وتقدمهم يغمر، وأنزل ابنه بالري.ثم مات محمود، وولي أخوه مسعود، وشغل بحروب الهند فانتقضوا، وبعث إليهم قائداً في العساكر، وكانوا يسمون العراقية وأمراؤهم يومئذ كوكاش ومرقاوكول ويغمر وباصعكي، ووصلوا إلى الدامغان فاستباحوها، ثم سمنان، ثم عاثوا في أعمال الري، واجتمع صاحب طبرستان وصاحب الري مع قائد مسعود، وقاتلوهم فهزمهم الغز وفتكوا فيهم وقصدوا الري فملكوه، وهرب صاحبه إلى بعض قلاعه فتحصن بها، وذلك سنة ست وعشرين وأربعمائة.واستألفهم علاء الدولة بن كالويه ليدافع بهم ابن سبكتكين فأجابوه أولاً، ثم انتقضوا. وأمَّا الذين قصدوا أذربيجان منهم، ومقدموهم بوقا وكوكباش ومنصور ودانا فاستألفهم وهشودان ليستظهر بهم فلم يحصل على بغيته من ذلك. وساروا إلى مراغة سنة تسع وعشرين فاستباحوها، ونالوا من الأكراد الهديانية فحاربوهم وغلبوهم وافترقوا فرقتين، فرجع بوقا إلى أصحابهم الذين بالري، وسار منصور وكوكباش إلى همذان، وبها أبو كاليجار بن علاء الدولة بن كالويه فظاهرهم على حصاره مّتى خسرو بن مجد الدولة. فلما جهد الحصار لحق بأصبهان وترك البلد فدخلوها واستباحوها، وفعلوا في الكرخ مثل ذلك، وحاصروا قزوين حتى أطاعوهم وبذلوا لهم سبعة آلاف دينار. وسار طائفة منهم إلى بلد الأرمن فاستباحوها وأثخنوا فيها ورجعوا إلى أرمينية.ثم رجعوا من الري إلى حصار همذان، فتركها أبو كاليجار وملكوها سنة ثلاثين، ومعهم متى خسرو المذكور فاستباحوا تلك النواحي إلى استراباذ، وقاتلهم أبو الفتح بن أبي الشوك صاحب الدينور فهزمهم وأسر منهم وصالحوه على إطلاق أسراهم. ثم مكروا بأبي كاليجار أن يكون معهم ويدبر أمرهم، وغدروا به ونهبوه. وخرج علاء الدولة من أصبهان فلقي طائفة منهم فأوقع بهم وأثخن فيهم، وأوقع وهشودان بمن كان منهم في أذربيجان وظفر بهم الأكراد وأثخنوا فيهم وفرقوا جماعتهم.ثم توفي كول أمير الفرق التي بالري، وكانوا لمّا أجازوا من وراء النهر إلى خراسان بقي بمواطنهم الأولى هنالك طغرلبك بن ميكاييل بن سلجوق وإخوته داود وسعدان وينال ، همغري فخرجوا إلى خراسان من بعدهم، وكانوا أشد منهم شوكة وأقوى عليهم سلطاناً فسار ينال أخو طغرلبك إلى الري فهربوا إلى أذربيجان، ثم إلى جزيرة ابن عمر وديار بكر. ومكر سليمان بن نصير الدولة بن مروان صاحب الجزيرة بمنصور بن عز علي منهم فحبسه وافترق أصحابه، وبعث قرواش صاحب الموصل إليهم جيشه فطردهم وافترقت جموعهم، ولحق الغز بديار بكر وأثخنوا فيها، وأطلق نصير الدولة أميرهم منصوراً من يد ابنه فلم ينتفع منهم بذلك. وقاتلهم صاحب الموصل فحاصروه، ثم ركب فى السفين ونجا إلى السند وملكوا البلد وعاثوا فيها. وبعث قرواش إلى الملك جلال الدولة يستنجده، وإلى دبيس بن مزيد وأمراء العرب. وفرض الغز على أهل الموصل عشرين ألف دينار فثار الناس بهم، وكان كوكباش قد فارق الموصل فرجع ودخلها عنوة في رجب سنة خمس وثلاثين، وأفحش في القتل والنهب. وكانوا يخطبون للخليفة ولطغرلبك بعده فكتب الملك جلال الدولة إلى طغرلبك يشكو له بأحوالهم فكتب إليه أن هؤلاء الغز كانوا في خدمتنا وطاعتنا، حتى حدث بيننا وبين محمود بن سبكتكين ما علمتم، ونهضنا إليه، وساروا في خدمتنا في نواحي خراسان فتجاوزوا حدود الطاعة وملكة الهيبة، ولا بد من إنزال العقوبة بهم، وبعث إلى نصير الدولة بعده يكفهم عنه. وسار دبيس بن مزيد وبنو عقيل إلى قرواش صاحب الموصل، وقعد جلال الدولة عن إنجاده لمّا نزل به من الأتراك، وسمع الغز بجموع قرواش فبعثوا إلى من كان بديار بكر منهم، واجتمعوا إليهم، واقتتل الفريقان فانهزم العرب أول النهار، ثم أتيحت لهم الكرة على الغز فهزموهم واستباحوهم وأثخنوا فيهم قتلاً وأسراً، واتبعهم، قرواش إلى نصيبين، ورجع عنهم فساروا إلى ديار بكر وبلاد الأرمن والروم، وكثر عيثهم فيها. وكان طغرلبك وإخوته لمّا جاؤا إلى خراسان طالت الحروب بينهم وبين عساكر بني سبكتكين حتى غلبوهم وحصل لهم الظفر، وهزموا سياوشي حاجب مسعود آخر هزائمهم، وملكوا هراة فهرب عنها سياوشي الحاجب، ولحق بغزنة وزحف إليهم مسعود، ودخلوا البرية. ولم يزل في اتباعهم ثلاث سنين. ثم انتهزوا فيه الفرصة باختلاف عسكره يوماً على الماء فانهزموا وغنموا عسكره، وسار طغرلبك إلى نيسابور سنة إحدى وثلاثين فملكها وسكن السادياج، وخطب له بالسلطان الأعظم العمال في النواحي. وكان الدعّار قد اشتد ضررهم بنيسابور فسد أمرهم وحسم عللهم، واستولى السلجوقية على جميع البلاد. وسار بيقو إلى هراة فملكها، وسار داود إلى بلخ وبها القوتباق حاجب مسعود فحاصره وعجز مسعود عن إمداده فسلم البلد لداود، واستقل السلجوقية بملك البلاد أجمع. ثم ملك طغرلبك طبرستان وجرجان من يد أنو شروان بن متوجهر قابوس، وضمنها أنو شروان بثلاثين ألف دينار، وولّى على جرجان مرداويج من أصحابه بخمسين ألف دينار، وبعث القائم القاضي أبو الحسن الماوردي إلى طغرلبك فقرر الصلح بينه وبين جلال الدولة القائم بدولته ورجع بطاعته.

فتنة قرواش مع جلال الدولة:

كان قرواش قد أنفذ عسكره سنة إحدى وثلاثين لحصار خميس بن ثعلب بتكريت،واستغاث بجلال الدولة، وأمر قرواشاً بالكف عنه فلم يفعل وسار لحصاره بنفسه. وبعث إلى الأتراك ببغداد يستفسدهم على جلال الدولة فأطلع على ذلك فبعث أبا الحرث أرسلان البساسيري في صفر سنة إثنتين وثلاثين للقبض على نائب قرواش بالسندسية، واعترضه العرب فمنعوه ورجع وأقاموا بين صرصر وبغداد يفسدون السابلة، وجمع جلال الدولة العساكر، وخرج إلى الأنبار وبها قرواش فحاصرها. ثم اختلفت عقيل على قرواش فرجع إلى مصالحة جلال الدولة.

وفاة جلال الدولة وملك أبي كاليجار:

لمّا قلت الجبايات ببغداد مدّ جلال الدولة يده إلى الجوالي فأخذها، وكانت خاصة بالخليفة ثم توفي جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة في شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة لسبع عشرة من ملكه. ولما مات خاف حاشيته من الأتراك والعامة فانتقل الوزير كمال الملك بن عَبْد الرحيم وأصحابه الأكابر إلى حرم دار الخلافة، واجتمع القواد للمدافعة عنهم وكاتبوا الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة في واسط بالطاعة، واستقدموه وطلبوا حق البيعة فراوضهم فيها فكاتبهم أبو كاليجار عنها فعدلوا إليه. وجاء العزيز من واسط وانتهى إلى النعمانية فغدر به عسكره، ورجعوا إلى واسط وخطبوا لأبي كاليجار. وسار العزيز إلى دبيس بن مزيد، ثم إلى قرواش بن المقلّد، ثم فارقه إلى أبي الشوك فغدر به فسار إلى ينال أخي طغرلبك فأقام عنده مذة، ثم قصد بغداد مختفيأ فظهر على بعض أصحابه فقتله، ولحق هو بنصير الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين سنة إحدى وأربعين.وأمَّا أبو كاليجار فخطب له ببغداد في صفر سنة ست وثلاثين. وبعث إلى الخليفة بعشرة آلاف دينار وبأموال أخرى فرقت إلى الجند ولقبه القائم بمحيي الدين، وخطب له أبو الشوك ودبيس بن مزيد ونصير الدولة بن مروان بأعمالهم. وسار إلى بغداد، ومعه وزيره أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس. وهم القائم لاستقباله فاستعفى من ذلك، وخلع على أرباب الجيوش، وهم البساسيري والنساوري والهمام أبو اللقاء. وأخرج عميد الدولة أبا سعيد من بغداد فمضى إلى تكريت، وعاد أبو منصور بن علاء الدولة بن كالويه صاحب أصبهان إلى طاعته، وخطب له على منبره انحرافا عن طغرلبك ثم راجعه بعد الحصار واصطلحا على مال يحمله، وبعث أبو كاليجار إلى السلطان طغرلبك في الصلح، وزوجه ابنته فأجاب وتم بينهما سنة تسع وثلاثين.

وفاة أبي كاليجار وملك ابنه الملك الرحيم:

كان أبو كاليجار والمرزبان بن سلطان الدولة قد سارا سنة أربعين إلى نواحي كرمان، وكان صاحبها بهرام بن لشكرستان من وجوه الديلم قد منع الحمل فتنكر له أبو كاليجار، وبعث إلى أبي كاليجار يحتمي به، وهو بقلعة بردشير فملكها من يده، وقتل بهرام بعض الجند الذين ظهر منهم على الميل لأبي كاليجار فسار إليه ومرض في طريقه، ومات بمدينة جنايا في سنة أربعين لأربع سنين وثلاثة أشهر من ملكه. ولما توفي نهب الأتراك معسكره وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى فخيم الوزير أبي منصور، وأرادوا نهبه فمنعهم الديلم، وساروا إلى شيراز فملكها أبو منصور واستوحش الوزير منه فلحق ببعض للاعه، وامتنع بها، ووصل خبر وفاة أبي كاليجار إلى بغداد، وبها ولده الملك الرحيم أبو نصر خسرو فيروز فبايع له الجند، وبعث إلى الخليفة في الخطبة والتلقب بالملك الرحيم فأجابه إلى ما سأل إلا اللقب بالرحيم للمانع الشرعي من ذلك. واستقر ملكه بالعراق وخوزستان والبصرة، وكان بها أخوه أبو علي، واستولى أخوه أبو منصور كما ذكرنا على شيراز فبعث الملك الرحيم أخاه أبا سعد في العساكر فملكها، وقبض على أخيه أبي منصور، وسار العزيز جلال الدولة من عند قرواش إلى البصرة فدافعه أبو علي بن كاليجار عنها. ثم سار الملك الرحيم إلى خوزستان، وأطاعه من بها من الجند، وكثرت الفتنة ببغداد بين أهل السنة والشيعة.

مسير الملك الرحيم إلى فارس:

ثم سار الملك الرحيم من الأهواز إلى فارس سنة إحدى وأربعين، وخيم بظاهر شيراز، ووقعت فتنة بين أتراك شيراز وبغداد فرحل أتراك بغداد إلى العراق، وتبعهم الملك الرحيم لانحرافه عن أتراك شيراز. وكان أيضا منحرفاً عن الديلم بفارس لميلهم إلى أخيه فلاستون بأصطخر، وانتهى إلى الأهواز فأقام بها واستخلف بأرجان أخويه أبا سعد وأبا طالب فزحف إليهما أخوهما فلاستون، وخرج الملك الرحيم من الأهواز إلى رامهرمز للقائهم فلقيهم وانهزم إلى البصرة، ثم إلى واسط. وسارت عساكر فارس إلى الأهواز فملكوها وخيموا بظاهرها. ثم شغبوا على أبي منصور، وجاء بعضهم إلى الملك الرحيم فبعث إلى بغداد واستقر الجند الذين بها، وسار إلى الأهواز فملكها وأقام ينتظر عسكر بغداد. ثم سار إلى عسكر مكرم فملكها سنة إثنتين وأربعين. ثم تقدم سنة ثلاث وأربعين، ومعه دبيس بن مزيد والبساسيري وغيرهما. وسار هزارشب بن تنكير ومنصور بن الحسين الأسدي فيمن معهما من الديلم والأكراد من أرجان إلى تستر فسبقهم الملك الرحيم إليها وغلبهم عليها. ثم زحف في عسكر هزارسب فوافاه أميره أبو منصور بمدينة شيراز فاضطربوا ورجعوا، ولحق منهم جماعة بالملك الرحيم فبعث عساكر إلى رامهرمز وبها أصحاب أبي منصور فحاصرها وملكها في ربيع سنة ثلاث وأربعين. ثم بعث أخاه أبا سعد في العساكر إلى بلاد فارس لأن أخاه أبا نصر خسرو كان بأصطخر وضجر من تغلب هزارشب بن تنكير صاحب أخيه أبي منصور فكتب إلى أخيه الملك الرحيم بالطاعة فبعث إليه أخاه أبا سعد فأدخله أصطخر وملكه.ثم اجتمع أبو منصور فلاستون وهزارشب ومنصور بن الحسين الأسدي، وساروا للقاء الملك الرحيم بالأهواز واستمدوا السلطان طغرلبك، وأبوا طاعته فبعث إليهم عسكراً، وكان قد ملك أصبهان واستطال وافترق كثير من أصحاب الملك الرحيم عنه، مثل البساسيري ودبيس بن مزيد والعرب والأكراد، وبقي في الديلم الأهوازية وبعض الأتراك من بغداد. ورأى أن يعود من عسكر مكرم إلى الأهواز ليتحصن بها وينتظر عسكر بغداد. ثم بعث أخاه أبا سعد إلى فارس كما ذكرنا ليشعل أبا منصور وهزراشب ومن مرهما عن قصده فلم يعرجوا على ذلك، وساروا إليه بالأهواز، وقاتلهم فانهزم إلى واسط، ونهب الأهواز وفقد في الواقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي عَبْد الرحيم فلم يوقف له على خبر.وسار أبو منصور وأصحابه إلى شيراز لأجل أبي سعد وأصحابه فلقيهم قريباً منها، وهزمهم مرات واستأمن إليه الكثير منهم؛ واعتصم أبو منصور ببعض القلاع وأعيدت الخطبة بالأهواز للملك الرحيم، واستدعاه الجند بها وعظمت الفتنة ببغداد بين أهل السنة والشيعة في غيبة الملك الرحيم واقتتلوا، وبعث القائم نقيب العلويين ونقيب العباسيين لكشف الأمر بينهما فلم يوقف على يقين في ذلك. وزاد الأمر وأحرقت مشاهد العظماء من أهل البيت، وبلغ الخبر إلى دبيس بن مزيد، فاتهم القائم بالمداهنة في ذلك فقطع الخطبة له ثم عوتب فاستعتب وعاد إلى حاله.

مهادنة طغرلبك للقائم:

قد تقدم لنا شأن الغز واستيلائهم على خراسان من يد بني سبكتكين عام إثنتين وثلاثين، ثم استيلاء طغرلبك على أصبهان من يد ابن كالويه سنة إثنتين وأربعين. ثم بعث السلطان طغرلبك أرسلان ابن أخيه داود إلى بلاد فارس فافتتحها سنة إثنتين وأربعين، واستلحم من كان بها من الديلم، ونزل مدينة نسا، وبعث إليه القائم بأمر الله بالخلع والألقاب، وولاه على ما غلب عليه فبعث إليه طغرلبك بعشرة آلاف دينار، وأعلاق نفيسة من الجواهر والثياب والطيب، وإلى الحاشية بخمسة آلاف دينار، وللوزير رئيس الرؤساء بألفين، وحضروا العيد في سنة ثلاث وأربعين ببغداد فأمر الخليفة بالاحتفال في الزينة والمراكب والسلاح. ثم سار الغز سنة أربع وأربعين إلى شيراز وبها الأمير أبو سعد أخو الملك الرحيم فقاتلهم وهزمهم كما نذكر في أخبارهم.

استيلاء الملك الرحيم على البصرة من يد أخيه:

ثم بعث الملك الرحيم سنة أربع وأربعين جيوشه إلى البصرة مع بصيرة البساسيري فحاصروا بها أخاه أبا علي وقاتلوا عسكره في السفن فهزموهم وملكوا عليهم دجلة والأنهر. وجاء الملك الرحيم بالعسكر في البر واستأمن إليه قبائل ربيعة ومضر فأمّنهم وملك البصرة، وجاءته رسل الديلم بخوزستان بطاعتهم. ومضى أخوه أبو علي إلى شطّ عمان وتحصّن به فسار إليه الملك الرحيم، وملك عليه شط عمان ولحق بعبادان،  وسار منها إلى أرّجان. ثم لحق بالسلطان طغرلبك بأصبهان فأكرمه وأصهر إليه، وأقطع له وأنزله بقلعة من أعمال جرباذقان. وولّى الملك الرحيم وزيره البساسيري على البصرة، وسار إلى الأهواز، وأرسل منصور بن الحسين وهزارشب في تسليم أرجان وتستر فتسلمها واصطلحا. وكان المقدم على أرجان فولاد  بن خسرو من الديلم فرجع إلى طاعة الملك الرحيم سنة خمس وأربعين.

فتنة ابن أبي الشوك ثم طاعته:

كان سعدي بن أبي شوك قد أعطى طاعته للسلطان طغرلبك بنواحي الري، وسار في خدمته، وبعثه سنة أربع وأربعين في العساكر إلى نواحى العراق فبلغ النعمانية وكثر عيثه، وراسله ملد من بنى عقيل قرابة قُرَيْش بن بدران في الاستظهار له على قُرَيْش ومهلهل أخي أبي الشوك فوعدهم، فسار إليهم مهلهل وأوقع بهم على عكبرا فساروا إلى سعدي وشكوا إليه، وهو على سامرا فسار وأوقع بعمه مهلهل وأسره وعاد إلى حلوان، وهمّ الملك الرحيم بتجهيز العساكر إليه بحلوان، واستقدم دبيس بن مزيد لذلك.ثم عظمت الفتنة سنة خمس وأربعين ببغداد من أهل الكرخ وأهل السنة، ودخلها طوائف من الأتراك، وعمّ الشر واطرحت مراقبة السلطان، وركب القواد لحسم العلّة فقتلوا علوياً من أهل الكرخ فنادت نساؤه بالويل فقاتلهم العامة، وأضرم النار في الكرخ بعض  الأتراك فاحترق جميعه. ثم بعث القائم وسكن الأمر، وكان مهلهل لمّا أسِرَ سار ابنه بدر إلى طغرلبك وابن سعدي كان عنده رهينة، وبعث إلى سعدي بإطلاق مهلهل عند ذلك فامتنع سعدي من ذلك وانتقض على طغرلبك، وسار من همذان إلى حلوان وقاتلها فامتنعت عليه فكاتب الملك الرحيم بالطاعة، ولحقه عساكر طغرلبك فهزموه، ولحق ببعض القلاع هنالك. وسار بدر في اتباعه إلى شهرزور، ثم جاءه الخبر بأن جمعاً من الأكراد والأتراك قد أفسدوا السابلة وأكثروا العيث فخرج إليهم البساسيري واتبعهم إلى البواريج، وأوقع بالطوائف منهم واستباحهم وعبروا الزاب فلم يمكنه العود إليهم ونجوا.

فتنة الأتراك:

وفي سنة ست وأربعين شغب الأتراك على وزير الملك الرحيم في مطالبة أرزاقهم واستعدوه عليه فلم يعدهم فشكوا من الديوان وانصرفوا مغضبين، وباكروا من الغد لحصار دار الخليفة. وحضر البساسيري واستكشف حال الوزير فلم يقف له على خبر. وكبست الدور في طلبه فكان ذلك وسيلة للأتراك في نهب دور الناس. واجتمع أهل المحال لمنعهم، ونهاهم الخليفة فلم ينتهوا فهمّ بالرحلة عن بغداد. ثم ظهر الوزير وأنصفهم في أرزاقهم فتمادوا على بغيهم وعسفهم، واشتدّ عيث الأتراك والأعراب في النواحي فخربت البلاد، وتفرّق أهلها، وأغار أصحاب ابن بدران بالبرد وكبسوا حلل كامل بن محمد بن المسيّب ونهبوها، ونهبوا في جملتها ظهراً وأنعاماً للبساسيري، وانحل أمر الملك والسلطنة بالكلية.

استيلاء طغرلبك على أذربيجان وعلى أرمينية والموصل:

سار طغرلبك سنة أربعين إلى أذربيجان فأطاعه صاحب قبرير أبو منصور وشهودان ابن محمد وخطب له ورهن ولده عنده. ثم أطاعه صاحب جنده أبو الأسوار ثم تبايع سائر النواحي على الطاعة، وأخذ رهنهم، وسار إلى أرمينية فحاصر ملاذكرد وامتنعت عليه فخرّب ما جاورها من البلاد. وبعث إليه نصير الدولة بن مروان بالهدايا وقد كان دخل في طاعته من قبل. وسار السلطان طغرلبك لغزو بلاد الروم واكتسحها إلى أن بلغ أردن الروم، ورجع إلى أذربيجان ثم إلى الري وخطب له قُرَيْش بن بدران صاحب الموصل في جميع أعماله وزحف إلى الأنبار ففتحها ونهب ما فيها البساسيري فانتقض لذلك وسار في العساكر إلى الأنبار فاستعاده من يده.

وحشة البساسيري:

كان أبو الغنائم وأبو سعد إبنا المجلبان صاحبي قُرَيْش بن بدران، وبعثهما إلى القائم سرّاً من البساسيري بما فعل بالأنبار فانتقض البساسيري لذلك، واستوحش من القائم ومن رئيس الرؤساء، وأسقط مشاهرتهم ومشاهرة حواشيهم وهمّ بهدم منازل بني المجلبان. ثم أقصر وسار إلى الأنبار، وبها أبو القاسم بن المجلبان، وجاءه دبيس بن مزيد ممداً له فحاصر الأنبار وفتحها عنوة ونهبها وأسر من أهلها خمسمائة، ومائة من بني خفاجة وأسر أبا الغنائم وجاء به إلى بغدا فأدخله على جمل، وشفع دبيس بن مزيد في قتله، وجاء إلى مقابل التاج من دار الخليفة فقبل الأرض وعاد إلى منزله.

وصول الغز إلى الدسكرة ونواحي بغداد:

وفي شوال من سنة ست وأربعين وصل صاحب حلوان من الغز وهو إبراهيم بن إسحاق إلى الدسكرة فافتتحها ونهبها وصادر النساء. ثم سار إلى رسغباد وقلعة البردان وهي لسعدي بن أبي الشوك، وبها أمواله فامتنعت عليه فخرب ما حولها من القرى ونهبها، وقوي طمع الغز في البلاد وضعف أمر الديلم والأتراك. ثم بعث طغرلبك أبا علي ابن أبي كاليجار الذي كان بالبصرة في جيش من الغز إلى خوزستان فاستولى على الأهواز وملكها ونهب الغز الذين معه أموال الناس ولقوا منهم عناء.

استيلاء الملك الرحيم على شيراز:

وفي سنة سبع وأربعين سار فولاذ- الذي كان بقلعة أصطخر من الديلم، وقد ذكرناه- إلى شيراز فملكها من يد أبي منصور فولاستون بن أبي كاليجار، وكان خطب بها للسلطان طغرلبك فخطب فولاذ بها للملك الرحيم ولأخيه أبي سعد يخادعهما بذلك. وكان أبو سعد بأزجان فاجتمع هو وأخوه أبو منصور على حصار شيراز في طاعة أخيهما الملك، واشتد الحصار على فولاذ وعدمت الأقوات فهرب عنها إلى قلعة أصطخر وملك الأخوان شيراز وخطبا لأخيهما الملك الرحيم.

وثوب الأتراك ببغداد بالبساسيري:

قد ذكرنا تأكد الوحشة بين البساسيري ورئيس الرؤساء. ثم تأكدت سنة سبع وأربعين، وعظمت الفتنة بالجانب الشرقي بين العامة وبين أهل السنة للأمر بالمعروف والنهي  المنكر، وحضروا الديوان حتى أذن لهم في ذلك، وتعرضوا لبعض سفن البساسيري منحدرة إليه بواسط، وكشفوا فيها عن جرار خمر، فجاؤا إلى أصحاب الديوان الذين أمروا بمساعدتهم واستدعوهم لكسرها فكسروها، واستوحش لذلك البساسيري ونسبه إلى رئيس الرؤساء. واستفتى الفقهاء في أن ذلك تعد على سفينته فأفتاه الحنفية بذلك. ووضع رئيس الرؤساء العيون على البساسيري بإذن من دار الخلافة، وأظهر معايبه. وبالغوا في ذلك؛ ثم قصدوا في رمضان دور البساسيري بإذن من دار الخلافة فنهبوها وأحرقوها، ووكلوا بحرمه وحاشيته. وأعلن رئيس الرؤساء بذم البساسيري وأنه يكاتب المستنصر صاحب مصر فبعث القائم إلى الملك الرحيم فأمره بإبعاده فأبعده. 

استيلاء السلطان طغرلبك على بغداد والخلعة والخطبة له:

قد ذكرنا من قبل رجوع السلطان طغرلبك من غزو الروم إلى الري، ثم رجع إلى همذان، ثم سار إلى حلوان عازماً على الحج، والاجتياز بالشام لإزالته من يد العلوية. وأجفل الناس إلى غربي بغداد، وعظم الأرجاف ببغداد ونواحيها، وخيم الأتراك بظاهر البلد. وجاء الملك الرحيم من واسط بعد أن طرد البساسيري عنه كما أمره القائم فسار إلى بلد دبيس بن مزيد لصهر بينهما. وبعث طغرلبك إلى لقائهما بالطاعة، وإلى الأتراك بالمقاربة والوعد فلم يقبلوا، وطلبوا من القائم إعادة البساسيري لأنه كبيرهم. ولما وصل الملك الرحيم سأل من الخليفة إصلاح أمره مع السلطان طغرلبك فأشار القائم بأن يقوّض الأجناد خيامهم ويخيموا بالحريم الخلافي، ويبعثوا جميعاً إلى طغرلبك بالطاعة فقبلوا إشارته وبعثوا إلى طغرلبك بذلك فأجاب بالقبول والإحسان.وأمر القائم بالخطبة لطغرلبك على منابر بغداد فخطب آخر رمضان من سنة سبع وأربعين، واستأذن في لقاء الخليفة، وخرج إليه رؤساء الناس في موكب من القضاة والفقهاء والأشراف وأعيان الديلم. وبعث طغرلبك للقائم وزيره أبا نصر الكندري وأبلغه رسالة القائم واستحلفه له وللملك الرحيم وأمراء الأجناد. ودخل طغرلبك بغداد ونزل بباب الشّمّاسّية لخمس بقين من رمضان، وجاء هنالك قُرَيْش بن بدران صاحب الموصل، وكان من قبل في طاعته.

القبض على الملك الرحيم وانقراض دولة بني بويه:

ولما نزل طغرلبك بغداد وافترق أهل عسكره في البلد يقضون بعض حاجاتهم فوقعت بينهم وبين بعض العامة منازعة فصاحوا بهم ورجموهم، وظن الناس أن الملك الرحيم قد اعتزم على قتال طغرلبك فتواثبوا بالغز من كل جهة إلا أهل الكرخ فإنهم سألوا من وقع إليهم من الغز وأرسل عميد الملك وزير طغرلبك عن عدنان بن الرضي نقيب العلويين، وكان مسكنه بالكرخ فشكره عن السلطان طغرلبك. ودخل أعيان الديلم وأصحاب الملك الرحيم إلى دار الخلافة نفياً للتهمة عنهم. وركب أصحاب طغرلبك فقاتلوا العامة وهزموهم وقتلوا منهم خلقاً ونهبوا سائر الدروب ودور رئيس الرؤساء وأصحابه والرصافة، ودور الخلفاء، وكان بها أموال الناس نقلت إليها للحرمة فنهب الجميع، واشتد البلاء وعظم الخوف. وأرسل طغرلبك إلى القائم بالعتاب ونسبة ما وقع إلى الملك الرحيم والديلم، وأنهم انحرفوا، وكانوا برآء من ذلك.وتقدم إليهم الخليفة بالحضور عند طغرلبك مع رسوله فلما وصلوا إلى الخيام نهبها الغز ونهبوا رسل القائم معهم. ثم قبض طغرلبك على الملك الرحيم ومن معه، وبعث بالملك الرحيم إلى قلعة السيروان فحبس بها وكان ذلك لست سنين من ملكه. ونهب في تلك الهيعة قُرَيْش بن بدران صاحب الموصل ومن معه من العرب، ونجا سليباً إلى خيمة بدر بن المهلهل، واتصل بطغولبك خبره فأرسل إليه وخلع عليه وأعاده إلى مخيمه، وبعث القائم إلى طغرلبك بإنكار ما وقع في أخفار ذمته في الملك الرحيم وأصحابه، وأنه يتحوّل عن بغداد فأطلق له بعضهم بلكسكسالربه وأنزع الاقطاعات من يد أصحابه الملك الرحيم فلحقوا بالبساسيري، وكثر جمعه، وبعث طغرلبك إلى دبيس بالطاعة وإنفاذ البساسيري، فخطب له في بلاده، وطرد البساسيري فسار إلى رحبة ملك، وكاتب المستنصر العلوي صاحب مصر وأمر طغرلبك بأخذ أموال الأتراك الجند وأهملهم، وانتشر الغز السلجوقية في سواد بغداد فنهبوا الجانب الغربي من تكريت إلى النيل، والجانب الشرقي إلى النهر وأنات، وخرب السواد وانجلى أهله، وضمن السلطان طغرلبك البصرة والأهواز من هزارشب بن شكر بن عياض بثلثمائة وستين ألف دينار، وأقطعه أزجان، وأمره أن يخطب لنفسه بالاهواز دون ما سواها. وأقطع أبا علي بن أبي كاليجارويسين وأعمالها، وأمر أهل الكرخ بزيادة: الصلاة خير من النوم، في نداء الصبح، وأمر بعمارة دار المملكة وانتقل إليها في شوال. وتوفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن القائم بالله في ذي القعدة من هذه السنة. ثم أنكح السلطان طغرلبك من القائم بالله خديجة بنت أخيه داود وإسمها أرسلان خاتون، وحضر للعقد عميد الملك الكندي وزير طغرلبك، وأبو علي بن أبي كاليجار، وهزارشب بن شكر بن عياض الكردي، وابن أبي الشوك وغيرهم من أمراء الأتراك من عسكر طغرلبك. وخطب رئيس الرؤساء وولي العقد وقبل الخليفة بنفسه. وحضر نقيب النقباء أبو علي بن أبي تمام، ونقيب العلويين عدنان بن الرضي والقاضي أبو الحسن الماوردي وغيرهم.

انتقاض أبي الغنائم بواسط:

كان رئيس الرؤساء سعى لأبي الغنائم بن المجلبان في ولاية واسط وأعمالها، فوليها وصادر أعيانها وجند جماعة وتقوى بأهل البطيحة، وخندق على واسط، وخطب للمستنصر العلوي بمصر فسار أبو نصر عميد العراق لحربه فهزمه وأسر من أصحابه، ووصل إلى السور فحاصره حتى تسلم البلد. ومر أبو الغنائم ومعه الوزير بن فسانجس، ورجع عميد العراق إلى بغداد بعد أن ولّى على واسط منصور بن الحسين فعاد ابن فسانجس إلى واسط وأعاد خطبة العلوي، وقتل من وجده من الغز، ومضى منصور بن الحسين إلى المدار وبعث يطلب المدد فكتب إليه عميد العراق ورئيس الرؤساء بحصار واسط فحاصرها، وقاتله ابن فسنجس فهزمه وضيق حصاره، واستأمن إليه جماعة من أهل واسط فملكها وهرب فسانجس واتبعوه فأدركوه، وحمل إلى بغداد في صفر سنة ست وأربعين فشُهر وقُتل.

الوقعة بين البساسيري وقطلمش:

وفي سلخ شوال في سنة ثمان وأربعين سار قطلمش،  وهو ابن عم السلطان طغرلبك، وجد بني قليج أرسلان ملوك بلاد الروم فسار ومعه قُرَيْش بن بدران صاحب الموصل لقتال البساسيري ودبيس، وسار بهم إلى الموصل وخطبوا بها للمستنصر العلوي صاحب مصر وبعث إليهم بالخلع، وكان معهم جابر بن ناشب وأبو الحسن وعبد الرحيم وأبو الفتح بن ورائر ونصر بن عمر ومحمد بن حماد.

مسير طغرلبك إلى الموصل:

لمّا كان السلطان طغرلبك قد ثقلت وطأته على العامة ببغداد، وفشى الضرر والأذى فيهم من معسكره فكاتبه القائم يعظه ويذكره، ويصف له ما الناس فيه فأجابه السلطان بالاعتذار بكثرة العساكر. ثم رأى رؤيا في ليلته كان النبي صلى الله عليه وسلم يوبخه على ذلك فبعث وزيره عميد الملك إلى القائم بطاعة أمره فيما أمر، وأخرج الجند في وراء العامة ورفع المصادرات. ثم بلغه خبر وقعة قطلمش مع البساسيري، وانحراف قُرَيْش صاحب الموصل إلى العلوية، فتجهز وسار عن بغداد ثلاثة عشر شهرأ من نزوله عليها، ونهبت عساكره أُوانا وعًكبرا، وحاصر تكريت حتى رجع صاحبها نصر بن عيسى إلى الدعوة العباسية، وقتله السلطان، ورجع عنه إلى البواريج فتوفي نصر، وخافت أمّه غريبة بنت غريب بن حكن أن يملك البلد أخوه أبو العشام فاستخلفت أبا الغنائم ابن المجلبان ولحقت بالموصل، ونزلت على دبيس بن مزيد.وأرسل أبو الغنائم رئيس الرؤساء فأصلح حاله ورجع إلى بغداد وسلم له تكريت،وأقام السلطان بالبواريج إلى سنة تسع وأربعين، وجاءه أخوه ياقوتي في العساكر فسار إلى الموصل، وأقطع مدينة بلد هزارشب بن شكر الكردي، وأراد العسكر نهبها فمنعهم السلطان. ثم أذن لهم في اللحاق إلى الموصل، وتوجه إلى نصيبين، وبعث هزارشب إلى البرية في ألف فارس ليصيب من العرب فسار حتى قارب رحالهم، وأكمن الكمائن، وقاتلهم ساعة. ثم استطردهم واتبعوه فخرجت عليهم الكمائن فانهزموا، وأثخن فيهم الغز بالقتل والأسر. وكان فيهم جماعة من بني نمير أصحاب حران والرقة، وحمل الأسرى إلى السلطان فقتلهم أجمعين. ثم بعث دبيس وقريش إلى هزارشب يستعطف لهم السلطان فقبل السلطان ذلك منهما، وورد أمر البساسيري إلى الخليفة فرحل ومعه الأتراك البغداديون، وقتل ابن المقلد وجماعة من عقيل إلى الرحبة، وأرسل السلطان إليهما أبا الفتح بن ورام يستخبرهما فجاء بطاعتهما، وبمسير هزارشب إليهما فأذن له السلطان في المسير، وجاء إليهما واستحلفهما وحثهما على الحضور فخافا.وأرسل قُرَيْش أبا السيد هبة الله بن جعفر، ودبيس ابنه منصوراً فأكرمهما السلطان، وكتب لهما بأعمالهما. وكان لقريش نهر الملك وبادرويا والأنبار وهيت ودُجيل ونهر بيطر وعكبرا وأوانا وتكريت والموصل ونصيبين. ثم سار السلطان إلى ديار بكر فحاصر جزيرة ابن عمر وبعث إليه يستعطفه ويبذل له المال، وجاء إبراهيم ينال أخو السلطان وهو محاصر، ولقيه الأمراء والناس، وبعث هزارشب إلى دبيس وقريش يحذرهما فانحدر دبيس إلى بلده بالعراق. وأقام قُرَيْش عند البساسيري بالرحبة ومعه ابنه مسلم، وشكا قطلمش ما أصاب أهل سنجار منه عند هزيمته أمام قُرَيْش ودبيس فبعث العساكر إليها، وحاصرها ففتحها عنوة واستباحها، وقتل أميرها علي بن مرجي، وشفع إبراهيم في الباقين فتركها وسلمها الله وسلم معها الموصل وأعمالها، ورجع إلى بغداد في سنة تسع وأربعين فخرج رئيس الرؤساء للقائه عن القائم، وبلغه سلامه وهديته، وهي جام من ذهب فيه جواهر، وألبسه لباس الخليفة وعمامته فقبل السلطان ذلك بالشكر والخضوع والدعاء، وطلب لقاء الخليفة، فأسعف وجلس له جلوساً فخماً. وجاء السلطان في البحر فقرب له لمّا نزل من السهيرية من مراكب الخليفة، والقائم على سرير علوه سبعة"أذرع متوشحاً البردة، وبيده القضيب، وقبالته كرسي لجلوس السلطان فقبل الأرض وجلس على الكرسي، وقال له رئيس الرؤساء عن القائم: أمير المؤمنين شاكر لسعيك حامد لفعلك مستأنس بقربك، ولاك ما ولاه الله من بلاده، ورد إليك مراعاة عباده فاتق الله فيما ولاك، واعرف نعمته عليك، واجتهد في نشر العدل وكف الظلم وإصلاح الرعية فقبل الأرض، وأفيضت عليه الخلع وخوطب بملك المشرق والمغرب، وقبل يد الخليفة ووضعها على عينيه ودفع إليه كتاب العهد، وخرج فبعث إلى القائم خمسين ألف دينار وخمسين مملوكاً من الأتراك منتقين بخيولهم وسلاحهم، إلى ما في معنى ذلك من الثياب والطيب غيرهما.

فتنة ينال مع أخيه طغرلبك ومقتله:

كان إبراهيم ينال قد ملك بلاد الجبل وهمذان واستولى على الجهات من نواحيها إلى حلوان عام سنة سبع وثلاثين. ثم استوحش من السلطان طغرلبك بما طلب منه أن يسلم إليه مدينة همذان والقلاع فأبى من ذلك ينال وجمع جموعاً وتلاقيا فانهزم ينال، وتحصن بقلعة سرماج فملكها عليه بعد الحصار، واستنزله منها، وذلك سنة إحدى وأربعين. وأحسن إليه طغرلبك وخيره بين المقام معه أو إقطاع الأعمال فاختار المقام. ثم لمّا ملك طغرلبك بغداد وخطب له بها سنة سبع وأربعين خرج إليه البساسيري مع قُرَيْش بن بدران صاحب الموصل ودبيس بن مزيد صاحب الحلة، وسار طغرلبك إليهم من بغداد، ولحقه أخوه إبراهيم ينال فلما ملك الموصل سلمها إليه وجعلها لنظره مع سنجار والرحبة وسائر تلك الأعمال التي لقريش، ورجع إلى بغداد سنة تسع وأربعين.ثم بلغه سنة خمسين بعدها أنه سار إلى بلاد الجبل فاستراب به وبعث إليه يستقدمه بكتابه وكتاب القائم مع العهد الكندي فقدم معه. وفي خلال ذلك قصد البساسيري وقريش بن بدران الموصل فملكاها وجفلوا عنها فاتبعهم إلى نصيبين، وخالفه أخوه إبراهيم ينال إلى همذان في رمضان سنة خمسين. يقال إنّ العلويّ صاحب مصر والبساسيري كاتبوه واستمالوه وأطمعوه في السلطنة فسار السلطان في اتباعه من نصيبين، وردّ وزيره عميد الملك الكندي وزوجته خاتون إلى بغداد، ووصل إلى همذان ولحق به من كان ببغداد من الأتراك فحاصر همذان في قلعة من العسكر، واجتمع لأخيه خلق كثير من الترك، وحلف لهم أن لا يصالح طغرلبك ولا يدخل بهم العراق لكثرة نفقاته. وجاءه محمد وأحمد ابنا أخيه أرباش بأمداد من الغز فقوي بهم ووهن طغرلبك فأفرج عنه إلى الري، وكاتب إلى أرسلان ابن أخيه داود، وقد كان ملك خراسان بعد أبيه سنة إحدى وخمسين كما يذكر في أخبارهم، فزحف إليه في العساكر ومعه إخواه ياقوت وقاروت بك، ولقيهم إبراهيم فيمن معه فانهزم، وجيء به وبابني أخيه محمد وأحمد أسرى إلى طغرلبك فقتلهم جميعاً، ورجع إلى بغداد لاسترجاع القائم.

دخول البساسيري بغداد وخلع القائم ثم عوده:

قد ذكرنا أن طغرلبك سار إلى همذان لقتال أخيه وترك وزيره عميد الملك الكندي ببغداد مع الخليفة، وكان البساسيري وقريش بن بدران فارقا الموصل عند زحف السلطان طغرلبك إليهما فلما سار عن بغداد لقتال أخيه بهمذان خالفه البساسيري وقريش إلى بغداد فكثر الأرجاف بذلك، وبعث على دبيس بن مزيد ليكون حاجبه ببغداد ونزلوا بالجانب الشرقي، وطلب من القائم الخروج معه إلى أحيائه واستدعى هزارشب من واسط للمدافعة واستمهل في ذلك فقال العرب لا نشير فأشيروا بنظركم، وجاء البساسيري ثامن ذي القعدة سنة خمسين في أربعمائة غلام على غاية من سوء الحال ومعه أبو الحسين بن عَبْد الرحيم، وجاء حسين بن بدران في مائة فارس، وخيموا مفترقين عن البلد، واجتمع العسكر والقوم إلى عميد العراق، وأقاموا ازاء البساسيري، وخطب البساسيري ببغداد للمستنصر العلوي صاحب مصر بجامع المنصور، ثم بالرصافة؛ وأمر بالأذان بحي على خير العمل، وخيم بالزاهر، وكان هوى البساسيري لمذاهب الشيعة، وترك أهل السنة للإنحراف عن الأتراك فرأى الكندي المطاولة لانتظار السلطان، ورأى رئيس الرؤساء المناجزة، وكان غير بصير بالحرب فخرج لقتالهم في غفلة من الكندي فانهزم وقتل من أصحابه خلق، ونهب باب الأزج وهو باب الخلافة.

وهرب أهل الحريم الخلافي فاستدعى القائم العميد الكندي للمدافعة عن دار الخلافة فلم يرعهم إلاّ اقتحام العدوّ عليهم من الباب النوبي، فركب الخليفة ولبس السواد، والنهب قد وصل باب الغردوس، والعميد الكندي قد استأمن إلى قُرَيْش فرجع ونادى بقريش من السور فاستأمن إليه على لسان رئيس الرؤساء، واستأمن هو أيضاً معه، وخرجا إليه وسار معه ونكر البساسيري على قُرَيْش نقضه لمّا تعاهدا عليه، فقال: إنما تعاهدنا على الشركة فيما يستولي عليه، وهذا رئيس الرؤساء لك والخليفة لي. ولما حضر رئيس الرؤساء عند البساسيري وبخه وسأله العفو فأبى منه، وحمل قُرَيْش القائم إلى معسكره على هيئته، ووضع خاتون بنت أخي السلطان طغرلبك في يد بعض الثقات في خواصه وأمره بخدمتها، وبعث القائم ابن عمه مهارش فسار به إلى بلده حُدَيْثَةَ خان وأنزله بها. وأقام البساسيري ببغداد وصلى عيد النحر بالألوية المصرية وأحسن إلى الناس وأجرى أرزاق الفقهاء ولم يتعصب لمذهب. وأنزل أم القائم بدارها وسفل جرايتها. وولى محمود بن الأفرم على الكوفة، وسعى الفرات وأخرج رئيس الرؤساء من محبسه آخر ذي الحجة فصلبه عند التجيبي لخمسين سنة من ترددة في الوزارة. وكان ابن ماكولا قد قبل شهادته سنة أربع عشرة. وبعث البساسيري إلى المستنصر العلوي بالفتح والخطبة له بالعراق، وكان هنالك أبو الفرج ابن أخي أبي القائم المغربي فاستهان بفعله وخوفه عاقبته، وأبطأت أجوبته مدّة، ثم جاءت بغير ما أمل، وسار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكها وأراد قصر الأهواز فبعث صاحبها هزارشب بن شكر فأصلح أمره على مال يحمله. ورجع البساسيري إلى واسط في شعبان سنة إحدى وخمسين، وفارقه صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي إلى هزارشب، وقدكان ولى بغداد اباه على ما يذكر. ثم جاء الخبر إلى البساسيري بظفر طغرلبك بأخيه، وبعث إليه والي قُرَيْش في إعادة الخليفة إلى داره، ويقيم طغرلبك، وتكون الخطبة والسكة له فأبى البساسيري من ذلك فسار طغرلبك إلى العراق، وانتهى إلى قصر شيرين، وأجفل الناس بين يديه. ورحل أهل الكرخ بأهليهم وأولادهم براً وبحراً، وكثر عيث بني شيبان في الناس، وارتحل البساسيري بأهله وولده سادس ذي القعدة سنة إحدى وخمسين لحول كامل من دخوله وكثر الهرج في المدينة والنهب والإحراق. ورحل طغرلبك إلى بغداد بعد أن أرسل من طريقه الأستاذ أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابر فورك إلى قُرَيْش بر بدران بالشكر على فعله في القائم وفي خاتون بنت أخيه زوجة القائم، وأن أبا بكر بن فورك جاء بإحضارهما والقيام بخدمتهما، وقد كان قُرَيْش بعث إلى مهارش بأن يدخل معهم إلى البرية بالخليفة ليصد ذلك طغرلبك عن العراق، ويتحكم عليه بما يريد فأبى مهارش لنقض البساسيري عهوده، واعتذر بأنه قد عاهد الخليفة القائم بما لا يمكن نقضه، ورحل بالخليفة إلى العراق، وجعل طريقه على بدران بن مهلهل. وجاء أبو فورك إلى بدر فحمله معه إلى الخليفة وأبلغه رسالة طغرلبك وهداياه، وبعث طغرلبك للقائه وزيره الكندي والأمراء والحجاب بالخيام والسرادقات والمقربات بالمراكب الذهبية فلقوه في بلد بدر. ثم خرج السلطان فلقيه بالنهروان، واعتذر عن تأخره بوفاة أخيه داود بخراسان، وعصيان إبراهيم بهمذان، وأنه قتله على عصيان. وأقام حتى رتب أولاد داود في مملكته، وقال إنه يسير إلى الشام في اتباع البساسيري. وطلب صاحب مصر فقلده القائم سيفه إذ لم يجد سواه، وأبدى وجهه للأمراء فجوه وانصرفوا. وتقدم طغرلبك إلى بغداد فجلس في الباب النوبي مكان الحاجب، وجاء القائم فأخذ طغرلبك بلجام بغلته إلى باب داره، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين، وسار السلطان إلى معسكره وأخذ في تدبير أموره.

مقتل البساسيري:

ثم أرسل السلطان طغرلبك خمارتكين في ألفين إلى الكوفة، واستقّر معه سرايا بن منيع في بني خفاجة، وسار السلطان طغرلبك في أثرهم فلم يشعر دبيس وقريش والبساسيري، وقد كانوا نهبوا الكوفة إلاّ والعساكر قد طلعت عليهم من طريق الكوفة فأجفلوا نحو البطيحة. وسار دبيس ليردّ العرب إلى القتال فلم يرجعوا ومضى معهم،ووقف البساسيري وقريش فقتل من أصحابهما جماعة، وأسر أبو الفتح بن ورام ومنصور بن بدران وحماد بن دبيس، وأصاب البساسيري سهم فسقط عن فرسه وأخذ رأسه لمتنكيرز، وأتى العميد الكندريّ وحمله إلى السلطان، وغنم العسكر جميع أموالهم وأهليهم، وحمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة فعلّق قبالة النوبي في منتصف ذي الحجة. ولحق دبيس بالبطيحة ومعه زعيم الملك أبو الحسن عَبْد الرحيم، وكان هذا البساسيري من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة إسمه أرسلان، وكنيته أبو الحرث ونسبه في الترك. وهذه النسبة المعروفة له نسبة إلى مدينة بفارس حرفها الأوّل متوسط بين الفاء والباء، والنسبة إليها فسوي، ومنها أبو علي الفارسيّ صاحب الإيضاح. وكان أوّلا ينسب إليها فلذلك قيل فيه هو بساسيري.

مسير السلطان إلي واسط وطاعة دبيس:

ثم انحدر السلطان إلى واسط أول سنة اثنتين وخمسين وحضر عنده هزارشب بن شكر من الأهواز، وأصلح حال دبيس بن مزيد وصدقة بن منصور بن الحسين، أحضرهما عند السلطان، وضمن واسط أبو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار، وضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفر، وأصعد السلطان إلى بغداد، واجتمع بالخليفة، ثم سار إلى بلد الجبل في ربيع سنة إثنتين وخمسين. وأنزل ببغداد الأمير برسو شحنة، وضمن أبو الفتح المظفر بن الحسين في ثلاث سنين بأربعمائة ألف دينار، وردّ إلى محمود الأخرم إمارة بني خفاجة وولاّه الكوفة وسقي الفرات وخواصّ السلطان بأربعة آلاف دينار في كل سنة.

وزارة القائم:

ولما عاد القائم إلى بغداد ولّى أبا تراب الأشيري على الأنهار وحضور المراكب، ولّقبه حاجب الحجّاب، وكان خدمه بالحُدَيْثَة. ثم سعى الشيخ أبو منصور في وزارة أبي الفتح بن أحمد بن دارست على أن يحمل مالاً فأجيب وأحضر من الأهواز في منتصف ربيع من سنة ثلاث وخمسين فاستوزره وكان من قبل تاجراً لأبي كاليجار، ثم ظهر عجزه في استيفاء الأموال فعزله، وعاد إلى الأهواز. وقدم أثر ذلك أبو نصر بن جهير وزير نصير الدولة بن مروان نازعاً منه إلى الخليفة القائم فقبله واستوزره، ولقبه فخر الدولة.

عقد طغرلبك على ابنة الخليفة:

كان السلطان طغرلبك قد خطب من القائم إبنته على يد أبي سعد قاضي الريّ سنة ثلاث وخمسين فاستنكف من ذلك. ثم بعث أبا محمد التميمي في الاستعفاء من ذلك وإلاّ فيشترط. ثلثمائة ألف دينار وواسط وأعمالها. فلما ذكر التميمي ذلك للوزير عميد الملك بني الأمر على الإجابة قال: ولا يحسن الاستعفاء، ولا يليق بالخليفة طلب المال، وأخبر السلطان بذلك فسر به وأشاعه في الناس، ولقّب وزيره عميد الملك وأتى أرسلان خاتون زوجة القائم، ومعه مائة ألف ألف دينار وما يناسبها من الجواهر والجوار، وبعث معهم قرامرد بن كاكويه وغيره من أمراء الري فلما وصلوا إلى القائم استشاط وهمّ بالخروج من بغداد. وقال له العميد: ما جمع لك في الأول بين الامتناع والاقتراح وخرج مغضباً إلى النهروان فاستوقفه قاضي القضاة والشيخ أبو منصور بن يوسف. وكتب من الديوان إلى خمارتكين من أصحاب السلطان بالشكوى من عميد الملك، وجاءه الجواب بالرفق ولم يزل عميد الملك يريض الخليفة وهو يتمنع إلى أن رحل في جمادى من سنة أربع وخمسين. ورجع إلى السلطان وعرفه بالحال، ونسب القضية إلى خمارتكين فتنكر له السلطان وهرب واتبعه أولاد ينال فقتلوه بثأر أبيهم، وجعل مكانه سارتكين وبعث للوزير بشأنه.وكتب السلطان إلى قاضي القضاة والشيخ أبي منصور بن يوسف بالعتب، وطلب بنت أخي زوجة القائم فأجاب الخليفة حينئذ إلى الإصهار، وفوّض إلى الوزير عميد الكندري عقد النكاح على إبنته للسلطان، وكتب بذلك إلى أبي الغنائم المجلبان فعقد عليها في شعبان من تلك السنة بظاهر تبريز. وحمل السلطان للخليفة أموالاً كثيرة وجواهر لولي العهد وللمخطوبة، وأقطع ما كان بالعراق لزوجته خاتون المتوفاة للسيدة بنت الخليفة. وتوجه السلطان في المحرم سنة خمس وخمسين من أرمينية إلى بغداد، ومعه من الأمراء أبو علي بن أبي كاليجار وسرخاب بن بدر وهزار وأبو منصور بن قرامرد بن كاكويه، وخرج الوزير ابن جهير فتلقاه وترك عسكره بالجانب الغربي، ونادى الناس بهم. وجاء الوزير ابن العميد لطلب المخطوبة فأفرد لهم القائم دوراً لسكناه وسكنى حاشيته، وانتقلت المخطوبة إليها وجلست على سرير ملبّس بالذهب، ودخل السلطان فقبل الأرض وحمل لها مالاً كثيراً من الجواهر وأولم أياماً، وخلع على جميع أمرائه وأصحابه، وعقد ضمان بغداد على أبي سعد الفارسي بمائة وخمسين ألف دينار، وأعاد ما كان أطلقه رئيس العراقين من المواريث والمكوس، وقبض على الأعرابي سعد ضامن البصرة، وعقد ضمان واسط على أبي جعفر بن فضلان بمائتي ألف. 

وفاة السلطان طغرلبك وملك ابن أخيه داود:

ثم سار السلطان طغرلبك من بغداد في ربيع الآخر إلى بلد الجبل فلمّا وصل الريّ أصابه المرض وتوفي ثامن رمضان من سنة خمس وخمسين، وبلغ خبر وفاته إلى بغداد فاضطربت، واستقدم القائم مسلم بن قُرَيْش صاحب الموصل ودبيس بن مزيد وهزارشب صاحب الأهواز وبني ورّام وبدر بن مهلهل فقدموا، وأقام أبو سعد الفارسيّ ضامن بغداد سوراً على قصر عيسى، وجمع الغلال، وخرج مسلم بن قُرَيْش من بغداد فنهب النواحي، وسار دبيس بن مزيد وبنو خفاجة وبنو ورام والأكراد لقتاله. ثم استتيب ورجع إلى الطاعة. وتوفي أبو الفتح بن ورام مقدم الأكراد والجاوانية،  وحمل العامة السلاح لقتال الأعراب فكانت سبباً لكثرة الذعار. ولما مات طغرلبك بايع عميد الدولة الكندري بالسلطنة لسليمان ابن داود، وجعفر بك، وكان ربيب السلطان طغرلبك خلف أخاه جعفر بك داود على أمه، وعهد إليه بالملك فلما خطب له اختلف عليه الأمر، وسار باغي سيان وأرذم إلى قزوين فخطب لأخيه ألب أرسلان، وهو محمد بن داود، وهو يومئذ صاحب خراسان ووزيره نظام الملك سار إلى المذكور، وسال الناس إليه، وشعر الكندري باختلال أمره فخطب بالري للسلطان ألب أرسلان وبعده لأخيه سليمان. وزحف ألب أرسلان في العساكر من خراسان إلى الرى فلقيه الناس جميعاً ودخلوا في طاعته، وجاء عميد الملك الكندري إلى وزيره نظام الملك فخدمه وهاداه فلم يغن عنه، وخشي السلطان غائلته فقبض عليه سنة ست وخمسين وحبسه بمروالروذ. ثم بعث بعد سنة من محبسه بقتله من ذي الحجة من سنة سبع وخمسين، وكان من أهل نيسابور كاتباً بليغاً. فلما ملك طغرلبك نيسابور، وطلب كاتباً فدله عليه الموفق والد أبي سهل فاستكتبه واستخلصه وكان خصيًّا يقال إنّ طغرلبك خصاه لأنه تزوج بامرأة خطبها له، وغطى عليه فظفر به فحاصره وأقره على خدمته. وقيل أشاع عند أعدائه أنه تزوجها ولم يكن ذلك فخصى نفسه ليأمن غائلته، وكان شديد التعصب على الشافعية والأشعرية. واستأذن السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان، ثم أضاف إليهم الأشعرية فاستعظم ذلك أئمة السنة. وفارق خراسان أبو القاسم القشيري ثم أبو المعالي إلى مكة فأقام أربعة سنين يتردد بين الحرمين يدرس ويفتي حتى لقب إمام الحرمين. فلما جاءت دولة ألب أرسلان أحضرهم نظام الملك وزيره فأحسن إليهم وأعاد السلطان ألب أرسلان السيدة بنت الخليفة التي كانت زوجة طغرلبك إلى بغداد، وبعث في خدمتها الأمير أيتكين السليماني، وولاه شحنة ببغداد وبعث معها أيضاً أبا سهل محمد بن هبة الله المعروف بابن الموفق لطلب الخطبة ببغداد فمات في طريقه، وكان من رؤساء الشافعية بنيسابور. وبعث السلطان مكانه العميد أبا الفتح المظفر بن الحسين فمات أيضاً في طريقه فبعث وزيره نظام الملك، وخرج عميد الملك ابن الوزير فخر الدولة بن جهير لتلقيهم، وجلس لهم القائم جلوساً فخمأ في جمادى الأولى من سنة ست وخمسين، وساق الرسل بتقليد ألب أرسلان السلطنة، وسلمت إليهم الخلع بمشهد من الناس، ولقب ضياء الدولة، وأمر بالخطبة له على منابر بغداد، وأن يخاطب بالولد المؤيد حسب اقتراحه فأرسل إلى الديوان لأخذ البيعة النقيب طراد الزينبي، فأرسل إليه بنقجوان من أذربيجان، وبايع وانتقض على السلطان ألب أرسلان من السلجوقية صاحب هراة وصغانيان، فسار إليهم وظفر بهم كما نذكر في أخبارهم ودولتهم عن إفرادها بالذكر انتهى.

فتنة قطلمش والجهاد بعدها:

كان قطلمش هذا من كبار السلجوقية وأقربهم نسباً إلى السلطان طغرلبك، ومن أهل بيته، وكان قد استولى على قومة واقصراي وملطية، وهو الذي بعثه السلطان طغرلبك أول ما ملك بغداد سنة تسع وأربعين لقتال البساسيري وقريش بن بدران صاحب الموصل، ولقيهم على سنجار الري فجهز ألب أرسلان العساكر من نيسابور في المحرم من سنة سبع وخمسين، وساروا على المفارقة فسبقوا قطلمش إلى الريّ، وجاء كتاب السلطان إليه ولقيه فلم يثبت ومضى منهزما، واستباح السلطان عسكره قتلاً وأسراً، وأجلت الواقعة عنه قتيلاً فحزن له السلطان ودفنه. ثم سار إلى بلاد الروم معتزماً على الجهاد، ومر بأذربيجان ولقيه طغرتكين من أمراء التركمان في عشيرة، وكان ممارسأ للجهاد فحثه على قصده، وسلك دليلاً بين يديه فوصل إلى نجران على نهر أرس، وأمر بعمل السفن لعبوره، وبعث عساكر لقتال خوي وسلماس من حصون أذربيجان، وسار هو في العساكر فدخل بلاد الكرخ وفتح قلاعها واحدة بعد واحدة كما نذكر في أخبارهم. ودوخ بلادهم وأحرق مدنهم وحصونهم، وسار إلى مدينة آي من بلاد الديلم فافتتحها وأثخن فيها، وبعث بالبشائر إلى بغداد، وصالحه ملك الكرخ على الجزية، ورجع إلى أصبهان. ثم سار منها إلى كرمان فأطاعه أخوه قاروت بن داود جعفر بك. ثم سار إلى مرو وأصهر إليه خاقان ملك ما وراء النهر بإبنته لابنه ملكشاه، وصاحب غزنة بابنته لابنه الآخر انتهى.

العهد بالسلطنة لملكشاه بن ألب أرسلان:

وفي سنة ثمان وخمسين عهد ألب أرسلان بالسلطنة لابنه ملكشاه، واستخلف له الأمراء وخلع عليهم وأمر بالخطبة في سائر أعماله، وأقطع بلخ لأخيه سليمان، وخوارزم لأخيه ازعزا. ومرو لابنه أرسلان شاه، وصغانيان وطخارستان لأخيه إلياس،  ومازندران للأمير ابتايخ وبيغوا، وجعل ولاية نقشوان ونواحيها لمسعود ابن ازناس. وكان وزيره نظام الملك قد ابتدأ سنة سبع وخمسين بناء المدرسة النظامية ببغداد، وتمت عمارتها في ذي القعدة سنة تسع وخمسين، وعين للتدريس بها الشيخ إسحاق الشيرازي، واجتمع الناس لحضور درسه وتخلف لأنه سمع أن في مكانها غصباً. وبقي الناس في انتظاره حتى يئسوا منه فقال الشيخ أبو منصور لا ينفصل هذا الجمع إلا عن تدريس، وكان أبو منصور الصباغ حاضراً فدرس وأقام مدرساً عشرين يوماً حتى سمع أبو إسحاق الشيرازي بالتدريس فاستقّر بها.

وزراء الخليفة:

كان فخر الدولة ابن جُهير وزير القائم كما ذكرناه، ثم عزله سنة ستين وأربعمائة فلحق بنور الدولة دبيس بن مزيد بالقلوجة، وبعث القائم عن أبي يعلى والد الوزير أبي شجاع، وكان يكتب لهزارشب ابن عوض صاحب الأهواز فاستقدمه ليوليه الوزارة، فقدم ومات في طريقه، وشفع دبيس بن مزيد في فخر الدولة بن جهير فأعيد إلى وزارته سنة إحدى وستين في صفر.

الخطبة بمكة:

وفي سنة إثنتين وستين خطب محمد بن أبي هاشم بمكة للقائم وللسلطان ألب أرسلان، وأسقط خطبة العلويّ صاحب مصر، وترك حيّ على خير العمل من الأذان، وبعث إبنه وافداً على السلطان بذلك فأعطاه ثلاثين ألف دينار، وخلعاً نفيسة ورتب كل سنة عشرة آلاف دينار.

طاعة دبيس ومسلم بن قُرَيْش:

كان مسلم بن قُرَيْش منتقضاً على السلطان، وكان هزارشب بن شكر بن عوض قد أغرى السلطان بدبيس بن مزيد ليأخذ بلاده فانتقض. ثم هلك هزارشب سنة إثنتين وستين بأصبهان منصرفاً من وفادته على السلطان بخراسان ، فوفد دبيس على السلطان ومعه مشرف الدولة مسلم بن قُرَيْش صاحب الموصل، وخرج نظام الملك لتلقّيهما، وأكرمهما السلطان ورجعا إلى الطاعة.

الخطبة العباسية بحلب واستيلاء السلطان عليها:

كان محمود بن صالح بن مراد قد استولى هو وقومه على مدينة حلب، وكانت للعلويّ صاحب مصر. فلمّا رأى إقبال دولة ألب أرسلان وقوتها خافه على بلده فحملهم على الدخول في دعوة القائم، وخطب له على منابر حلب سنه ثلاث وستين، وكتب بذلك إلى القائم فبعث إليه نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي بالخلع، ثم سار السلطان ألب أرسلان إلى حلب ومرّ بديار بكر فخرج إليه صاحبها ابن مروان، وخدمه بمائة ألف دينار. ومرّ بآمد فامتنعت عليه وبالرها كذلك. ثم نزل على حلب وبعث إليه صاحبها محمود مع نقيب النقباء طراد بالاستعفاء من الحضور فألح في ذلك، وحاصره فلما اشتدّ عليه الحصار خرج ليلاً إلى السلطان، ومعه أمّه منيعة بنت رتاب النميري ملقياً بنفسه فأكرمه السلطان وخلع عليه وأعاده إلى بلده فقام بطاعته.

واقعة السلطان مع ملك الروم وأسره:

كان ملك الروم في القسطنطينية وهو أرمانوس قد خرج سنة إثنتين وستين إلى بلاد الشام في عساكر كثيفة، ونزل على منبج ونهبها وقتل أهلها، وزحف إليه محمود بن صالح بن مرداس وابن حسان الطائي في بمي كلاب وطيىء ومن إليهم من جموع العرب فهزمهم، وطال عليه المقام على منبج،  وعزّت الأقوات فرجع إلى بلاده، واحتشد وسار في مائتي ألف من الزنج والروم والروس والكرخ، وخرج في احتفال إلى أعمال خلاط ووصل إلى ملازجرد. وكان السلطان ألب أرسلان بمدينة خوي من أذربيجان عند عوده من حلب فتشوق إلى الجهاد، ولم يتمكن من الاحتشاد فبعث أثقاله وزوجته مع نظام الملك إلى همذان، وسار فيمن حضره من العساكر، وكانوا خمسة عشر ألفاً. ووطن نفسه على الاستماتة فلقيت مقدمته عند خلاط جموع الروسية في عشرة آلاف فانهزموا وجيء بملكهم إلى السلطان فحبسه، وبعث بالأسلاب إلى نظام الملك ليرسلها إلى بغداد. ثم تقارب العسكران وجنح السلطان للمهادنة فأبى ملك الروم فاعتزم السلطان وزحف وأكثر من الدعاء والبكاء، وعفر وجهه بالتراب. ثم حمل عليهم فهزمهم وامتلأت الأرض بأشلائهم، وأسر الملك أرمانوس، جاء به بعض الغلمان أسيراً فضربه السلطان على رأسه ثلاثاً ووبخه. ثم فاداه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وعلى أن يطلق كل أسير عنده، وأن تكون عساكر الروم مدداً للسلطان متى يطلبها. وتم الصلح على ذلك لمدة خمسين سنة. وأعطاه السلطان عشرة آلاف دينار وخلع عليه وأطلقه، ووثب ميخائيل على الروم فملك عليهم مكان أرمانوس فجمع ما عنده من الأموال فكان مائتي ألف دينار، وجيء بطبق مملوء بجواهر قيمته تسعون ألفاً. ثم استولى أرمانوس بعد ذلك على أعمال الأرمن وبلادهم.

شحنة بغداد:

قد ذكرنا أن السلطان ألب أرسلان ولّى لأول ملكه إيتكين السليماني شحنة بغداد سنة ست وخمسين فأقام فيها مدّة، ثم سار إلى السلطان في بعض مهماته، واستخلف إبنه مكانه فأساء السيرة، وقتل بعض المماليك الداريّة فأنفذ قميصه من الديوان إلى السلطان، وخوطب بعزله. وكان نظام الملك يعني به فكتب فيه بالشفاعة، وورد سنة أربع وستين فقصد دار الخلافة، وسأل العفو فلم يجب، وبعث إلى تكريت ليسوغها بإقطاع السلطان فبرز المرسوم من ديوان الخلافة بمنع ذلك. ولما رأى السلطان ونظام الملك إصرار القائم على عزله، بعث السلطان مكانه سعد الدولة كوهرابين اتباعا لمرضاة الخليفة. ولما ورد بغداد خرج الناس للقائه وجلس له القائم واستقّر شحنة. 

مقتل السلطان ألب أرسلان وملك ابنه ملكشاه:

سار السلطان ألب أرسلان محمد إلى ما وراء النهر، وصاحبه شمس الملك تكين، وذلك سنة خمس وستين، وعبر على جسر عقده على جيحون في نيف وعشرين يومأ، وعسكره تزيد على مائتي ألف. وجيء له بمستحفظ القلاع، ويعرف بيوسف الخوارزمي فأمر بعقابه على ارتكابه فأفحش في سب السلطان فغضب وأمر بإطلاقه، ورماه بسهم فأخطأه فسير إليه يوسف، وقام السلطان عن سريره فعثر ووقع فضربه بسكينة، وضرب سعد الدولة، ودخل السلطان خيمته جريحاً. وقتل الأتراك يوسف هذا، ومات السلطان من جراحته عاشر ربيع سنة خمس وستين، لتسع سنين ونصف من ملكه، ودفن بمرو عند أبيه. وكان كريماً عادلاً كثير الشكر لنعمة الله والصدقة، واتّسع ملكه حتى قيل فيه سلطان العالم. ولما مات وقد أوصى بالملك لابنه ملكشاه فجلس للملك، وأخذ له البيعة وزيره نظام الملك، وأرسل إلى بغداد فخطب له على منابرها. وكان ألب أرسلان أوصى أن يعطي أخوه قاروت بك أعمال فارس وكرمان وشيئاً عّينه من المال، وكان بكرمان. وأن يعطي إبنه إياس بن ألب أرسلان ما كان لأبيه داود، وهو خمسمائة ألف دينار، وعهد بقتال من لم يقض بوصّيته. وعاد ملكشاه من بلاد ما وراء النهر فعبر الجسر في ثلاثة أيام، وزاد الجند في أرزاقهم سبعمائة ألف دينار، ونزل نيسابور، وأرسل إلى ملوك الأطراف بالطاعة والخطبة فأجابوا. وأنزل أخاه أياس بن ألب أرسلان ببلخ وسارإلى الريّ. ثم فوّض إلى نظام الملك وأقطعه مدينة طوس التي هي منشؤه وغيرها، ولقّبه ألقابأ منها أتابك ومعناها الأمير الوالد، فحمل الدولة بصرامة وكفاية، وحسن سيرة وبعث كوهرابين الشحنة إلى بغداد سنة ست وستين لاقتضاء العهد فجلس له القائم وعلى رأسه حافده وولّي عهده المقتدي بأمر الله، وسلم إلى سعد الدولة كوهرابين عهد السلطان ملكشاه بعد أن قرأ الوزير أوّله في المحفل، وعقد له اللواء بيده ودفعه إليه.

وفاة القائم ونصب المقتدي للخلافة:

ثم توفي القائم بأمر الله أبو جعفر بن القادر، افْتُصد منتصف شعبان من سنة سبع وستين ونام فانفجر فصاده، وسقطت قوّته. ولما أيقن بالموت أحضر حافده أبا القاسم عَبْد الله ابن إبنه ذخيرة الدين محمد، وأحضر الوزير ابن جهير، والنقباء والقضاة وغيرهم، وعهد له بالخلافة. ثم مات لخمس وأربعين سنة من خلافته. وصلى عليه المقتدي، وبعي بعهد جده، وحضر بيعته مؤيد الملك بن نظام الملك، والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة، وأبو إسحاق الشيرازي وأبو نصر بن الصباغ، ونقيب النقباء طراد، والنقيب الطاهر المعمر بن محمد، وقاضي القضاة أبو عَبْد الله الدامغاني وغيرهم من الأعيان والأماثل. ولما فرغوا من البيعة صلى بهم العصر، ولم يكن للقائم عقب ذكر غيره لأن ابنه ذخيرة الدين أبا العباس محمدا توفي في حياته، ولم يكن له غيره فاعتمد القائم لذلك. ثم جاءت جاريته أرجوان بعد موته لستة أشهر بولد ذكر فعظم سرور القائم به، ولما كان حادثة البساسيري حمله أبو الغنائم ابن المجلبان إلى حران وهو ابن أربع سنين، وأعاده عند عود القائم إلى داره. فلما بلغ الحلم عهد له القائم بالخلافة، ولما تمت بيعته لقب المقتدي وأقر فخر الدولة بن جهير على وزارته بوصية جده القائم بذلك. وبعث ابن عميد الدولة إلى السلطان ملكشاه لأخذ البيعة في رمضان من سنة سبع وستين وبعث معه من الهدايا ما يجل عن الوصف. وقدم سعد الدولة كوهرابين سنة ثمان وستين إلى بغداد شحنة، ومعه العميد أبو نصر ناظراً في أعمال بغداد، وقدم مؤيد الملك ابن نظام الملك سنة سبعين للإقامة ببغداد، ونزل بالدار التي بجوار مدرستهم. 

عزل الوزير ابن جُهَيْر ووزارة أبي شجاع:

كان أبو نصر بن الأستاذ أبي القاسم القشيري قد حج سنة تسع وستين فورد بغداد منصرفاً من الحج، ووعظ الناس بالنظامية، وفي رباط شيخ الشيوخ، ونصر مذهب الأشعري فأنكر عليه الحنابلة، وكثر التعصب من الجانبين، وحدثت الفتنة والنهب عند المدرسة النظامية فأرسل مؤيد الملك إلى العميد والشحنة فحضروا في الجند، وعظمت الفتنة، ونسب ذلك إلى الوزير فخر الدولة بن جهير، وعظم ذلك على عضد الدولة فأعاد كوهرابين إلى الشحنة ببغداد. وأوصاه المقتدي بعزل فخر الدولة من الوزارة، وأمر كوهرابين بالقبض على أصحابه، ونمي الخبر إلى بني جهير فبادر عميد الدولة ابن الوزير إلى نظام الملك يستعطفه. ولما بلغ كوهرابين رسالة الملك إلى المقتدي أمر فخر الدولة بلزوم منزله. ثم جاء ابنه عميد الدولة، وقد استصلح نظام الملك في الشفاعة لهم فأعيد عميد الملك إلى الوزارة دون أبيه فخر الدولة، وذلك في صفر سنة إثنتين وسبعين. 

استيلاء تتش بن ألب أرسلان على دمشق وابتداء دولته ودولة ونفيه فيها:

كان أتسز- بهمزة وسين وزاي بن أبق الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه، وقد سار سنة ثلاث وستين إلى فلسطين من الشام ففتح مدينة الرَمْلَة، ثم حاصر بيت المقدس وفتحها من يد العلوّيين أصحاب مصر، وملك ما يجاورها ما عدا عسقلان. ثم حاصر دمشق حتى جهدها الحصار فرجع وبقي يردّد الغزوات إليها كل سنة. ثم حاصرها سنة سبع وستين وبها المعلّى بن حمدرة من قبل المنتصر العبيدي فأقام عليها شهراً. ثم أقلع ديار أهل دمشق بالمعلى لسوء سيرته فهرب إلى بانياس، ثم إلى صور، ثم أخذ إلى مصر وجلس بها ومات محبوساً. واجتمع المصامدة بعد هربه من دمشق وولوا عليهم انتصار ابن يحمى المصمودي ولقبوه زين الدولة. ثم اختلفوا عليه ووقعت الفتنة وغلت الأسعار ورجع أتسز إلى حصارها فنزل له عنها انتصار على الأمان، وعوضه عنها بقلعة بانياس ومدينة يافا من الساحل، وخطب فيها أتسز للمقتدي العباسي في ذي القعدة سنة ثمان وستين. وتغلب على أكثر الشام ومنع من الأذان بحي على خير العمل. ثم سار سنة تسع وستين إلى مصر وحاصرها حتى أشرف على أخذها. ثم انهزم من غير قتال، ورجع إلى دمشق، وقد انتقض عليه أكثر بلاد الشام فشكر لأهل دمشق صونهم لمخلفه وأمواله، ورفع عنهم خراج سنة. وبلغه أن أهل القدس وثبوا بأصحابه ومخلفه وحصروهم في محراب داود عليه السلام فسار إليهم، وقاتلوه فملكهم عنوة وقتلهم في كل مكان إلا من كان عند الصخرة. ثم أن السلطان ملك شاه أقطع أخاه تاج الدولة تتش سنة سبعين وأربعمائة بلاد الشام وما يفتحه من نواحيها فسار إلى حلب سنة إحدى وسبعين وحاصرها وضيق عليها، وكانت معه جموع كثيرة من التركمان. وكان صاحب مصر قد بعث عساكره مع قائده نصير الدولة لحصار دمشق فأحاطوا بها، وبعث أتسز إلى تتش وهو على حلب يستمدّه فسار إليه، وأجفلت العساكر المصرية عن دمشق، وجاء إليها تتش فخرج أتسز للقائه بظاهر البلد فتجني عليه حيث لم يستعد للقائه، وقبض عليه وقتله لوقته، وملك البلد وأحسن السيرة فيها، وذلك سنة إحدى وسبعين فيما قال الهمذاني. وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر أن ذلك كان سنة اثنتين وسبعين. وقال ابن الأثير والشاميون في هذا الإسم افسلس، والصحيح أنه أتسز وهو إسم تركي.

سفارة الشيخ أبي إسحق الشيرازي عن الخليفة:

كان عميد العراق أبو الفتح بن أبي الليث، قد أساء السيرة وأساء إلى الرعّية وعسفهم، واطرح جانب الخليفة المقتدي وحواشيه فاستدعى المقتدي الشيخ أبا إسحق الشيرازي، وبعثه إلى السلطان ملك شاه والوزير نظام الملك بالشكوى من ابن العميد فسار لذلك ومعه جماعة من أعيان الشافعية منهم أبو بكر الشاشي وغيره، وذلك سنة خمس وخمسين. وتنافس أهل البلاد في لقائه والتمسح بأطرافه والتماس البركة في ملبوسه ومركوبه، وكان أهل البلاد إذا مرّ بهم يتسايلون إليه ويزدحمون على ركابه، وينشدون على موكبه كل أحد ما يناسب ذلك، وصدر الأمر بإهانة ابن العميد ورفع يده عما يتعلق بحواشي المقتدي، وجرى بينه وبين إمام الحرمين مناظرة بحضرة نظام الملك ذكرها الناس في كتبهم انتهى.

عزل ابن جهير عن الوزارة وإمارته على ديار بكر:

ثم أن عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير عزله الخليفة المقتدي عن الوزارة، ووصل يوم عزل رسول من قبل السلطان ونظام الملك، يطلب بني جهير فأذن لهم وساروا بأهلهم إلى السلطان فلقاهم كرامة وبرّا، وعقد لفخر الدولة على ديار بكر مكان بني مروان، وبعث معه العساكر سنة وأعطاه الآلة، وأذن له أن يخطب فيها لنفسه ويكتب إسمه في السكة فسار لذلك سنة ست وسبعين. ثم بعث إليه السلطان سنة سبع وسبعين بمدد العساكر مع الأمير أُرْتُق بن اكسب جل أصحاب ماردين لهذا العهد، وكان ابن مروان قد استمد فخر الدولة بن جهير بنواحيها، وكان معه جماعة من التركمان فتقدموا إلى قتل مشرف الدولة، وانهزم أمامهم وغنم التركمان من كان معه من أحياء العرب، ودخل آمد فحصره بها فخر الدولة وأرتق فراسل أرتق وبذل له مالاً على الخروج من ناحيته فأذن له وخرج. ورجع ابن جهير إلى ميافارقين ومعه بهاء الدولة منصور بن مزيد صاحب الحلة والنيل والجامعين، وابنه سيف الدولة صدقة ففارقوه إلى العراق، وسار هو إلى خلاط. وكان السلطان لمّا بلغه انهزام مشرف الدولة وحصاره بآمد بعث عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير في عسكره إلى الموصل ومعه قسيم الدولة اقسنقر جد نور الدين العادل، وكاتب أمراء التركمان بطاعته، وساروا إلى الموصل فملكوها. وسار السلطان بنفسه إليها وقارن ذلك خلوص مشرف الدولة من حصار آمد فراسل مؤيد الدولة بن نظام الملك وهو على الرحبة، وأهدى له فسعى له عند السلطان وأحضره وأهدى للسلطان سوابق خيله وصالحه وأقره على بلاده، وعاد إلى خراسان. ولم يزل فخر الدولة بن جهير في طلب ديار بكر حتى ملكها. فأنفذ إليه زعيم الرؤساء القاسم سنة ثمان وسبعين وحاصرها وضيق عليها حتى غدر بها بعض أهل العسكر من خارج وملكها، وعمد أهل البلد إلى بيوت النصارى بينهم فنهبوها بما كانوا عمال بني مروان، وكان لهم جور على الناس. وكان فخر الدولة مقيمأ على ميافارقين محاصراً لها، وجاءه سعد الدولة كوهرابين في العسكر مددأ من عند السلطان فخرج في حصارها وسقط بعض الأيام جانب من سورها فدهش أهل البلد وتمادوا بشعار السلطان ملك شاه، واقتحم فخر الدولة البلد واستولى على ما كان لبني مروان، وبعث بأموالهم إلى السلطان مع ابنه زعيم الرؤساء فلحقه بأصبهان سنة ثمان وسبعين. ثم بعث فخر الدولة أيضاً عسكراً إلى جزيرة ابن عمر وحاصروها حتى جهدهم الحصار فوثب طائفة من أهل البلد بعاملها، وفتحوا الباب، ودخل مقدم العسكر فملك البلد ودخل سنة ثمان وسبعين. وانقرضت دولة بني مروان من ديار بكر، واستولى عليها فخر الدولة بن جهير، ثم أخذها السلطان من يده، وسار إلى الموصل فتوفي بها، وكان مولده بها، واستخدم لبرلة بن مقلة وسفر عنه إلى ملك الروم. ثم سار إلى حلب ووزر لمعز الدولة أبي هال بن صالح. ثم مضى إلى ملطية ثم إلى مروان بديار بكر، فوزر له ولولده. ثم سار إلى بغداد ووزر للخليفة كما مرّ في آخر ما ذكرنا، وتوفي سنة ثلاث وثمانين انتهى.

خبر الوزارة:

لمّا عزل الخليفة المقتدي عميد الدولة عن الوزارة سنة ست وسبعين رتّب في الديوان أبا الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء. ثم استوزر أبا شجاع محمد بن الحسين فلم يزل في الوزارة إلى سنة أربع وثمانين فتعرض لأبي سعد بن سمحاء اليهودي وكان وكيلاً للسلطان، ونظام الملك. وسار كوهرابين الشحنة إلى السلطان بأصبهان، فمضى اليهودي في ركابه، وسمع المقتدي بذلك فخرج توقيعه بالزام أهل الذمة بالغيار فأسلم بعضهم وهرب بعضهم. وكان ممن أسلم أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب وقرابته، ولما وصل كوهرابين وأبو سعد إلى السلطان وعظمت سعايتهما في الوزير أبي شجاع فكتب السلطان ونظام الملك إلى المقتدي في عزله فعزله، وأمره بلزوم بيته، وولى مكانه أبا سعد ابن موصلايا الكاتب، وبعث المقتدي إليهما في عميد الدولة بن جُهير فبعثا به إليه واستوزره سنة أربع وثمانين، وركب إليه نظام الدولة فهنأه بالوزارة في بيته وتوفي الوزير أبو شجاع سنة ثمان وثمانين.

استيلاء السلطان على حلب:

قد ذكرنا من قبل استيلاء السلطان ألب أرسلان على حلب، وخطبة صاحبها محمود ابن صالح بن مرداس على منابره بإسمه سنة ثلاث وستين. ثم عاد بعد ذلك إلى طاعة العلوية بمصر. ثم انتقضت دولة بني مرداس بها وعادت رياستها شورى في مشيختها، وطاعتهم لمسلم بن قُرَيْش صاحب الموصل، وكبيرهم ابن الحثيثي. واستقر ملك سليمان ابن قطلمش ببلاد الروم، وملك أنْطاكِية سنة سبع وسبعين. وتنازع مع مشرف الدولة ابن قُرَيْش ملك حلب وتزاحفا فقتل سليمان بن قطلمش مسلم بن قُرَيْش سنة تسع وسبعين. وكتب إلى أهل حلب يستدعيهم إلى طاعته فاستمهلوه إلى أن يكاتبوا السلطان ملك شاه. فإن الكل كانوا في طاعته وكتبوا إلى تتش أخي السلطان وهو بدمشق أن يملكوه فسار إليهم ومعه ارتق بن أكسب، كان قد لحق به عندما جاء السلطان إلى الموصل وفتحها خشية مما فعله في خلاص مسلم بن قُرَيْش من حصار آمد فأقطعه تتش بيت المقدس. فلما جاء تتش إلى حلب، وحاصر القلعة، وبها سالم بن مالك ابن بدران ابن عم مشرف الدولة مسلم بن قُرَيْش، وكان ابن الحثيثي وأهل حلب قد كاتبوا السلطان ملك شاه أن يسلموا إليه البلد فسار من أصبهان في جمادى سنة تسع وستين، ومرّ بالموصل، ثم بحرّان فتسلمها وأقطعها محمد بن مسلم بن قُرَيْش، ثم بالرها فملكها من يد الروم، ثم بقلعة جعفر فحاصرها وملكها من يد بعض بني قشير، ثم بمَنْبج فملكها، ثم عبر الفرات إلى حلب فأجفل أخوه تتش إلى البرية ومعه أرتق. ثم عاد إلى دمشق وكان سالم بن مالك ممتنعاً بالقلعة فاستنزله منها وأقطعه قلعة جعبر فلم تزل بيده ويد بنيه حتى ملكها منهم نور الدين العادل، وبعث إلى السلطان بالطاعة على شيراز، وولّى السلطان على حلب قسيم الدولة صاحب شيراز نصر بن عليّ بن منقذ الكناني وسلّم إليه اللاذقية وكفرطاب وفامية فأقرّ على شيراز، وولّى السلطان على حلب قسيم الدولة أقسنقر جدّ نور الدين العادل، ورحل إلى العراق وطلب أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فحمله معه وأنزله بديار بكر فتوفي فيها بحال أملاق.ودخل السلطان بغداد في ذي الحجة من سنة تسع وسبعين، وأهدى إلى المقتديوخلع عليه الخليفة، وقد جلس له في مجلس حفل، ونظامالملك قائم يقدم امراء السلطان واحداً بعد واحد آخر للسلام للخليفة، ويعرف بأسمائهم وأنسابهم ومراتبهم. ثم فوض الخليفة المقتدي إلى السلطان أمور الدولة، ولبل يده والصرف. ودخل نظام الملك إلى مدرسته فجلس في خزانة الكتب، وأسمع جزء حديث وأملى آخر، وأفام السلطان في بغداد شهراً، ورحل في صفر من سنة ثمانين إلى أصبهان، وجاء إلى بغداد مرة أخرى في رمضان من سنة أربع وثمانين، ونزل بدار الملك، وقدم عليه أخوه تاج الدولة تتش، وقسيم الدولة اقسنقر من حلب، وغيرهما من امراء النواحي. وعمل ليلة الميعاد من سنة خمس وثمانين لم ير أهل بغداد مثله، وأخذ الأمراء في بناء الدور ببغداد لسكناهم عند قدومهم فلم تمهلهم الأيام لذلك.

فتنة بغداد:

كانت مدينة بغداد قد احتفلت في كثرة العمران بما لم تنته إليه مدينة في العالم منذ مبدء الخليقة فيما علمناه، واضطربت آخر الدولة العباسية بالفتن وكثر فيها المفسدون والدعار والعيارون من الرها، وأعيا على الحكام أمرهم، وربما أركبوا العساكر لقتالهم ويثخنون فيهم فلم يحسم ذلك من عللهم شيئاً. وربما حدثت الفتن من أهل المذاهب، ومن أهل السنة والشيعة من الخلاف في الإمامة ومذاهبها، وبين الحنابلة والشافعية وغيرهم من تصريح الحنابلة بالتشبيه في الذات والصفات، ونسبتهم ذلك إلى الإمام أحمد، وحاشاه منه، فيقع الجدال والنكير، ثم  يفضي إلى الفتنة بين العوام. وتكرر ذلك منذ حجر الخلفاء. ولا يقدر بنو بويه ولا السلجوقية على حسم ذلك منها لسكنى أولئك بفارس، وهؤلاء بأصبهان، وبعدهم عن بغداد. والشوكة التي تكون بها حسم العلل لاتفاقهم. وإنما تكون ببغداد شحنة تحسم ما. خف من العلل ما لم ينته إلى عموم الفتنة، ولم يحصل من ملوكهم إهتمام لحسم ذلك لاشتغالهم بما هو أعظم منه في الدولة والنواحي. وعامة بغداد أهون عليهم من أن يصرفوا همتهم عن العظائم إليهم فاستمرت هذه العلّة ببغداد، ولم يقلع عنها إلى أن اختلفت جدّتها وتلاشى عمرانها، وبقي طراز في ردائها لم تذهبه الأيام.

مقتل نظام الملك وأخباره:

كان من أبناء الدهاقين بطوس أبو علي الحسين بن علي بن إسحق فشب وقرأ بها، وسمع الحديث الكبير وتعلق بالأحكام السلطانية، وظهرت فيها كفايته، وكان يعرف بحسن الطوسي. وكان أميره الذي يستخدمه يصادره كل سنة فهرب منه إلى داود وحفري بك، وطلبه مخدومه الأمير فمنعه، وخدم أبا علي بن شادان متولي الأعمال ببلخ لحفري بك أخي السلطان طغرلبك، وهو والد السلطان ألب أرسلان. ولما مات أبو علي وقد عرف نظام الملك هذا بالكفاية والأمانة أوصى به ألب أرسلان فأقام بأمور دولته ودولة ابنه ملك شاه من بعده، وبلغ المبالغ كما مر واستولى على الدولة. وولى أولاده الأعمال، وكان فيمن ولاه منهم ابن ابنه عثمان جمال، وولى على مرو، وبعث السلطان إليها شحنة من أعظم أمرائه ووقع بينه وبين عثمان نزاع فحملته الحداثة والإدلال بجاهه على أن قبض على الأمير وعاقبه فانطلق إلى السلطان مستغيثاً، وامتعض لها السلطان، وبعث إلى نظام الملك بالنكير مع خواصه وثقاته فحملته الدالة على تحقيق تعديد حقوقه على السلطان، وإطلاق القول في العتاب والتهديد بطوارق الزمن. وأرادوا طي ذلك عن السلطان فوشى به بعضهم. فلما كان رمضان من سنة خمس وثمانين، والسلطان على نهاوند عائداً من أصبهان إلى بغداد، وقد انصرف الملك يومه ذلك من خيمة السلطان إلى خيمته،  فاعترضه صبي قيل إنه من الباطنية في صورة مستغيث فطعنه بسكينة فمات، وهرب الصبي فأدرك وقتل، وجاء السلطان إلى خيمة نظام الملك يومه، وسكن أصحابه وعسكره،  وذلك لثلاثين سنة من وزارته سوى ما وزر لأبيه ألب أرسلان أيام إمارته بخراسان. 

وفاة السلطان ملك شاه وملك ابنه محمود:

لمّا قتل نظام الملك على نهاوند كما ذكرناه سار السلطان لوجهه، ودخل بغداد آخر رمضان من سنته، ولقيه الوزير عميد الدولة بن جهير، واعتزم السلطان أن يولّي وزارته تاج الملك، وهو الذي سعى بنظام الملك، وكانت قد ظهرت كفايته. فلما صلّى السلطان العيد عاد إلى بيته وقد طرقه المرض، وتوفي منتصف شوّال فكتمت زوجته تركمان خاتون موته، وأنزلت أموالها وأموال أهل الدولة بحريم دار الخلافة، وارتحلت إلى أصبهان. وسلوا السلطان معها في تابوته، وقد بذلت الأموال للأمراء على طاعة ابنها محمود والبيعة له فبايعوه، وقدمت من طريق قوام الدولة كربوقا الذي ملك الموصل من بعد ذلك، فسار بخاتم السلطان لنائب القلعة وتسلمها. ولما بايعت لولدها محمود وعمره يومئذ أربع سنين بعثت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة له فأجابها على شرط أن يكون أنز من أمراء أبيه هو القائم بتدبير الملك، وأن يصدر عن رأي الوزير تاج الملك، ويكون له ترتيب العمال وجباية الأموال فأبت أولاً من قبول هذا الشرط، حتى جاءها الإمام أبو حامد الغزالي وأخبرها أن الشرع لا يجير تصرفاته فأذعنت لذلك فخطبت لابنها آخر شوال من السنة، ولقب ناصر الدولة والدين، وكتب إلى الحرمين الشريفين فخطب له بهما.

 ثورة بركيارق بملك شاه:

كانت تركمان خاتون عند موت السلطان ملك شاه قد كتمت موته وبايعت لابنها محمود كما قلناه، وبعثت إلى أصبهان سراً في القبض على بركيارق ابن السلطان ملك شاه خوفاً من أن ينازع إبنها محموداً فحبس. فلما ظهر موت ملك شاه وثب مماليك بركيارق نظام الملك على سلاح كان له بأصبهان وثاروا في البلد، وأخرجوا بركيارق من محبسه وبايعوه وخطبوا له بأصبهان. وكانت أمه زبيدة بنت عم ملك شاه وهو ياقولي خائفة على ولدها من خاتون أم محمود، وكان تاج الملك قد تقدم إلى أصبهان وطالبه العسكر بالأموال فطلع إلى بعض القلاع لينزل منها المال وامتنع فيها خوفاً من مماليك نظام الملك. ولما وصلت تركمان خاتون إلى أصبهان جاءها فقبلت عذره. وكان بركيارق لمّا أقامت خاتون إبنها محمودأ بأصبهان خرج فيمن معه من النظامية إلى الري واجتمع معه بعض أمراء أبيه، وبعثت خاتون العساكر إلى قتاله، وفيهم أمراء ملك شاه. فلما تراءى الجمعان هرب كثير من الأمراء إلى بركيارق واشتد القتال فانهزم عسكر محمود وخاتون وعادوا إلى أصبهان وسار بركيارق في أثرهم فحاصرهم بها.

مقتل تاج الملك:

كان الوزير تاج الملك قد حضر مع عسكر خاتون وشهد وقعة بركيارق. فلما انهزموا سار إلى قلعة يزدجرد فحبس في طريقه، وحمل إلى بركيارق، وهو محاصر أصبهان، وكان يعرف كفايته فأجمع أن يستوزره، وأصلح هو النظامية وبذل لهم مائتي ألف دينار واسترضاهم بها. ونمي ذلك إلى عثمان نائب نظام الملك فوضع الغلمان الأصاغر عليه الطالبين ثار سيدهم، وأغراهم فقتلوه وقطعوه قطعاً وذلك في المحرم سنة ست وثمانين. ثم خرج إلى بركيارق من أصبهان وهو محاصر لها عز الملك أبو عَبْد الله بن الحسين بن نظام الملك، وكان على خوارزم، ووفد على السلطان ملك شاه قبل مقتل أبيه. ثم كان ملكهما فأقام هو بأصبهان، وخرج إلى بركيارق وهو يحاصرها فاستوزره وفوض إليه أمر دولته انتهى. 

الخطبة لبركيارق ببغداد:

ثم قدم بركيارق بغداد سنة ست وثمانين، وطلب من المقتدي الخطبة فخطب له على منابرها ولقّب ركن الدين، وحمل الوزير عميد الدولة بن جهير إليه الخلع فلبسه وتوفي المقتدي وهو مقيم ببغداد.

وفاة المقتدي ونصب المستظهر للخلافة:

ثم توفي المقتدي بأمر الله أبو القاسم عَبْد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله في منتصف محرم سنة سبع وثمانين، وكان موته فجأة، أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم عليه فقرأه ووضعه. ثم قدم إليه طعام فأكل منه ثم غُشي عليه فمات، وحضر الوزير فجهزوا جنازته وصلى عليه إبنه أبو العباس أحمد، ودفن، وذلك لتسع عشرة سنة وثمانية أشهر من خلافته. وكانت له قوة وهمة لولا أنه كان مغلباً، وعظمت عمارة بغداد في أيامه وأظن ذلك لاستفحال دولة بني طغرلبك. ولما توفي المقتدي وحضر الوزير أحضر ابنه أبا العباس أحمد الحاشية فبايعوه ولقبوه المستظهر، وركب الوزير إلى بركيارق، وأخذ بيعته للمستظهر. ثم حضر بركيارق لثالثة من وفاته ومعه وزيره عز الملك بن نظام الملك وأخوه بهاء الملك، وأمر السلطان بأرباب المناصب فجمعوا، وحضر النقيبان طراد العبّاسي والمُعَمرّ العلويّ، وقاضي القضاة أبو عَبْد الله الدامغاني والغزالي والشاشي وغيرهم فحبسوا في العراء وبايعوا.

أخبار تتش وانتقاضه وحروبه ومقتله:

قد ذكرنا فيما تقدم أن تتش بن السلطان ألب أرسلان استقل بملك دمشق وأعمالها، وأنه وفد على السلطان ملك شاه ببغداد قبل موته وانصرف، وبلغه خبر وفاته بهيت فملكها وسار إلى دمشق فجمع العساكر، وزحف إلى حلب فأطاعه صاحبها قسيم الدولة أقسنقر، وسار معه، وكتب إلى ناعيسان صاحب أنْطاكِية وإلى برار صاحب الرها وحران يشير عليهما بطاعة تتش حتى يصلح حال أولاد ملك شاه فقبلوا منه، وخطبوا له في بلادهم، وساروا معه فحضر الرحبة وملكها في المحرم سنة ست وثمانين، وخطب فيها لنفسه. ثم فتح نصيبين عنوة، وعاث فيها، وسلمها لمحمد بن مشرف الدولة، وسار يريد الموصل، ولقيه الكافي فخر الدولة بن جهير، وكان في جزيرة ابن عمر فاستوزره وبعث إلى إبراهيم بن مشرف الدولة مسلم بن قُرَيْش وهو يومئذ ملك الموصل يأمره بالخطبة له، وتسهيل طريقه إلى بغداد فأبى من ذلك وزحف إليه تتش وهو في عشرة آلاف، وأقسنقر على ميمنته وتوزران على ميسرته، وإبراهيم في ستين ألفاً والتقوا فانهزم إبراهيم وأخذ أسيراً وقتل جماعة من أمراء العرب صبراً، وملك تاج الدولة تتش الموصل، وولى عليها علي بن مشرف الدولة. وفوض إليه أمر صفية عمة تتش، وبعث إلى بغداد يطلب مساعدة كوهرابين الشحط فجاء العذر بانتظار الرسل من العسكر، فسار إلى ديار بكر وملكها، ثم إلى أذربيجان، وبلغ خبره إلى بركيارق، وقد استولى على همذان والري فسار لمدافعته فلما التقى العسكران جنح أقسنقر إلى بركيارق وفاوض توران في ذلك، وأنهما إنما اتبعا تُتُش حتى يظهر أمر أولاد ملكشاه فوافقه على ذلك وسارا معا إلى بركيارق فانهزم تتش وعاد إلى دمشق، واستفحل بركيارق وجاءه كوهرابين يعتذر عن مساعدته لتتش في الخطبة فلم يقبله، وعزله، وولى الأمير نكبرد شحنة بغداد مكانه. ثم خطب لبركيارق ببغداد كما قدمناه. ومات المقتدي ونصب المستظهر، ولما عاد تتش من أذربيجان إلى الشام جمع العساكر، وسار إلى حلب لقتال أقسنقر، وبعث بركيارق كربوقا الذي صار أمير الموصل مدداً لأقسنقر، ولقيهم تُتُش قريباً من حلب فهزمهم وأسر أقسنقر فقتله صبراً. ولحق توران وكربوقا بحلب، وحاصرهما تتش فملكها وأخذهما أسيرين وبعث إلى حرّان والرّها في الطاعة، وكانتا لتوران فامتنعوا فبعث برأسه إليهم وأطاعوه، وحبس كربوقا في حمص إلى أن أطاعه رضوان بعد قتل أبيه تُتُش. ثم سار تتش إلى الجزيرة فملكها، ثم ديار بكر، ثم خلاط وأرمينية، ثم أذربيجان. ثم سار إلى همذان فملكها، وكان بها فخر الدولة نظام الملك، سار من حران لخدمة بركيارق فلقيه الأمير تاج من عسكر محمود بن ملكشاه بأصبهان فنهب ماله ونجا بنفسه إلى همذان، وصادف بها تتش، وشفع فيه باغسيان وأشار بوزارته فاستوزره، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة من المستظهر، وبعث يوسف بن أبق التركماني شحنته إلى بغداد في جمع من التركمان فمنع من دخولها.وكان بركيارق قد سار إلى نصيبين، وعبر دجلة فوق الموصل إلى أربل،  ثم إلى بلد سرخاب بن بدر، حتى إذا كان بينه وبين عمه تسعة فراسخ، وهو في ألف رجل، وعمه في خمسين ألفاً فبيته بعض  أمراء من عسكر عمه فانهزم إلى أصبهان، وبها محمود ابن أخيه، وقد ماتت أمه تركمان خاتون فأدخله أمراء محمود، واحتاطوا عليه. ثم مات محمود سلخ شوال من سنة سبع وثمانين، واستولى بركيارق على الأمر، وقصده مؤيد الملك بن نظام الملك فاستوزره في ذي الحجة، واستمال الأمراء فرجعوا إليه وكثر جمعه. وكان تتش بعد هزيمة بركيارق قد اختلف عليه الأمراء، وراسل أمراء أصبهان يدعوهم إلى طاعته فواعدوه انتظار بركيارق، وكان قد أصابه الجدري، فلما أبل نبذوا إليه عهده، وساروا مع بركيارق من أصبهان وأقبلت إليهم العساكر من كل مكان، وانتهوا إلى ثلاثين ألفاً والتقوا قريباً من الريّ فانهزم تُتُش وقتله بعض أصحاب أقسنقر، وكان قد حبس وزيره فخر الملك بن نظام الملك فأطلق ذلك اليوم، واستفحل أمر بركيارق وخطب له ببغداد.

ظهور السلطان ملكشاه والخطبة له ببغداد:

كان السلطان بركيارق قد ولى على خراسان وأعمالها أخاه لأبيه سنجر فاستقل بأعمال خراسان كما يذكر في أخبار دولتهم عند انفرادها بالذكر. وإنما نذكر هنا من أخبارهم ما يتعلق بالخلافة والخطبة لهم ببغداد، لأنّ مساق الكلام هنا إنما هو عن أخبار دولة بني العبّاس، ومن وزر لهم أو تغلّب خاصة. وكان لسنجر بن ملكشاه أخ شقيق إسمه محمد، ولمّا هلك السلطان ملكشاه سار مع أخيه محمود وتركمان خاتون إلى  أصبهان. فلمّا حاصرهم بركيارق لحق به أخوه محمد هذا وسار معه إلى بغداد سنة ست وثمانين، وأقطعه دجلة وأعمالها وبعث معه قَطْلَغ تكين أتابك. فلما استولى على أمره قتله أنفة من حجره. ثم لحق به مؤيد الملك بن عبيد الله بن نظام الملك، كان مع الأمير أنز،  وداخله في الخلاف على السلطان بركيارق. فلما قتل أنز كما نذكر في أخبارهم لحق مؤيد الملك بمحمد ابن السلطان ملك شاه، وأشار عليه ففعل وخطب لنفسه. واستوزره مؤيد الملك، وقارن ذلك أن السلطان بركيارق قتل خاله مجد الملك البارسلاني فاستوحش منه أمراؤه، ولحقوا بأخيه محمد وسار بركيارق إلى الري واجتمع له بها عساكر وجاء عز الملك منصور ابن نظام الملك في حسماكر، وبينما هو في الري إذ بلغه مسير أخيه محمد إليه فأجفل راجعاً إلى أصبهان فمنعه أهلها الدخول، فسار إلى خوزستان. وجاء السلطان محمد إلى الرى أول ذي القعدة من سنة إثنتين وتسعين، ووجد أم بركيارق بها وهي زبيدة خاتون فحبسها مؤيد الملك وقتلها، واستفحل ملك محمد، وجاءه سعد الدولة كوهرابين شحنة بغداد وكان مستوحشاً من بركيارق، وجاء معه كربوقا صاحب الموصل، وجكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، وسرخاب ابن بدر صاحب كركور فلقوه جميعاً بقم. وسار كربوقا وجكرمش معه إلى أصبهان، ورد كوهرابين إلى بغداد في طلب الخطبة من الخليفة، وأن يكون شحنة بها فأجابه المستظهر إلى ذلك، وخطب له منتصف ذي الحجة سنة إثنتين وتسعين، ولقب غياث الدنيا والدين.

اعادة الخطبة لبركيارق:

لمّا سار بركيارق مجفلاً من الريّ إلى خوزستان أمام أخيه محمد، وأمير عسكره يومئذ ينال بن أنوش تكين الحسامي، ومعه جماعة من الأمراء أجمع المسير إلى العراق فسار إلى واسط، وجاءه صدقة بن مزيد صاحب الحلّة. ثم سار إلى بغداد فخطب له بها منتصف صفر من سنة ثلاث وتسعين. ولحق سعد الدولة كوهرابين ببعض الحصون هنالك، ومعه أبو الغاري بن أرتق وغيره من الأمراء، وأرسل إلى السلطان محمد ووزيره مؤيد الملك يستحثهما في الوصول، فبعث إليه كربوقا صاحب الموصل وجكرمش صاحب الجزيرة فلم يرضه. وطلب جكرمش العود إلى بلده فأطلقه. ثم نزع كوهرابين ومن معه من الأمراء إلى بركيارق باغزاء كربوقا صاحب الموصل، وكاتبوه فخرج إليهم ودخلوا معه بغداد، واستوزره الأغر أبو المحاسن عَبْد الجليل بن علي بن محمد الدهستاني، وقبض على عميد الدولة ابن جُهير وزير الخليفة وطالبه بأموال ديار بكر والموصل في ولايته وولاية أيه، وصادره على مائة وستين ألف دينار فحملها إليه، وخلع المستظهر على السلطان بركيارق واستقر أمره.

المصاف الأوّل بين بركيارق ومحمد وقتل كوهرابين والخطبة لمحمد:

ثم سار بركيارق من بغداد إلى شهرزور لقتال أخيه محمد، واجتمع إليه عسكر عظيم من التركمان وكاتبه رئيس همذان بالمسير إليه فعدا عنه، ولقي أخاه محمداً على فراسخ من همذان ومحمد في عشرين ألف مقاتل، ومعه الأمير سرخو شحنة أصبهان، وعلى ميمنته أمير آخر وإبنه أياز، وعلى ميسرته مؤيد الملك والنظامية. ومع بركيارق في القلب وزيره أبو المحاسن، وفي ميمنته كوهرابين وصدقة بن مَزْيَد، وسرخاب بن بدر. وفي ميسرة كربوقا وغيره من الأمراء. فحمل كوهرابين من ميمنة بركيارق على ميسرة محمد فانهزموا حتى نهبت خيامهم. ثم حملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق فانهزمت، وحمل محمد معهم فانهزم بركيارق، ورجع كوهرابين للمنهزمين فكبا به فرسه وقتل، وافترقت عساكر بركيارق وأسر وزيره أبو المحاسن فأكرمه مؤيد الملك وأنزله وأعاده إلى بغداد ليخاطب المستظهر في إعادة الخطبة للسلطان محمد ففعل، وخطب له ببغداد منتصف رجب سنة ثلاث وتسعين. وابتداء أمر كوهرابين أنه كان لامرأة بخوزستان، وصار خادماً للملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة. وحظي عنده وكان يستعرض حوائج تلك المرأة، وأصاب أهلها منه خيراً. وأرسله أبو كاليجار مع ولده أبي نصر إلى بغداد، فلما قبض عليه السلطان طغرلبك مضى معه إلى محبسه بقلعة طبرك. ولما مات أبو نصر سار إلى خدمة السلطان ألب أرسلان فحظي عنده وأقطعه واسط، وجعله شحنة بغداد، وكان حاضراً معه يوم قتله يوسف الخوارزمي ووقاه بنفسه. ثم بعثه ابنه ملك شاه إلى بغداد لإحضار الخلع والتقليد، واستقرّ شِحْنة ببغداد إلى أن قتل، ورأى ما لم يره خادم قبله من نفوذ الكلمة وكمال القدرة، وخدمة  الأمراء والأعيان وطاعتهم انتهى.

مصاف بركيارق مع أخيه سنجر:

ولما انهزم السلطان بركيارق من أخيه محمد لحق بالريّ واستدعى شيعته وأنصاره من الأمراء فلحقوا به. ثم ساروا إلى أسفراين، وكاتب الأمير داود حبشر بن التونطاق يستدعيه، وهو صاحب خراسان وطبرستان، ومنزله بالدامغان، فأشار عليه باللحاق بنيسابور حتى يأتيه. فدخل نيسابور وقبض على رؤسائها، ثم أطلقهم، وأساء التصرف. ثم أعاد الكتاب إلى داود حبشي بالاستدعاء فاعتذر بأن السلطان سنجر زحف إليه في عساكر بلخ. ثم سأل منه المدد فسار بركيارق إليه في ألف فارس وهو في عشرين ألفاً والتقوا بسنجر عند النوشجان، وفي ميمنة سنجر الأمير برغش وفي ميسرته كوكر، ومعه في القلب رستم. فمحل بركيارق على رستم فقتله وانهزم أصحابه، ونهب عسكرهم، وكادت الهزيمة تتم عليهم. ثم حمل برغش وكوكر على عسكر بركيارق وهم مشتغلون بالنهب فانهزموا، وانهزم بركيارق. وجاء بعض التركمان بالأمير داود حبشي أسيراً إلى برغش لقتله ولحق بركيارق بجرجان ثم بالدامغان، وقطع البرية إلى أصبهان بمراسلة أهلها فسبقه أخوه محمد إليها فعاد أسيرهم انتهى.

عزل الوزير عميد الدولة بن جهير ووفاته:

قد ذكرنا أن وزير السلطان بركيارق وهو الأغر أبو المحاسن أسر في المصاف الأول بين بركيارق ومحمد، وأن مؤيد الملك بن نظام الملك وزير محمد أطلقه واصطنعه وضمنه عمارة بغداد، وحمله طلب الخطبة لمحمد ببغداد من المستظهر فخطب له، وكان فيما حمله للمستظهر عزل وزيره عميد الدولة بن جهير. وبلغ ذلك عميد الدولة فأرسل من يعترض الأغر ويقتله فامتنع بعقر بابل. ثم صالحه ذلك الذي اعترضه وطلب لقاءه فلقيه ودسّ الأغر إلى أبى الغازي بن ارتق، وكان وصل معه وسبقه إلى بغداد فرجع إليه ليلاً ويئس منه ذلك الذي اعترضه، ووصل الأغر بغداد، وبلغ إلى المستظهر رسالة مؤيد الدولة في عزل عميد الدولة فقبض عليه في رمضان من سنة ثلاث وتسعين، وعلى إخوته، وصودر على خمسة وعشرين ألف دينار، وبقي محبوساً بدار الخلافة إلى أن هلك في محبسه.

المصاف الثاني بين بركيارق وأخيه محمد ومقتل مؤيد الملك والخطبة لبركيارق:

قد ذكرنا أن بركيارق لمّا انهزم أمام أخيه محمد في المصاف الأول سار إلى أصبهان، ولم يدخلها فمضى إلى عسكر مكرم إلى خوزستان وجاءه الأميران زنكي وألبكي ابنا برسق. ثم سار إلى همذان فكاتبه أياز من كبار أمراء محمد بما كان استوحش منه فجاءه في خمسة آلاف فارس، وأغراه باللقاء فارتحل لذلك. ثم استأمن إليه سرخاب بن كنخسرو صاحب آوة فاجتمع له خمسون ألفاً من المقاتلة، وبقي أخوه في خمسة عشر ألفأ. ثم اقتتلوا أول جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين، وأصحاب محمد يغدون على محمد شيئاً فشيئاً مستأمنين. ثم انهزم آخر النهار وأسر وزيره مؤيد الملك، وأحضره عند بركيارق غلام لمجد الملك البارسلاني ثار منه مولاه، فلما حضر وبخه بركيارق وقتله وبعث الوزير أبو المحاسن من يسلم إليه أمواله، وصادر عليها قرابته، في بغداد وفي غير بغداد وفي بلاد العجم. ويقال كان فيما أخذ له قطعة من البلخش زنة إحدى وأربعين مثقالاً. ثم سار بركيارق إلى الري ولقيه هناك كربوقا صاحب الموصل، ونور الدولة دبيس بن صدقة بن مزيد، واجتمعت إليه نحو من مائة ألف فارس حتى ضاقت بهم البلاد ففرق العساكر. وعاد دبيس إلى أبيه، وسار كربوقا إلى أذربيجان لقتال مودود بن إسماعيل بن ياقوتا، كان خرج على السلطان هنالك. وسار أياز إلى همذان ليقضي الصوم عند أهله ويعود فبقي بركيارق في خف من الجنود. وكان محمد أخوه لمّا انهزم لجهات همذان سار إلى شقيقه بخراسان فانتهى إلى جرجان، وبعث يطلب منه المدد فأمده بالمال أولاً. ثم سار إليه بنفسه إلى جرجان، وسار معه إلى الدامغان وخرب عسكر خراسان ما مروا به من البلاد، وانتهوا إلى الريّ، واجتمعت إليهم النظامية، وبلغهم افتراق العساكر عن بركيارق فأغذوا إليه السير فرحل إلى همذان فبلغه أن اياز راسل محمدا فقصد خوزستان وانتهى إلى تستر، واستدعى بني برسق فقعدوا عنه لمّا بلغهم مراسلة أياز للسلطان فسار بركيارق نحو العراق، وكان أياز راسل محمداً في الكون معه فلم يقبله فسار من همذان، ولحق بركيارق إلى حلوان وساروا جميعاً إلى بغداد. واستولى محمد على مخلف أياز بهمذان وحلوان وكان شيئاً مما لا يعبر عنه. وصادر جماعة من أصحاب أياز من أهل همذان، ووصل بركيارق إلى بغداد منتصف ذي القعدة سنة أربع وتسعين، وبعث المستظهر لتلقيه أمين الدولة بن موصلايا في المراكب، وكان بركيارق مريضاً فلزم بيته، وبعث المستظهر في عيد الأضحى إلى داره منبراً خطب عليه بإسمه، وتخلف بركيارق عن شهود العيد لمرضه، وضاقت عليه الأموال فطلب الإعانة من المستظهر، وحمل إليه خمسين ألف دينار بعد المراجعات ومد يده إلى أموال الناس وصادرها فضجوا، وارتكب خطيئةً شنعاء في قاضي جبلة وهو أبو محمد عَبْد الله بن منصور. وكان من خبره أن أباه منصورا كان قاضياً بجبلة في ملكة الروم، فلما ملكها المسلمون وصارت في يد أبي الحسن علي بن عمار صاحب طرابلس أقره على القضاء بها. وتوفي فقام ابنه أبو محمد هذا مقامه، ولبس شعار الجندية وكان شهماً فهمّ ابن عمار بالقبض عليه، وشعر فانتقض وخطب للخلفاء العباسية. وكان ابن عمار يخطب للعلوية بمصر، وطالت منازلة الفرنج بحصن جبلة إلى أن ضجر أبو محمد هذا، وبعث إلى صاحب دمشق وهو يومئذ طغتكين الأتابك أن يسلم إليه البلد فبعث ابنه تاج الملوك موري وتسلم منه البلد، وجاء به إلى دمشق وبذل لهم فيه ابن عمار ثلاثين ألف دينار دون أمواله فلم يرضوا بإخفار ذمتهم وسار عنهم إلى بغداد ولقي بها بركيارق فأحضره الوزير أبو المحاسن وطلبه في ثلاثين ألف دينار فأجاب وأحالهم على منزله بالأنبار، فبعث الوزير من أتاه بجميع ما فيه، وكان لا يعبر فكانت من المنكرات التي أتاها بركيارق. ثم بعث الوزير إلى صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد صاحب حلب يطلب منه ألف ألف دينار متخلفة من مال الجباية، وتهدده عليها فغضب وانتقض وخطب لمحمد، وبعث إليه بركيارق الأمير أياز يستقدمه فلم يجب، وبعث إلى الكوفة وطرد عنها نائب بركيارق واستضافها إليه.

استيلاء محمد على بغداد:

قد ذكرنا استيلاء محمد على همذان في آخر ذي الحجة من سنة أربع وتسعين، ومعه أخوه سنجر. وذهب بركيارق إلى بغداد فاستولى عليها، وأساء السيرة بها،وبلغ الخبر إلى محمد فسار من همذان في عشرة آلاف فارس، ولقيه بحلوان أبو الغازي بن أرتق شحنته ببغداد في عساكره وأتباعه. وكان بركيارق في شدة من المرض، وقد أشرف على الهلاك فاضطرب أصحابه وعبروا به إلى الجانب الغربي حتى إذا وصل محمد بغداد وترآى الجمعان من عُدْوَتَي دجلة ذهب بركيارق وأصحابه إلى واسط، ودخل محمد بغداد، وجاءه توقيع المستظهر بالانتقاض مما وقع به بركيارق، وخطب له على منابر بغداد، وجاءه صدقة بن منصور صاحب الحِلّ فأخرج الناس للقائه ونزل سنجر بدار كوهرابين، واستوزر محمد بعد مؤيد الملك خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين، فقدم إليه في المحرم سنة خمس وتسعين انتهى.

المصاف الثالث والرابع وما تخلل بينهما من الصلح ولم يتم:

ثم ارتحل السلطان وأخوه سنجر عن بغداد منتصف المحّرم من سنة خمس وتسعين، وقصد سنجر خراسان ومحمد همذان فاعترض بركيارق خاص الخليفة المستظهر، وأبلغه القبيح فاستدعى المستظهر محمداً لقتال بركيارق فجاء إليه وقال أنا أكفيكه. ورتب أبا المعالي شحنة ببغداد، وكان بركيارق بواسط كما قلنا فلما أبلّ من مرضه عبر إلى الجانب الشرقي بعد جهد وصعوبة لفرار الناس من واسط لسوء سيرتهم. ثم سار إلى بلاد بني برسق حتى أطاعوا واستقاموا وساروا معه فاتبع أخاه محمداً إلى نهاوند وتصافوا يومين ومنعهما شدّة البرد من القتال. ثم اجتمع أياز والوزير الأغر من عسكر بركيارق وبلد أجي وغيرهم من الأمراء من عسكر محمد. وتفاوضوا في شكوى ما نزل بهم من هذه الفتنة ثم اتفقوا على أن تكون السلطنة بالعراق لبركيارق، ويكون لمحمد من البلاد الحيرة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل على أن يمده بركيارق بالعسكر متى احتاج إليه على من يمتنع عليه منها. وتحالفا على ذلك وافترقا في ربيع الأول سنة خمس وتسعين ثم سار بركيارق إلى ساوة ومحمد إلى قزوين، وبدا له في الصلح واتّهم الأمراء الذين سعوا فيه، وأسر إلى رئيس قزوين أن يدعوهم إلى صنيع عنده، وغدر بهم محمد فقتل بعضا وسمل بعضا وأظهر الفتنة. وكان الأمير ينال بن أنوش تكين قد فارق بركيارق، وأقام مجاهدا للباطنية في الحبال والقلاع فلقي محمداً وسار معه إلى الري، وبلغ الخبر إلى بركيارق فأغذّ إليه السير في ثمان ليال واصطفّوا في التاسع، وكلا الفريقين في عشرة آلاف مقاتل. وحمل سرخاب بن كنجسر والديلمي صاحب آوة من أصحاب بركيارق على ينال بن أنوش تكين فهزمه، وانهزم معه عسكر محمد، وافترقوا فلحق فريق بطبرستان وآخر بقزوين، ولحق محمد بأصبهان في سبعين فارساً، واتّبعه أياز وألبكي بن برسق فنجا إلى البلد وبها نوّابه فلمَّ ما تشعَّث من السور، وكان من بناء علاء الدين بن كاكويه سنة تسع وعشرين لقتال طغرلبك وحفر الخنادق وأبعد مهواها وأجرى فيها المياه، ونصب المجانيق، واستعدّ للحصار. وجاء بركيارق في جمادى ومعه خمسة عشر ألف فارس ومائة ألف من الرجل والأتباع فحاصرها حتى جهدهم الحصار، وعدمت الأقوات والعلوفة فخرج محمد عن البلد في عيد الأضحى من سنته في مائة وخمسين فارساً، ومعه ينال، ونزل في الأمراء، وبعث بركيارق في اتباعه الأمير أياز. وكانت خيل محمد ضامرة من الجوع، فالتفت إلى أياز يذكّره العهود فرجع عنه بعد أن نهب منه خيلًا ومالاً، وأخذ علمه وجنده إلى بركيارق. ثم شد بركيارق في حصار أصبهان وزحف بالسلاليم والذبابات، وجمع الأيدي على الخندق فطمّه، وتعلق الناس بالسور فاستمات أهل البلد ودفعوهم. وعلم بركيارق امتناعها فرحل عنها ثامن عشر ذي الحجة. وجمرّ عسكراً مع إبنه ملكشاه وترشك الصوالي على البلد القديم الذي يسمّى شهرستان، وسار إلى همذان بعد أن كان قتل على أصبهان وزيره الأغر أبو المحاسن عَبْد الجليل الدهستاني، اعترضه في ركوبه من خيمته إلى خدمة السلطان متظلم فطعنه وأشواه، ورجع إلى خيمته فمات وذهب للتجار الذين كانوا يعاملونه أموال عظيمة لأن الجباية كانت ضاقت بالفتن فاحتاج إلى الاستدانة، ونفر منه التجار لذلك. ثم عامله بعضهم فذهب مالهم بموته، وكان أخوه العميد المهذب أبو محمد قد سار إلى بغداد لينوب عنه حين عقد الأمراء الصلح بين بركيارق ومحمد فقبض عليه الشحنة ببغداد أبو الغازي بن أرتق وكان على طاعة محمد.

الشحنة ببغداد والخطبة لبركيارق:

كان أبو الغازي بن أرتق شحنة ببغداد، وولاه عليها السلطان محمد عند استيلائه في المصاف الأول، وكان طريق خراسان إليه فعاد بعض الأيام منها إلى بغداد، وضرب فارس من أصحابه بعض الملاّحين بسهم في ملاحاة وقعت بينهم عند العبور فقتله فثارت بهم العامة وأمسكوا القاتل، وجاؤا به إلى باب النوبة في دار الخلافة ولقيهم ولد أبي الغازي فاستنقذه من أيديهم فرجموه، وجاء إلى أبيه مستغيثاً، وركب إلى محلةالملاّحين فنهبها وعطف عليه العيارون فقتلوا من أصحابه، وركبوا السفين للنجاة فهرب الملاّحون وتركوهم فغرقوا. وجمع أبو الغازي التركماني لنهب الجانب الغربي فبعث إليه المستظهر قاضي القضاة والكيا الهّراسي مدرس النظامية بالامتناع من ذلك فاقتصر أبو الغازي أثناء ذلك متمسكا بطاعة السلطان محمد. فلما انهزم محمد وانطلق من حصار أصبهان واستولى بركيارق على الري بعث في منتصف ربيع الأول من سنة ست وتسعين من همذان كمستكين القيصراني شحنة إلى بغداد. فلما سمع أبو الغازي بعث إلى أخيه سقمان بحصن كيفا يستدعيه للدفاع. وجاءه سقمان ومر بتكريت فنهبها، ووصل كمستكين ولقيه شيعة بركيارق وأشاروا عليه بالمعاجلة، ووصل إلى بغداد منتصف ربيع. وخرج أبو الغازي وأخوه سقمان إلى دجيل ونهبا بعض قراها، واتبعهما طائفة من عسكر كمستكين. ثم رجعوا عنهما وخطب للسلطان بركيارق ببغداد وبعث كمستكين إلى سيف الدولة صدقة بالحلة عنه وعن المستظهر بطاعة بركيارق فلم يجب، وكشف القناع وسار إلى جسر صرصر فقطعت الخطبة على منابر بغداد فلم يذكر أحد عليها من السلاطين، واقتصر على الخليفة فقط. وبعث سيف الدولة صدقة إلى أبي الغازي وسقمان بأنه جاء لنصرتهما فعادوا إلى دجيل وعاثوا في البلاد، واجتمع لذلك حشد العرب والأكراد مع سيف الدولة، وبعث إليه المستظهر في الإصلاح وخيموا جميعاً بالرملة وقاتلهم العامة، وبعث الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني وتاج رؤساء الرياسة ابن الموصلايا إلى سيف الدولة بكف الأيدي عن الفساد فاشترطوا خروج كمستكين القيصراني شحنة بركيارق وإعادة الخطبة للسلطان محمد فتم الأمر على ذلك، وعاد سيف الدولة إلى الحلة وعاد القيصراني إلى واسط، وخطب بها لبركيارق فسار إليه صدقة وأبو الغازي، وفارقها القيصراني فاتبعه سيف الدولة. ثم استأمن ورجع إليه فأكرمه، وخطب للسلطان محمد بواسط، وبعده لسيف الدولة وأبي الغازي واستناب كل واحد ولده، ورجع أبو الغازي إلى بغداد وسيف الدولة إلى الحلة، وبعث ولده منصور إلى المستظهر يخطب رضاه بما كان منه في هذه الحادثة فأجيب إلى ذلك.

استيلاء ينال علي الريّ بدعوة السلطان محمد ومسيره إلى العراق:

كانت الخطبة بالريّ للسلطان بركيارق. فلما خرج السلطان محمد من الحصار بأصبهان، بعث ينال بى أنوش تكين الحسامي إلى الري ليقيم الخطبة له بها فسار ومعه أخوه علي، وعسف الرعايا. ثم بعث السلطان بركيارق إليه برسق بن برسق في العساكر فقاتله على الري، وانهزم ينال وأخوه منتصف ربيع من سنة ست وتسعين، وذهب علي إلى قزوين وسلك ينال على الجبال إلى بغداد، وتقطع أصحابه في الأوعار وقتلوا ووصل إلى بغداد في سبعمائة رجل، وأكرمه المستظهر واجتمع هو وأبو الغازي وسقمان إبنا أرتق بمشهد أبي حنيفة فاستحلفوه على طاعة السلطان محمد، وساروا إلى سيف الدولة صدقة واستحلفوه على ذلك. واستقر ينال ببغداد في طاعة السلطان محمد، وتزوج أخت أبي الغازي كانت تحت تاج الدولة تتش. وعسف بالناس وصادر العمّال، واستطال أصحابه في العامة بالضرب والقتل. وبعث إليه المستظهر مع القاضي الدامغاني بالنهي عن ذلك وتقبيح فعله. ثم مع إيلغازي فأجاب وحلف على كف أصحابه ومنعهم. واستمر على قبح السيرة فبعث المستظهر إلى سيف الدولة صدقة يستدعيه لكف عدوانه فجاء إلى بغداد في شوال من سنة ست وتسعين، وخيم بالمنجمي ودعا ينالا للرحلة عن العراق على أن يدفع إليه. وعاد إلى الحلة، وسار ينال مستهل ذي القعدة إلى أوانا ففعل من النهب والعسف أقبح مما فعل ببغداد فبعث المستظهر إلى صدقة في ذلك فأرسل ألف فارس، وساروا إليه مع جماعة من أصحاب المستظهر، وأبي الغازي الشحنة، وذهب ينال أمامهم إلى أذربيجان قاصداً إلى السلطان محمد، ورجع أبو الغازي والعساكر عنه.

المصاف الخامس بين السلطانين:

كانت كنجة وبلاد أرزن للسلطان محمد وعسكره مقيم بها مع الأمير عز علي فلما طال حصاره بأصبهان جاؤا لنصرته، ومعهم منصور بن نظام الملك ومحمد بن أخيه مؤيد الملك، ووصلوا إلى الري آخر ذي الحجة سنة خمس وتسعين، وفارقه عسكر بركيارق. ثم خرج محمد من أصبهان فساروا إليه ولقوه بهمذان، ومعه ينال وعلي إبنا أنوش تكين فاجتمعوا في ستة آلاف فارس. وسار ينال وأخوه على الريّ وأزعجتهم عنها عساكر بركيارق كما مرّ. ثم جاءهم الخبر في همذان بزحف بركيارق إليهم فسار محمد إلى بلاد شروان. ولما انتهى إلى أردبيل بعث إليه مودود بن إسماعيل بن ياقوتي، وكان أميرا على بيلقان من أذربيجان، وكان أبوه إسماعيل خال بركيارق، وانتقض عليه أول أمره فقتله فكان مودود يطالبه بثأر أبيه، وكانت أخته تحت محمد فبعث إليه وجاءه إلى بيلقان. وتوفي مودود اثر قدومه منتصف ربيع من سنة ست وتسعين فاجتمع عسكره على الطاعة لمحمد، وفيهم سقمان القطبي صاحب خلاط وأرمينية ومحمد بن غاغيسا، كان أبوه صاحب أنْطاكِية. وكان ألب أرسلان ابن السبع الأحمر. ولما بلغ بركيارق اجتماعهم لحربه أغذ السير إليهم فوصل وقاتلهم على باب خوي من أذربيجان من المغرب إلى العشاء. ثم حملا أياز من أصحاب بركيارق على عسكر محمد فانهزموا، وسار إلى خلاط، ومعه سقمان القطبي ولقيه الأمير علي صاحب أرزن الروم. ثم سار إلى<*> وبها منوجهر أخو فضلون الروادي.ثم سار إلى تبريز، ولحق محمد بن يزيد الملك بديار بكر، وسار منها إلى بغداد. وكان من خبره أنه كان مقيما ببغداد مجاورا للمدرسة النظامية فشكا الجيران منه إلى أبيه، فكتب إلى كوهرابين بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة. ثم سار سنة اثنتين وتسعين إلى محمد الملك الباسلاني، وأبوه حينئذ بكنجة عند السلطان محمد قبل أن يدعو لنفسه. ثم سار بعد أن قتل محمد الملك إلى والده مؤيد الملك، وهو وزير السلطان محمد. ثم قتل أبوه واتصل هو بالسلطان، وحضر هذه الحروب كما ذكرنا. وأمَّا السلطان بركيارق بعد هزيمة محمد فإنه نزل جبلا بين مراغة وتبريز، وأقام به حولأ وكان خليفة المستظهر سديد الملك أبو المعالي كما ذكرناه. ثم قبض عليه منتصف رجب سنة ست وتسعين وحبس بدار الخليفة مع أهله كانوا قد وردوا عليه من أصبهان. وسبب عزله جهله بقواعد ديوان الخلافة لأنه كان يتصرف في أعمال السلاطين، وليست فيها هذه القوانين. ولما قبض عاد أمين الدولة أبو سعد بن الموصلايا إلى النظر في الديوان، وبعث المستظهر عن زعيم الرؤساء أبي القاسم بن جهير من الحلّة، وكان ذهب إليها في السنة قبلها مستجيرا بسيف الدولة صدقة، لأن خاله أمين الدولة أبا سعد بن الموصلايا كان الوزير الأعز وزير بركيارق يشيع عنه أنه الذي يحمل المستظهر على موالاة السلطان محمد، والخطبة له دون بركيارق فاعتزل أمين الدولة الديوان، وسار ابن أخته هذا أبو القاسم بن جهير مستجيرا بصاحب الحلّة فاستقدمه الخليفة الآن، وخرج أرباب الدولة لاستقباله، وخلع عليه للوزارة، ولقيه قوام الدولة ثم عزله على رأس المائة الخامسة. واستجار سيف الدولة صدقة بن منصور ببغداد فأجاره وبعث عنه إلى الحلّة وذلك لثلاث سنين ونصف من وزارته، وناب في مكانه القاضي أبو الحسن بن الدامغانى أياماً. ثم استوزر مكانه أبا المعالي بن محمد بن المطلب في المحرم سنة إحدى وخمسمائة. ثم عزله سنة إثنتين بإشارة السلطان محمد، وأعاده بإذنه على شرطية العدل وحسن السيرة، وأن لا يستعمل أحدا من أهل الذمة. ثم عزل في رجب من سنة إثنتين وخمسين، واستوزر أبا القاسم بن جهير سنة تسع وخمسين، واستوزر بعده الربيع أبا منصور بن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان.

الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد.

ولما تطاولت الفتنة بين السلطانين، وكثر النهب والهرج، وخربت القرى، واستطال الأمر عليهم، وكان السلطان بركيارق بالري والخطبة له بها وبالجبل وطبرستان وخوزستان وفارس وديار بكر والجزيرة والحرمين. وكان السلطان محمد بأذربيجان والخطبة له بها وببلاد أرّان وأرمينية وأصبهان والعراق جميعه إلا تكريت. وأمَّا البطائح فبعضها لهذا وبعضها لهذا، والخطبة بالبصرة لهما جميعاً. وأمَّا خراسان من جرجان إلى ما وراء النهر فكان يخطب فيها لسنجر بعد أخيه السلطان محمد. فلما استبصر بركيارق في ذلك، ورأى تحكم الأمراء عليه، وقلة المال، جنح إلى الصلح، وبعث القاضي أبا المظفر الجرجاني الحنفي، وأبا الفرج أحمد بن عَبْد الغفار الهمذاني، المعروف بصاحب قراتكين إلى أخيه محمد في الصلح فوصلا إليه بمراغة وذكراه ووعظاه فأجاب إلى الصلح على أن السلطان لبركيارق، ولا يمنع محمداً من اتخاذ الآلة، ولا يذكر أحد منهما مع صاحبه في الخطبة في البلاد التي صارت إليه، وتكون المكاتبة من وزيريهما في الشؤن لا يكاتب أحدهما الآخر، ولا يعارض أحد من العسكر في الذهاب إلى أيهما شاء ،ويكون للسلطان محمد من نهر استبدرو إلى الأبواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشام، وأن يدخل سيف الدولة صدقة بأعماله في خلفه وبلاده والسلطنة كلها، وبقية الأعمال والبلاد كلها للسلطان بركيارق ،وبعث محمد إلى أصحابه بأصبهان بالإفراج عنها لأصحاب أخيه، وجاؤا بحريم محمد إليه بعد أن دعاهم السلطان بركيارق إلى خدمته فامتنعوا فأكرمهم، وحمل حريم أخيه وزودهم بالأموال، وبعث العساكر في خدمتهم. ثم بعث السلطان بركيارق إلى المستظهر بما استقر عليه الحال في الصلح بينهم، وحضر أبو الغازي بالديوان وهو شحنة محمد وشيعته، إلا أنه وقف مع الصلح فسأل الخطبة لبركيارق فأمر بها المستظهر، وخطب له على منابر بغداد وواسط في جمادى سنة سبع وتسعين، ونكر الأمير صدقة صاحب الحلّة الخطبة لبركيارق، وكان شيعة لمحمد. وكتب إلى الخليفة بالنكير على أبي الغازي، وأنه سائر لإخراجه عن بغداد، فجمع أبو الغازي التركمان، وفارق بغداد إلى عقرقوبا، وجاء سيف الدولة صدقة، ونزل مقابل التاج، وقبل الأرض وخيم بالجانب الغربي. وأرسل إليه أبو الغازي يعتذر عن طاعة بركيارق بالصلح الواقع، وأن إقطاعه بحلوان في جملة بلاده التي وقع الصلح عليها وبغداد التي هو شحنه فيها قد صارت له فقبل ورضى، وعاد إلى الحلّة. وبعث المستظهر في ذي القعدة من سنة سبع وتسعين الخلع للسلطان بركيارق والأمير أياز والخطير وزير بركيارق، وبعث معهما العهد له بالسلطنة، واستحلفه الرسل على طاعة المستظهر ورجعوا.

وفاة السلطان بركيارق وملك ابنه ملك شاه:

كان السلطان بركيارق بعد الصلح وانعقاده أقام بأصبهان أشهراً وطرقه المرض فسارإلى بغداد، فلمّا بلغ بلد يزدجرد اشتدّ مرضه وأقام بها أربعين يوماً حتى أشفى على الموت فأحضر ولده ملك شاه وجماعة الأمراء، وولاّه عهده في السلطنة، وهو ابن خمس سنين وجعل الأمير أياز أتابكه، وأوصاهم بالطاعة لهما، واستحلفهم على ذلك، وأمرهم بالمسير إلى بغداد وتخلّف عنهم ليعود إلى أصبهان فتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين. وبلغ الخبر إلى إبنه ملك شاه والأمير أياز على إثني عشر فرسخا من بلد يزدجرد فرجعوا وحضروا لتجهيزه، وبعثوا به إلى أصبهان للدفن بها في تربة أعدها، وأحضر أياز السرادقات والخيام والخفر والشمسة، وجميع آلات السلطنة فجعلها لملك شاه. وكان أبو الغازي شحنة ببغداد، وقد حضر عند السلطان بركيارق بأصبهان في المحرم وحثه على المسير إلى بغداد، فلما مات بركيارق سار مع إبنه ملك شاه والأمير أياز ووصلوا بغداد منتصف ربيع الآخر في خمسة آلاف فارس، وركب الوزير أبو القاسم علي بن جهير لتلقيهم فلقيهم بديالي، وأحضر أبو الغازي والأمير طمايدل بالديوان وطلبوا الخطبة لملك شاه بن بركيارق فأجاب المستظهر إلى ذلك، وخطب له، ولقب بألقاب جده ملك شاه، ونثرت الدنانير عند الخطبة. 

وصول السلطان محمد إلى بغداد واستبد اده بالسلطنة والخطبة ومقتل أياز:

كان محمد بعد صلحه مع أخيه بركيارق قد اعتزم على المسير إلى الموصل ليتناولها من يد جكرمش لمّا كانت من البلاد التي عقد عليها، وكان بتبريز ينتظر وصول أصحابه من أذربيجان فلما وصلوا استوزر سعد الملك أبا المحاسن لحسن أثره في حفظ أصبهان. ثم رحل في صفر سنة ثمان وتسعين يريد الموصل، وسمع جكرمش فاستعدّ للحصار وأمر أهل السواد بدخول البلد. وجاء محمد فحاصره وبعث إليه كتب أخيه بأن الموصل والجزيرة من قسمته، وأراه أيمانه بذلك، ووعده بأن يقره على ولايتها فقال جكرمش قد جاءتني كتب بركيارق بعد الصلح بخلاف هذا فاشتد محمد في حصاره، وقتل بين الفريقين خلق، ونقب السور ليلة فأصبحوا وأعادوه، ووصل الخبر إلى جكرمش بوفاة بركيارق عاشر جمادى فاستشار أصحابه ورأى المصلحة في طاعة السلطان محمد فأرسل إليه بالطاعة، وأن يدخل إليه وزيره سعد الملك فدخل، وأشار عليه بالحضور عند السلطان فحضر، وأقبل السلطان عليه ورده لجيشه لمّا توقع من ارتياب أهل البلد بخروجه، وأكثر من الهدايا والتحف للسلطان ولوزيره.ولما بلغه وفاة أخيه بركيارق سار إلى بغداد ومعه سقمان القطبي، نسبة إلى قطب الدولة إسماعيل بن ياقوتا بن داود، وداود هو حقربيك وأبو ألب أرسلان، وسار معه جكرمش وصاحب الموصل وغيرهما من الأمراء. وكان سيف الدولة صاحب الحلّة قد جمع عسكراً خمسة عشر ألفاً من الفرسان وعشرة آلاف رجل، وبعث ولديه بدران ودبيس إلى السلطان محمد يستحثه على بغداد. ولما سمع الأميرأياز بقدومه خرج هو وعسكره وخيموا خارج بغداد واستشار أصحابه فصمموا على الحرب، وأشار وزيره أبو المحاسن بطاعة السلطان محمد وخوفه عاقبة خلافه وسفّه آراءهم في حربه، وأطمعه في زيادة الأقطاع. وترددّ أياز في أمره وجمع السفن عنده، وضبط المثار، ووصل السلطان محمد آخر جمادى من سنة ثمان وتسعين، ونزل بالجانب الغربي، وخطب له هنالك، ولملك شاه بالجانب الشرقي. واقتصر خطيب جامع المنصور على الدعاء للمستظهر ولسلطان العالم فقط. وجمع أياز أصحابه لليمين فأبوا من المعاودة وقالوا لا فائدة فيها والوفاء إنما يكون بواحدة فارتاب أياز بهم، وبعث وزيره المصفى أبا المحاسن إلى السلطان محمد فى الصلح، وتسليم الأمر فلقي أوّلاً وزيره سعد الملك أبا المحاسن سعد بن محمد وأخبر فأحضره عند السلطان محمد وأدى رسالة أياز والعذر عما كان منه أيام بركيارق فقبله السلطان وأعتبه،  وأجابه إلى اليمين. وحضر من الغد القاضي والنقيبان واستحلف الكيا الهرّاسي مدرس النظامية بمحضر القاضي- وزير أياز بمحضرهم- لملك شاه، ولأياز وللأمراء الذين معه فقال: أمَّا ملك شاه فهو إبني، وأمَّا أياز والأمراء فأحلف لهم إلا ينال بن أنوش، وسار واستحلفه الكيا الهرّاسي مدرس النظامية بمحضر القاضي والنقيبين. ثم حضر أياز من الغد، ووصل سيف الدولة صدقة وركب السلطان للقائهما وأحسن إليهما، وعمل أياز دعوه في داره وهي دار كوهرابين، وحضر عنده السلطان وأتحفه بأشياء كثيرة منها حبل البلخش الذي كان أخذه من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك. وحضر مع السلطان سيف الدولة صدقة بن مزيد. وكان أياز قد تقدم إلى غلمانه بلبس السلاح ليعرضهم على السلطان، وحضر عندهم بعض الصفاعين فأخذوا معه في السخرية وألبسوه درعا تحت قميصه، وجعلوا يتناولونه بأيديهم فهرب منهم إلى خواص السلطان، ورآه السلطان متسلحا فأمر بعض غلمانه فالتمسوه وقد وجدوا السلاح فارتاب ونهض من ديار أياز. ثم استدعاه بعد أيام ومعه جكرمش وسائر الأمراء فلما حضر وقف عليهم بعض قواده وقال لهم: أن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلمش قصد ديار بكر ليملكما فأشيروا بمن نسيرّ لقتاله فأشاروا جميعاً بالأمير أياز، وطلب هو مسير سيف الدولة صدقة معه فاستدعى أياز وصدقة ليفوضهم في ذلك فنهضوا إليه، وقد أعد جماعة من خواصه لقتل أياز فلما دخلوا ضرب أياز فقطع رأسه ولف شلوه في مشلح وألقي على الطريق، وركب عسكره فنهبوا داره وأرسل السلطان لحمايتها فافترقوا واختفى وزيره. ثم حمل إلى دار الوزير سعد الملك وقتل في رمضان من سنته. وكان من بيت رياسة بهمذان، وكان أياز من مماليك السلطان ملك شاه، وصار بعد موته في جملة أمير آخر فاتخذه ولداً، وكان شجاعا حسن الرأي في الحرب واستبدّ السلطان محمد بالسلطنة وأحسن السيرة، ورفع الضرائب، وكتب بها الألواح ونصبت في الأسواق وعظم فساد التركمان بطريق خراسان، وهي من أعمال العراق فبعث أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد بدل ابن أخيه بهرام بن أرتق على ذلك البلد فحماه وكف الفساد عنه. وسار إلى حصن من أعمال سرخاب بن لدر فحصره وملكه. ثم ولّى السلطان محمد سنقر البرسقي شحنة بالعراق وكان معه في حروبه، وأقطع الأمير قاياز الكوفة، وأمر صدقة صاحب الحلّة أن يحمي أصحابه من خفاجة. ولما كان شهر رمضان من سنة ثمانية وتسعين عاد السلطان محمد إلى أصبهان، وأحسن فيهم السيرة وكف عنهم الأيدي العادية.

الشحنة ببغداد:

كان السلطان قد قبض سنة إثنتين وخمسين على أبي القاسم الحسين بن عَبْد الواحد صاحب المخزن، وعلى بن الفرج بن رئيس الرؤساء واعتقلهما وصادرهما على مال يحملانه، وأرسل مجاهد الدين لقبض المال، وأمره بعمارة دار الملك فاضطلع بعمارتها، وأحسن السيرة في الناس وقدم السلطان أثر ذلك إلى بغداد فشكر سيرته، وولاه شحنة بالعراق وعاد إلى أصبهان.

وفاة السلطان محمد وملك ابنه محمود:

ثم توفي السلطان محمد بن ملك شاه آخر ذي الحجة من سنة إحدى وخمسمائة،و قد كان عهد لولده محمود وهو يومئذ غلام محتلم وأمره بالجلوس على التخت بالتاج والسوارين وذلك لإثنتي عشرة سنة ونصف من استبداده بالملك، واجتماع الناس عليه بعد أخيه. وولى بعده إبنه محمود وبايعه أمراء السلجوقية، ودّبر دولته الوزير الرسب أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير أبيه، وبعث إلى المستظهر في الخطبة فخطب له على منابر بغداد منتصف المحرم سنة إثنتي عشرة، وكان اقسنقر البرسقي مقيما بالرحبة استخلف بها ابنه مسعودا، وسار إلى السلطان محمد يطلب الزيادة ير الأقطاع والولاية. ولقيه خبر وفاته قريباً من بغداد فمنعه بهروز الشحنة من دخولها، وسار إلى أصبهان فلقيه بحلوان توقيع السلطان محمود بأن يكون شحنة بغداد لسعي الأمراء له في ذلك تعصبا على مجاهد الدين بهروز وغيره منه لمكانه عند السلطان محمد. ولما رجع اقسنقر إلى بغداد هرب مجاهد الدين بهروز إلى تكريت وكانت من أعماله. ثم عزل السلطان محمود اقسنقر وولى شحنة بغداد الأمير منكبرس حاكماً في دولته بأصبهان فبعث نائباً عنه ببغداد والعراق الأمير حسين بن أروبك أحد أمراء الأتراك. ورغب البرسقي من المستظهر بالعدة فلم يتوقف فسار اقسنقر إليه وقاتله، وانهزم الأمير حسين وقتل أخوه، وعاد إلى عسكر السلطان وذلك في ربيع الأول من سنه إثنتي عشرة.

وفاة المستظهر وخلافة المسترشد:

ثم توفي المستظهر بالله أبو العبّاس أحمد بن المقتدي بالله أبو القاسم عَبْد الله بن القائم بالله في منتصف ربيع الآخر سنة إثنتي عشرة وخمسمائة لأربع وعشرين سنة وثلاثة أشهر من خلافته، وبويع بعده إبنه المسترشد بالله الفضل، وكان ولي عهده منذ ثلاث وعشرين سنة، وبايعه أخوه أبو عَبْد الله محمد وهو المقتدي، وأبو طالب العباس وعمومته بنو المقتدي وغيرهم من الأمراء والقضاة والأئمة والأعيان. وتولى أخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغاني، وكان نائبأ عن الوزارة فأقره المسترشد عليها، ولم يأخذ البيعة قاض غير هذا للمسترشد، وأحمد بن أبي داود للواثق، والقاضي أبو علي إسماعيل بن إسحاق للمعتضد. ثم عزل المسترشد قاضي القضاة عن نيابة الوزارة واستوزر أبا شجاع محمد بن الرسب أبي منصور، خاطبه أبوه وزير السلطان محمود وإبنه محمد في شأنه فاستوزره. ثم عزله سنة عشر واستوزر مكانه جلال الدين عميد الدولة أبا علي بن صدقة وهو عمّ جلال الدين أبي الرضي بن صدقة وزير الراشد.

ولما شغل الناس ببيعة المسترشد ركب أخوه الأمير أبو الحسن في السفن مع ثلاثة نفر وانحدر إلى المدائن، ومنها إلى الحلّة فأكرمه دبيس، وأهم ذلك المسترشد وبعث إلى دبيس في إعادته مع النقيب علي بن طراد الرثيني فاعتذر بالذمام، وأنه لا يكرهه فخطب النقيب أبا الحسن أخا الخليفة في الرجوع فاعتذر بالخوف، وطلب الأمان. ثم حدث مع البرسقي ودبيس ما نذكره فتأخر ذلك إلى صفر من سنته وهي سنة ثلاث عشرة فسار أبو الحسن ابن المستظهر إلى واسط وملكها، فبادر المسترشد إلى ولاية العهد لإبنه جعفر المنصور ابن إثنتي عشرة سنة، فخطب له وكتب إلى البلاد بذلك، وكتب إلى دبيس بمعاجلة أخيه أبي الحسن فإنه فارق ذمامه فبعث دبيس العساكر إلى واسط فهرب منها، وصادفوه عند الصبح فنهبوا أثقاله وهرب الأكراد والأتراك عنه، وقبض عليه بعض الفرق وجاؤا به إلى دبيس فأكرمه المسترشد وأمّنه وأنزله أحسن نزل.

انتقاض الملك مسعود علي أخيه السلطان محمود ثم مصالحته واستقرار جكرمش شحنة ببغداد:

كان السلطان محمد قد أنزل إبنه مسعوداً بالحلّة، وجعل منه حيوس بك أتابك فلما ملك السلطان محمود بعد وفاة أبيه، ثم ولي المسترشد الخلافة بعد أبيه، وكان دبيس صاحب الحلّة ممرضاً في طاعته، وكان أقسنقر البرسقي شحنة بالعراق كما ذكرناه، أرافى قصد الحلّة وأخلى دبيس عنها، وجمع لذلك جموعاّ من العرب والأكراد وبرزمن بغداد في جمادى سنة إثنتي عشرة، وبلغ الخبر إلى الملك مسعود بالموصل وأن العراق خال من الحامية فأشار عليه أصحابه بقصد العراق للسلطنة فلا مانع دونها فسار في جيوش كثيرة، ومعه وزيره فخر الملك أبو علي بن عمّار صاحب طرابلس، وسيأتي خبره وقسيم الدولة زنكي بن أقسنقر ابن الملك العادل، وصاحب سنجار وأبو الهيجاء صاحب اربل، وكربادي بن خراسان التركماني صاحب البواريخ. ولما قربوا من العراق خافهم أقسنقر البرسقي بمكان حيوس بك من الملك المسعود، وأمَّا هو فقد كان أبوه محمد جعله أتابك لإبنه مسعود فسار البرسقي لقتالهم، وبعثوا إليه الأمير كربادي في الصلح، وأنهم إنما جاؤا بحدّة له على دبيس فقبل، وتعاهدوا ورجعوا إلى بغداد كما مرّ خبره، وسار البرسقي لقتاله فاجتمع مع دبيس بن صدقة واتفقا على المعاضدة، وسار الملك مسعود ومن معه إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس. ثم بلغهم كثرة جموعهما فعاد الملك مسعود والبرسقي وحيوس بك، وعبروا نهر صرصر وحفظ المخاضات وأفحش الطائفتان في نهب السواد واستباحته بنهر الملك، ونهر صرصر ونهر عيسى ودجيل. وبعث المسترشد إلى الملك مسعود والبرسقي بالنكير عليهم فأنكر البرسقي وقوع شيء من ذلك، واعتزم على العود إلى بغداد، وبلغه أن دبيس ومنكرس قد جهز العساكر إليها مع منصور أخي دبيس وحسن بن أوربك ربيب منكبرس فأغذّ السير، وخلف إبنه عز الدين مسعوداً على العسكر بصرصر. واستصحب عماد الدين زنكي بن أقسنقر، وجاؤا بغداد ليلاً  فمنعوا عساكر منكبرس ودبيس من العبور. ثم انعقد الصلح بين منكبرس والملك مسعود، وكان سببه أن حيوس بك كاتب السلطان محمود وهو بالموصل في طلب الزيادة له وللملك مسعود، فجاء كتاب الرسول بأنه أقطعهم أذربيجان. ثم بلغه قصدهم بغداد فاتهمهم بالانتقاض، وجهز العساكر إلى الموصل، وسقط الكتاب بيد منكبرس، وكان على أم الملك مسعود فبعث به إلى حيوس بك، وداخله في الصلح والرجوع عمّا هم فيه فاصطلحوا واتفقوا. وبلغ الخبر إلى البرسقي فجاء إلى الملك مسعود وأخذ ماله وتركه، وعاد إلى بغداد فخيم بجانب منها. وجاء الملك مسعود وحيوس بك فخيما في جانب آخر، وأصعد دبيس ومنكبرس فخيما كذلك، وتفرق عن البرسقي أصحابه وجموعه وسار عن العراق إلى الملك مسعود فأقام معه، واستقر منكبرس شحنة ببغداد وعاد دبيس إلى الحلّة وأساء منكبرس السرة في بغداد بالظلم والعسف، وانطلاق أيدي أصحابه بالفساد حتى ضجر الناس، وبعث عنه السلطان محمود فسار إليه وكفى الناس شرّه.

انتقاض الملك طغرل على أخيه السلطان محمود:

كان الملك طغرل قد أقطعه أبوه السلطان محمد سنة أربع وخمسين وخمسمائة ساوة وآوة وزنجان، وجعل أتابكه الأمير شركير، وكان قد افتتح كثيراً من قلاع الإسماعلية فاتسع ملك طغرل بها، ولما مات السلطان محمد بعث السلطان محمود الأمير كتبغري أتابك طغرل، وأمره أن يحمله إليه، وحسن له المخالفة فانتقض سنة ثلاث عشرة، فبعث إليه السلطان بثلاثين ألف دينار وتحف وودّعه بإقطاع كثيرة، وطلبه في الوصول فمنعه كتبغري وأجاب بأننا في الطاعة، ومعنا العساكر وإلى أيّ جهة أراد السلطان قصدنا. فاعتزم السلطان على السير إليهم، وسار من همذان في جمادى سنة ثلاث عشرة في عشرة آلاف غازياً. وجاء النذير إلى كتبغري بمسيره فأجفل هو وطغرل إلى قلعة سرجهان، وجاء السلطان إلى العسكر بزنجان فنهبه، وأخذ من خزانة طغرل ثلثمائة ألف دينار، وأقام بزنجان وتوجّه منها إلى الريّ وكتبغري من سرجهان بكنجة، وقصده أصحابه وقويت شوكته وتأكدت الوحشة بينه وبين أخيه السلطان محمود.

الفتنة بين السلطان محمود وعمه سنجر صاحب خراسان والخطبة ببغداد لسنجر:

كان الملك سنجر أميراً على خراسان وما وراء النهر منذ أيام شقيقه السلطان محمد الأولي مع بركيارق. ولما توفي السلطان محمد جزع له جزعاً شديداً حتى أغلق البلد للعزاء، وتقدم للخطبة بذكر آثاره ومحاسن سيره من قتال الباطنية وإطلاق المكوس وغير ذلك. وبلغه ملك ابنه محمود مكانه، وتغلب الأمراء عليه فنكر ذلك واعتزم على قصد بلد الجبل والعراق، وأتى له محمود ابن أخيه، وكان يلقب بناصر الدين فتلقب بمعز الدين لقب أبيه ملك شاه. وبعث إليه السلطان محمود بالهدايا والتحف مع شرف الدولة أنو شروان بن خالد، وفخر الدولة طغايرك بن أكفربن، وبذل عن مازندان مائتي ألف دينار كل سنة فتجهز لذلك، ونكر على محمود تغلب وزيره أبي منصور، وأمير حاجب علي بن عمر عليه، وسار وعلى مقدمته الأمير أنز وجهز السلطان محمود عليّ بن عمر حاجبه وحاجب أبيه في عشرة آلاف فارس، وأقام هو بالري فلما قارب الحاجب مقدمّة سنجر مع الأمير أنز بجرجان راسله باللين والخشونة. وأن السلطان محمد أوصانا بتعظيم أخيه سنجر واستحلفنا على ذلك إلا أنا لا نقضي على زوال ملكنا. ثم تهدده بكثرة العساكر وقوتها فرجع أنز عن جرجان، واتبعه بعض العساكر فنالوا منه. وعاد علي بن عمر إلى السلطان محمود فشكره، وأشار عليه أصحابه بالمقام بالري فلم يقبل. ثم ضجر وسار إلى حرقان وتوافت إليه الأمداد من العراق؛ منكبرس شحنة بغداد في عشرة آلاف فارس، ومنصور أخو دبيس، وأمراء البلخية وغيرهم. وسار إلى همذان فأقام بها، وتوفي بها وزيره الربيب، واستوزر مكانه أبا طالب السميري. ثم جاء السلطان سنجر إلى الريّ في عشرين ألفاً وثمانية عشر فيلاً ومعه ابن الأمير أبي الفضل صاحب سجستان وخوارزم شاه محمد، والأمير أنز والأمير قماج،  واتصل به علاء الدولة كرساسف بن قرامرد بن كاكويه صاحب يزد، وكان صهر محمد وسنجر على أختهما. واختص بمحمد ودعاه محمود فتأخر عنه فأقطع بلده لقراجا الساقي الذي ولي بعد ذلك فارس. وسار علاء الدولة إلى سنجر وعرفه حال السلطان محمود، واختلاف أصحابه، وفساد بلاده فزحف إليه السلطان محمود من همذان في ثلاثين ألفاً، ومعه علي بن عمر أمير حاجب ومنكبرس وأتابكه غز غلي وبنو برسق وسنجق البخاري وقراجا الساقي ومعه تسعمائة حمل من السلاح، والتقيا على ساوة في جمادى سنة ثلاث عشرة فانهزمت عساكر السلطان سنجر أولاً، وثبت هو بين الفيلة والسلطان محمود، واجتمع أصحابه إليه. وبلغ الخبر إلى بغداد فأرسل دبيس بن صدقة إلى المسترشد في الخطبة للسلطان سنجر فخطب له آخر جمادى، وقطعت خطبة محمود بعد الهزيمة إلى أصبهان ومعه وزيره أبو طالب السميري والأمير علي بن عمر وقراجا، واجتمعت عليه العساكر وقوي أمره. وسار السلطان سنجر من همذان ورأى قلّة عساكره فراسل ابن أخيه في الصلح، وكانت والدته وهي جدة محمود تحرضه على ذلك فأجاب إليه. ثم وصل إليه أقسنقر البرسقي الذي كان شحنة ببغداد، وكان عند الملك مسعود من يوم انصرافه عنها، وجاء رسوله من عند السلطان محمود بأن الصلح إنما يوافق عليه الأمراء بعد عود السلطان سنجر إلى خراسان فأنف من ذلك، وسار من همذان إلى الكرج، وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح، وأن يكون ولي عهده فأجاب إلى ذلك، وتحالفا عليه. وجاء السلطان محمود إلى عمه سنجر، ونزل في بيت والدته وهي جدة محمود، وحمل إليه هدية حفلة. وكتب السلطان سنجر إلى أعماله بخراسان وغزنة وما وراء النهر وغيرها من الولايات بأن يخطب للسلطان محمود، وكتب إلى بغداد بمثل ذلك، وأعاد عليه جميع البلاد سوى الري لئلا تحدّث محموداً نفسه بالانتقاض.ثم قتل السلطان محمود الأمير منكبرس شحنة بغداد لأنه لمّا انهزم محمود، وسارإلى بغداد ليدخلها منعه دبيس فعاد في البلاد، ورجع وقد استقرّ في الصلح فقصد السلطان مستجيراً به فأبى من إجارته ومؤاخذته، وبعثه إلى السلطان محمود فقتله صبراً لمّا كان يستبد عليه بالأمور. وسار شحنة إلى بغداد على زعمه فحقد له ذلك، وأمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الدين بهروز شحنة بالعراق، وكان بها نائب دبيس بن صدقة فعزل به. ثم قتل السلطان محمود حاجبه علي بن عمر، وكان قد استخلفه ورفع منزلته فكثرت السعاية فيه فهرب إلى قلعة عند الكرج، كان بها أهله وماله. ثم لحق بخوزستان وكان بيد بني برسق فاقتضى عهودهم، وسار إليهم. فلما كان على تستر بعثوا من يقبض عليه فقاتلهم فلم يقّر عنه وأسروه، واستأذنوا السلطان محموداً في أمره فأمر بقتله وحمل رأسه إليه.

انتقاض الملك مسعود علي أخيه السلطان محمود والفتنة بينهما:

كان الملك مسعود قد استقر بالموصل وأذربيجان منذ صالحه السلطان محمود عليها بأوّل ملكه، وكان أقسنقر البرسقي مع الملك مسعود منذ فارق شحنة بغداد، وأقطعه مراغة مضافة إلى الرحبة، وكان دبيس يكاتب حيوس بك الأتابك في القبض عليه وبعثه إلى مولاه السلطان محمود، ويبذل لهم المال على ذلك. وشعر بذلك البرسقي ففارقه إلى السلطان محمود، وعاد إلى جميل رأيه فيه. وكان دبيس مع ذلك يغري الأتابك حيوس بك بالخلاف على السلطان محمود، ويعدهم من نفسه المناصرة لينال باختلافهم في تمهيد سلطانه ما ناله أبوه باختلاف بركيارق ومحمد. وكان أبو المؤيد محمد بن أبي إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني يكتب للملك محمود، ويرسم الطغري وهي العلامة على مراسيمه، ومنها هباته. وجاء والده أبو إسماعيل من أصبهان فعزل الملك مسعود وزيره أبا علي بن عمار صاحب طرابلس، واستوزره مكانه سنة ثلاث عشرة فحسن له الخلاف الذي كان دبيس يكاتبهم فيه ويحسنه لهم. وبلغ السلطان محموداً خبرهم فكتب يحذّرهم فلم يقبلوا وخلعوا، وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة وضربوا له النوب الخمس، وذلك سنة أربع عشرة. وكانت عساكر السلطان محمود مفترقة فبادروا إليه والتقوا في عقبة استراباذ منتصف ربيع الأول، والبرسقي في مقدمة محمود، وأبلى يومئذ واقتتلوا يوماً كاملاً، وانهزمت عساكر مسعود في عشيته وأسر جماعة منهم، وفيهم الوزير الأستاذ أبو إسمعيل الطُّغرائي فأمر السلطان بقتله لسنة من وزارته. وقال هو فاسد العقيدة. وكان حسن الكتابة والشعر، وله تصانيف في الكيمياء. وقصد الملك مسعود بعد الهزيمة جبلاًعلى إثني عشر فرسخاً من مكان الوقعة فاختفى فيه، وبعث يطلب الأمان من أخيه فبعث إليه البرسقي يؤمّنه ويحضره. وكان بعض الأمراء قد لحق به في الجبل وأشار عليه باللحاق بالموصل، واستمد دبيساً فسار لذلك، وأدركه البرسقي على ثلاثين فرسخأ من مكانه وأمنه عن أخيه، وأعاده إليه فأريب العساكر للقائه وبالغ في إكرامه وخلطه بنفسه. وأمَّا أتابكه حيوس بك فلما افتقد السلطان مسعود سار إلى الموصل، وجمع العساكر وبلغه فعل السلطان مع أخيه فسار إلى الزاب. ثم جاء السلطان بهمذان فأمنه وأحسن إليه. وأمَّا دبيس فلما بلغه خبر الهزيمة عاث في البلاد وأخربها وبعث إليه المسترشد بالنكير فلم يقبل فكتب بشأنه إلى السلطان محمود، وخاطبه السلطان في ذلك فلم يقبل، وسار إلى بغداد وخيم إزاء المسترشد، وأظهر أنه يثأر منهم بأبيه. ثم عاد عن بغداد ووصل السلطان في رجب فبعث دبيس إليه زوجته بنت عميد الدولة بن جهير بمال وهدايا نفيسة، وأجيب إلى الصلح على شروط امتنع منها فسار إليه السلطان في شوال ومعه ألف سفينة. ثم استأمن إلى السلطان فأمنه وأرسل نساءه إلى البطيحة. وسار إلى أبي الغازي مستجيراً به، ودخل السلطان الحلة وعاد عنها ولم يزل دبيس عند أبي الغازي. وبعث أخاه منصوراً إلى أصحابه من أمراء النواحي ليصلح حاله مع السلطان فلم يتم ذلك. وبعث إليه أخوه منصور يستدعيه إلى العراق فسار من قلعة جعبر إلى الحلة سنة خمس عشرة وملكها، وأرسل إلى الخليفة والسلطان بالاعتذار والوعد بالطاعة فلم يقبل منه، وسارت إليه العساكر مع سعد الدولة بن تتش ففارق الحلة، ودخلها سعد، وأنزل بالحلة عسكراً وبالكوفة آخر. ثم راجع دبيس الطاعة على أن يرسل، أخاه منصوراً رهينة فقبل، ورجع العسكر إلى بغداد سنة ست عشرة.

اقطاع الموصل للبريقي وميافارقين لأبي الغازي:

ثم أقطع السلطان محمود الموصل وأعمالها والجزيرة وسنجار وما يضاف إلى ذلك للأمير أقسنقر البرسقي شحنة بغداد، وذلك أنه كان ملازماً للسلطان في حروبه ناصحاً له، وهو الذي حمل السلطان مسعوداً على طاعة أخيه محمود، وأحضره عنده فلما حضر حيوس بك وزيره عند السلطان محمود من الموصل بقيت بدون أمير فولى عليها البرسقي سنة خمس عشرة وخمسمائة، وأمره بمجاهدة الفرنج فأقام في إمارتها دهراً هو وبنوه كما يأتي في أخبارهم. ثم بعث الأمير أبو الغازي بن أرتق ابنه حسام الدين تمرتاش شافعاً في دبيس بن صدقة، وأن يضمن الحلّة بألف دينار وفرس في كل يوم ولم يتم ذلك. فلمّا انصرف عن السلطان أقطع أباه أبا الغازي مدينة ميافارقين وتسلّمها من يد سُقمان صاحب خلاط سنة خمس عشرة، وبقيت في يده ويد بنيه إلى أن ملكها منهم صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة كما يذكر في أخبارهم.

طاعة طغرل لأخيه السلطان محمود:

قد تقدم ذكر انتقاض الملك طغرل بساوة وزنجان على أخيه السلطان محمود بمداخلة أتابكه كتبغري، وأن السلطان محمود المشار إليه أزعجه إلى كنجة، وسار إلى أذربيجان يحاول ملكها. ثم توفي أتابكه كتبغري في شوال سنة خمس عشرة، وكان أقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة فطمع في رتبة كتبغري، وسار إلى طغرل واستدعاه إلى مراغة وقصدوا أردبيل فامتنعت عليهم فجاؤا إلى تبريز، وبلغهم أن السلطان اقطع اذربيجان لحيوس بك، وبعثه في العساكر، وأنه سبقهم إلى مراغة فعدلوا عنها وكافؤا صاحب زنجان فأجابهم، وسار معهم إلى أبهر فلم يتم لهم مرادهم، وراسلوا السلطان في الطاعة واستقر حالهم. وأمَّا حيوس بك فوقعت بينه وبين الأمراء من عسكره منافرة فسعوا به عند السلطان فقتله بتبريز في رمضان من سنته، وكان تركيا من مماليك السلطان محمد، وكان حسن السيرة مضطلعاً بالولاية. ولما ولي الموصل والجزيرة كان الأكراد قد عاثوا في نواحيها، وأخافوا سبلها فأوقع بهم وحصر قلاعهم، وفتح الكثير منها ببلد الهكارية وبلد الزوزان وبلد النسوية وبلد النحسة،  حتى خاف الأكراد، واطمأن الناس وأمنت السبل.

أخبار دبيس مع المسترشد:

قد ذكرنا مسير العساكر إلى دبيس مع بُرْسُق الكركوي سنة أربع عشرة، وكيف وقع الاتفاق وبعث دبيس أخاه منصورا رهينه فجاء برتقش به إلى بغداد سنة ست عشرة، ولم يرض المسترشد ذلك، وكتب إلى السلطان محمود بأن دبيس لا يصلحه شيء لأنه مطالب بثأر أبيه، وأشار بأن يبعث عن البرسقي من الموصل لتشديد دبيس، ويكون. شحنة ببغداد فبعث إليه السلطان وأنزله شحنة ببغداد، وأمره بقتال دبيس فأقام عشرين شهراً ودبيس معمل في الخلاف. ثم أمره المسترشد بالمسير إليه، وإخراجه من الحلة فاستقدم البرسقي عساكره من الموصل، وسار إلى الحلّة، ولقيه دبيس فهزم عساكره ورجع إلى بغداد في ربيع من سنة ست عشرة، وكان معه في العسكر مضر بن النفيس بن مذهب الدولة أحمد بن أبي الخير عامل البطيحة، فغدا عليه عمه المظفر بن عماد بن أبي الخير فقتله في انهزامهم. وسار إلى البطيحة فتغلب عليها، وكاتب دبيس في الطاعة، وأرسل دبيس إلى المسترشد بطاعته وأن يبعث عماله لقرى الخاص يقبضون دخلها على أن يقبض المسترشد على وزيره جلال الدين بن علي بن صدقة فتم بينهما ذلك، وقبض المسترشد على وزيره، وهرب ابن أخيه جلال الدين أبو الرضي إلى الموصل، وبلغ الخبر بالهزيمة إلى السلطان محمود فقبض على منصور أخي دبيس، وحبسه، وأذن دبيس لأصحاب الإقطاع بواسط في المسير إلى إقطاعهم فمنعهم الأتراك منها فجهز إليهم عسكراً مع مهلهل بن أبي العسكر. وأمر مظفر بن أبي الخير عامل البطيحة بمساعدته. وبعث البرسقي المدد إلى أهل واسط فلقيهم مهلهل بن أبي المظفر فهزموه وأسروه وجماعة من عسكره واستلحموا كثيرا منهم. وجاء المظفر أبو الخير على أثره، وأكثر النهب والعيث، وبلغه خبر الهزيمة فرجع وبعث أهل واسط بتذكرة وجدوها مع مهلهل بخط دبيس فأمره بالقبض على المظفر فمال إليهم وانحرف عن دبيس، ثم بلغ دبيس أن السلطان محموداً سمل أخاه منصوراً، فانتقض ونهب ما كان للخليفة بأعماله، وسار أهل واسط إلى النعمانّية فأجلوا عنها أصحاب دبيس. وتقدم المسترشد إلى البرسقي بالمسير لحرب دبيس فسار لذلك كما نذكر. ثم أقطع السلطان محمود مدينة واسط للبرسقي مضافة إلى ولاية الموصل فبعث عماد الدين زنكي بن أقسنقر ولد نور الدين العادل.

نكبة الوزير ابن صدقة وولاية نظام الملك:

قد ذكرنا آنفاً أن دبيس اشترط على المسترشد في صلحه معه القبض على وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة فقبض عليه في جمادى سنة ست عشرة، وأقام في نيابة الوزارة شرف الدين علي بن طراد الزينبي. وهرب جلال الدين أبو الرضي ابن أخي الوزير إلى الموصل. وبعث السلطان محمود إلى المسترشد في أن يستوزر نظام الدولة أبا نصر أحمد بن نظام الملك، وكان السلطان محمود قد استوزر أخاه شمس الملك عثمان، عندما قلّ الباطنية بهمذان <*>، وزيره الكمال أبا طالب السميري فقبل المسترشد إشارته، واستوزر نظام الملك، وقد كان وزر للسلطان محمد سنة خمسمائة، ثم عزل ولزم داره ببغداد. فلما وزر وعلم ابن صدقة أنه يخرجه طلب من المسترشد أن يسير إلى سليمان بن مهارش بحديثة غانة، فأذن له فسار ونهب في طريقه وأسر، ثم خلص إلى مأمنه في واقعة عجيبة. ثم قتل السلطان محمود وزيره شمس الملك فعزل المسترشد أخاه نظام الدين أحمد عن وزارته، وأعاد جلال الدين أبا علي بن صدقة إلى مكانه.

واقعة المسترشد مع دبيس:

كان دبيس في واقعته مع البرسقي قد أسر عفيفاً الخادم، ثم أطلقه سنة سبع عشرة، وحمله إلى المسترشد رسالة بخروج البرسقي للقتال يتهدده بذلك على ما بلغه من سمل أخيه، وحلف لينهبن بغداد فاستطار المسترشد غضباً، وأمر البرسقي بالمسير لحربه فسار في رمضان من سنته. ثم تجهز للخليفة وبرز من بغداد واستدعى العساكر فجاءه سليمان بن مهارش صاحب الحديثة في بني عقيل، وقرواش بن مسلم وغيرهما. ونهب دبيس نهر الملك من خاص الخليفة ونودي في بغداد بالنفير فلم يتخلف أحد، وفرقت فيهم الأموال والسلاح وعسكر المسترشد خارج بغداد في عشر ذي الحجة، وبرز لأربع بعدها وعبر دجلة وعليه قباء أسود وعمامة سوداء، وعلى كتفه البردة وفي يده القضيب وفي وسطه منطقة حديد صيني، ووزيره معه نظام الدين، ونقيب الطالبيين ونقيب النقباء علي بن طراد، وشيخ الشيوخ صدر الدين إسماعيل وغيرهم فنزلي بخيمة، وبلغ البرسقي خروجه فعاد بعسكره إليه. ونزل المسترشد بالحديثة بنهر الملك، واستحلف البرسقي والأمراء على المناصحة، وسار فنزل المباركة وعبى البرسقي أصحابه للحرب، ووقف المسترشد وراء العسكر في خاصته، وعبّى دبيس أصحابه صفاً واحداً، وبين يديهم الإماء تعزف وأصحاب الملاهي، وعسكر الخليفة تتجاذب القراءة والتسبيح مع جنباته، ومع أعلامه كرباوي خراسان، وفي الساقة سليمان بن مُهارش. وفي ميمنة البرسقي أبو بكر بن إلياس مع الأمراء البلخية، فحمل عنتر بن أبي العسكر من عسكر دبيس على ميمنة البرسقي فدحرجها، وقتل ابن أخي أبي بكر. ثم حمل ثانية كذلك فحمل عماد الدين زنكي بن أقسنقر في عسكر واسط على عنتر بن أبي العسكر فأسره ومن معه. وكان من عسكر المسترشد كمين متوار، فلما التحم الناس خرج الكمين واشتد الحرب، وجرد المسترشد سيفه وكبر وتقدم فانهزمت عساكر دبيس، وجيء بالأسرى فقتلوا بين يدي الخليفة وسبي نساؤهم، ورجع الخليفة إلى بغداد في عاشوراء من سنة سبع عشرة. وذهب دبيس وخفي أثره، وقصد غزية من العرب فأبوا من ذلك إيثاراً لرضا المسترشد والسلطان، فسار إلى المشقر من البحرين فأجابوه، وسار بهم إلى البصرة فنهبوها وقتلوا أميرها، وتقدم المسترشد للبرسقي بالانحدار إليه بعد أن عنفه على غفلته عنه، وسمع دبيس ففارق البصرة، وبعث البرسقي عليها زنكي بن أقسنقر فأحسن حمايتها وطرد العرب عن نواحيها، ولحق دبيس بالفرنج في جُعْبُر وحاصر معهم حلب فلم يظفروا وأقلعوا عنها سنة ثمان عشرة فلحق دبيس بطغرل ابن السلطان محمد، وأغراه. بالمسترشد، وبملك العراق كما نذكر.

ولاية برتقش شحنة بغداد:

ثم أن المسترشد وقعت بينه وبين البرسقي منافرة فكتب إلى السلطان محمود في عزله عن العراق، وإبعاده إلى الموصل فأجابه إلى ذلك، وأرسل إلى البرسقي بالمسير إلى الموصل لجهاد الإفرنج، وبعث إليه بابن صغير من أولاده يكون معه وولّى على شحنة بغداد برتقش الزكوي، وجاء نائبه إلى بغداد فسلّم إليه البرسقي العمل وسار إلى الموصل بابن السلطان، وبعث إلى عماد الدين زنكي أن يلحق به فسار إلى السلطان، وقدم عليه بالموصل فأكرمه وأقطعه البصرة وأعاده إليها. 

وصول الملك طغرل ودبيس إلى العراق:

قد ذكرنا مسير دبيس بن صدقة من الشام إلى الملك طغرل فأحسن إليه، ورتبه في خاص أمرائه، وجعل دبيس يغريه بالعراق ويضمن له ملكه، فسار لذلك سنة تسع عشرة، ووصلوا دقوقاً، فكتب مجاهد الدين مهروز من تكريت إلى المسترشد بخبرهما فتجهز إلى دفاعهما وسار إليهما. وأمر برتقش الزكوي الشحنة أن يستنفر ويستبعد فبلغت عدة إلعسكر إثني عشر ألفاً سوى أهل بغداد، وبرز خامس صفر سنة تسع عشرة، وسار فنزل الخالص، وعدل طغرل إلى طريق خراسان، وأكثرت عساكره النهب، ونزل رباط جلولاء. وسار إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في العساكر فنزل الدسكرة. وجاء المسترشد فنزل معه، وتوجه طغرل ودبيس فنزلا الهارونية، واتفقا أن يقطعا جسر النهروان فيقيم دبيس على المعابر، ويخالفهم طغرل إلى بغداد، ثم عاقتهم جميعاً عوالق المطر، وأصابت طغرل الحفى، وجاء دبيس إلى النهروان ليعبر، وقد لحقهم الجوع فصادف أحمالاً من البر، والأطعمة جاءت من بغداد للمسترشد فنهبها، وأرجف في معسكر المسترشد أن دبيس ملك بغداد فأجفلوا من الدسكرة إلى النهروان، وتركوا أثقالهم. ولما حلوا بالنهروان وجدوا دبيس وأصحابه نياماً فاستيقظ وقبل الأرض بين يدي المسترشد، وتذلل فهمّ بصلحه، ووصل الوزير ابن صدقة فثناه عن ذلك، ثم مد المسترشد الجسر، وعبر ودخل بغداد لفتنة خمسة وعشرين يوماً. وسار دبيس إلى طغرل؛ ثم اعتزموا على المسير إلى السلطان سنجر، ومروا بهمذان فعاثوا في أعمالها وصادروا، واتبعهم السلطان فانهزموا بين يديه، ولحقوا بالسلطان سنجر شاكين من المسترشد والشحنة برتقش.

الفتنة بين المسترشد والسلطان محمود:

ثم وقعت بين برتقش الزكوي وبين نواب المسترشد نبوة فبعث إليه المسترشد يتهدّده فخافه على نفسه، وسار إلى السلطان محمود في رجب سنة عشرين فحذر منه، وأنه ثاور العساكر ولقي الحروب وقويت نفسه، وأشار بمعاجلته قبل أن يستفحل أمره، ويمتنع عليه فسار السلطان نحو العراق، فبعث إليه المسترشد بالرجوع عن البلاد لمّا فيها من الغلاء من فتنة دبيس، وبذل له المال، وأن يسير إلى العراق مرة أخرى؛ فارتاب السلطان وصدق ما ظنه برتقش وأغذ السير فعبر المسترشد إلى الجانب الغربي مغضباً يظهر الرحيل عن بغداد إذ قصدها السلطان. وصانعه السلطان بالاستعطاف وسؤاله في العود فأبى فغضب السلطان ودخل نحو بغداد.وأقام المسترشد بالجانب الغربي وبعث عفيفاً الخادم من خواصه في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان، فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن أقسنقر وكان على البصرة كما ذكرناه فسار إليه وهزمه، وقتل من عسكره، ونجا عفيف إلى المسترشد برأسه فجمع المسترشد السفن وسد أبواب دار الخلافة إلا باب النوبي، ووصل السلطان في عشر ذي الحجة من سنة عشرين، ونزل باب الشماسية، ومنع العسكر عن دور الناس. وراسل المسترشد في العود والصلح فأبى، ونجا جماعة من عسكر السلطان فنهبوا التاج في أول المحرم سنة إحدى وعشرين فضج العامة لذلك، واجتمعوا وخرج المسترشد والشماسية على رأسه والوزير بين يديه، وأمر بضرب الطبول ونفخ الأبواق، ونادى بأعلى صوته يا لهاشم ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحدة. وكان في الدار رجال مختفون في السراديب فخرجوا على العسكر، وهم مشتغلون في نهب الدار فأسروا جماعة منهم، ونهب العامة دور أصحاب السلطان. وعبر المسترشد إلى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد وأمر بحفر الخنادق فحفرت ليلاً، ومنعوا بغداد عنهم، واعتزموا على كبس السلطان محمود. وجاء عماد الدين زنكي من البصرة في حشود عظيمة ملأت البر والبحر فاعتزم السلطان على قتال بغداد. واذعن المسترشد إلى الصلح فاصطلحوا، وأقام السلطان ببغداد إلى ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين، ومرض فأشير عليه بمفارقة بغداد فارتحل إلى همذان، ونظر فيمن يوليه شحنة العراق مضافاً إلى ما بيده، ويثق به في مد تلك الخلّة. وحمل إليه الخليفة عند رحيله الهدايا والتحف الألطاف فقبل جميعها. ولما أبعد السلطان عن بغداد قبض على وزيره أبي القاسم علي بن الناصر النشاباذي لاتهامه بممالأة المسترشد، واستوزر مكانه شرف الدين أنو شروان بن خالد، وكان مقيماً ببغداد فاستدعاه وأهدى إليه الناس حتى الخليفة. وسار من بغداد في شعبان فوصل إلى السلطان بأصبهان وخلع عليه، ثم استعفى لعشرة أشهر، وعاد إلى بغداد ولم يزل الوزير أبو القاسم محبوساً إلى أن جاء السلطان سنجر إلى الري في السنة بعدها فأطلقه وأعاده إلى وزارة السلطان.

أخبار دبيس مع السلطان سنجر:

لمّا وصل دبيس إلى السلطان سنجر، ومعه طغرل أغرياه بالمسترشد والسلطان محمود، وأنهما عاصيان عليه، وسهلا عليه أمر العراق فسار إلى الري واستدعى السلطان محموداً يختبر طاعته بذلك فبادر للقائه. ولما وصل أمر سنجر العساكر فتلقوه وأجلسه معه على سريره، وأقام عنده مدة وأوصاه بدبيس أن يعيده إلى بلده، ورجع سنجر إلى خراسان منتصف ذي الحجة ورجع محمود إلى همذان ودبيس معه. ثم سار إلى بغداد فقدمها في تاسوعاء سنة ثلاث وعشرين، واسترضى المسترشد لدبيس فرضي عنه، على شريطة أن يوليه غير الحلّة فبذل في الموصل مائة ألف دينار. وشعر بذلك زنكي فجاء بنفسه إلى السلطان وهجم على الستر متذمما، وحمل الهدايا، وبذل مائة ألف فأعاده السلطان إلى الموصل، وأعاد بهروز شحنة على بغداد، وجعلت الحلّة لنظره.وسار السلطان إلى همذان في جمادى سنة ثلاث وعشرين، ثم مرض السلطان فلحق دبيس بالعراق، وحشد المسترشد لمدافعته، وهرب بهروز من الحلة فدخلها دبيس في رمضان من سنة ثلاث وعشرين. وبعث السلطان في أثره الأميرين اللذين ضمناه له، وهما كزل والأحمديلي؛  فلما سمع دبيس بهما أرسل إلى المسترشد يستعطفه، وتردد الرسل، وهو يجمع الأموال والرجال حتى بلغ عسكره عشرة آلاف، ووصل الأحمديلي بغداد في شوال، وسار في أثر دبيس. ثم جاء السلطان إلى العراق فبعث إليه دبيس بالهدايا، وبذل الأموال على الرضى فأبى، ووصل إلى بغداد، ودخل دبيس البرية، وقصد البصرة فأخذ ما كان فيها للخليفة والسلطان، وجاءت العساكر في اتباعه فدخل البرية انتهى.

وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود ثم منازعته عمومته واستقلال مسعود:

ثم توفي السلطان محمود في شوال من سنة خمس وعشرين، لثلاث عشرة سنة من ملكه، واتفق وزيره أبو القاسم النشاباذي، وأتابكه أقسنقر الأحمديلي على ولاية ابنه داود مكانه، وخطب له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان، ووقعت الفتنة بهمذان ونواحيها. ثم سكنت فسار الوزير بأمواله إلى الري ليأمن في أياله  السلطان سنجر، ثم أن الملك داود سار في ذي القعدة من سنة خمس وعشرين من همذان إلى ربكان، وبعث إلى المسترشد ببغداد في الخطبة، وأتاه الخبر بأن عمه مسعوداً سار من جرجان إلى تبريز، وملكها فسار إليه وحصره في تبريز إلى سلخ المحرم من سنة ست وعشرين، ثم اصطلحا وأفرج داود عن تبريز، وخرج السلطان مسعود منها، واجتمعت عليه العساكر فانتقض وسار إلى همذان. وأرسل إلى المسترشد في الخطبة فأجابهم جميعاً بأن الخطبة للسلطان سنجر صاحب خراسان، ويعين بعده من يراه. وبعث إلى سنجر بأن الخطبة إنما ينبغي أن تكون لك وحدك فوقع ذلك منه أحسن موقع، وكاتب السلطان منه أحسن موقع؛ وكاتب السلطان مسعود عماد الدين زنكي صاحب الموصل فأجابه، وسار إليه وانتهى إلى المعشوق. وبينما هم في ذلك إذ ثار قراجا الساقي صاحب فارس وخوزستان بالملك سلجوق شاه ابن السلطان محمد، وكان أتابكه فدخل بغداد في عسكر كبير، ونزل دار السلطان، واستخلفه المسترشد لنفسه، ووصل مسعود إلى عباسة فبرزوا للقائه، وجاءهم خبر عماد الدين زنكي فعبر قراجا إلى الجانب الغربي للقائه، وواقعه فهزمه، وسار منهزماً إلى تكريت، وبها يومئذ نجم الدين أيوب أبو السلطان صلاح الدين فهيأ له الجسر للعبور، وعبر فأمن وسار لوجهه. وجاء السلطان مسعود من العباسة للقاء أخيه سلجوق ومن معه مدلاً بمكان زنكي وعسكره من ورائهم، وبلغه خبر انهزامهم فنكص على عقبه، وراسل المسترشد بأن السلطان سنجر وصل إلي وطلب الاتفاق من المسترشد وأخيه سلجوق شاه قراجا على قتال سنجر، على أن يكون العراق للمسترشد يتصرف فيه نوابه، والسلطنة لمسعود وسلجوق شاه ولي عهده فأجابوه إلى ذلك، وجاء إلى بغداد في جمادى الأولى سنة ست وعشرين، وتعاهدوا على ذلك.

واقعة مسعود مع سنجر وهزيمته وسلطنة طغرل:

لمّا توفي السلطان محمود، وولي ابنه داود مكانه، نكر ذلك عمه السلطان سنجر عليهم، وسار إلى بلاد الجبل، ومعه طغرل ابن أخيه السلطان محمد، كان عنده منذ وصوله مع دبيس فوصل إلى الري، ثم إلى همذان؛ وسار السلطان مسعود وأخوه سلجوق وقراجا الساقي أتابك سلجوق للقائه. وكان المسترشد قد عاهدهم على الخروج وألزموه ذلك؛ ثم أن السلطان سنجر بعث إلى دبيس، وأقطعه الحلة وأمره بالمسير إلى بغداد، وبعث إلى عماد الدين زنكي بولاية شحنكية بغداد، والسير إليها فبلغ المسترشد خبر مسيرهما فرجع لمدافعتهما.وسار السلطان مسعود وأصحابه للقاء السلطان سنجر، ونزل استراباذ في مائة ألف من العسكر فخاموا عن لقائه، ورجعوا أربع مراحل فأتبعهم سنجر، وتراءى الجمعان عند الدينور ثامن رجب، فاقتتلوا، وعلى ميمنة مسعود قراجا الساقي وكزل، وعلى ميسرته برتقش باردار، ويوسف حاروس فحمل قراجا الساقي في عشرة آلاف على السلطان سنجر، حتى تورط في مصافه فانعطفوا عليه من الجانبين، وأخذ أسيراً بعد جراحات. وانهزم مسعود وأصحابه، وقتل بعضهم، وفيهم يومئذ يوسف حاروس، وأسر آخرون، فيهم قراجا فأحضر عند السلطان سنجر فوبخه، ثم أمر بقتله. وجاء السلطان مسعود إليه فأكرمه، وعاتبه على مخالفته، وأعاده أميراً إلى كنجة. وولى الملك طغرل ابن أخيه محمداً في السلطنة وجعل وزيره أبا القاسم النشاباذي وزير السلطان محمود، وعاد إلى خراسان، ووصل نيسابور في عاشر رمضان من سنته. وأمَّا الخليفة فرجع إلى بغداد كما قلناه لمدافعة دبيس وزنكي، وبلغه الخبر بهزيمة السلطان مسعود فعبر إلى الجانب الغربي، وسار إلى العباسة، ولقيهما بحصن البرامكة آخر رجب. وكان في ميمنته جمال الدولة إقبال، وفي ميسرته مطر الخادم فانهزم إقبال لحملة زنكي، وحمل الخليفة ومطر على دبيس فانهزم، وتبعه زنكي فاستمرت الهزيمة عليهم وافترقوا، ومضى دبيس إلى الحلّة وكانت بيد إقبال، وجاءه المدد من بغداد فلقي دبيس وهزمه، ثم تخلص بعد الجهد، وقصد واسط وأطاعه عسكرها إلى أن خلت سنة سبع وعشرين، فجاءهم إقبال وبرتقش باردار، وزحفوا في العساكر براً وبحراً فانهزمت أهل واسط.ولما استقر طغرل بالسلطنة وعاد عمه سنجر إلى خراسان لخلاف أحمد خان صاحب ما وراء النهر عليه، وكان داود ببلاد أذربيجان وكنجة فانتقض وجمع العساكر، وسار إلى همذان وبرز إليه طغرل وفي ميمنته ابن برسق وفي ميسرته كزل وفي مقدمته أقسنقر. وسار إليه داود في ميمنته برتقش الزكوي والتقيا في رمضان سنة ست وعشرين فأمسك برتقش عن القتال، واستراب التركمان منه فنهبوا خيمته، واضطرب عسكر داود لذلك فهرب أتابكه أقسنقر الأحمديلي، واستمرت الهزيمة عليهم وأسر برتقش الزكوي، ومضى داود ثم قدم بغداد، ومعه أتابكه أقسنقر الأحمديلي فأنزله الخليفة بدار السلطان وأكرمه.ولما بلغ السلطان مسعوداً هزيمة داود ووصوله إلى بغداد، قدم إليها وخرج داود لتلقيه، وترجل له عن فرسه، ونزل مسعود بدار السلطنة في صفر سنة سبع وعشرين، وخطب له على منابر بغداد ولداود بعده، واتفقا مع المسترشد بالسير إلى أذربيجان، وأن يمدهما، وسارا لذلك، وملك مسعود سائر بلاد أذربيجان، وحاصر جماعة من الأمراء بأردبيل، ثم  هزمهم وقتل منهم، وسار إلى همذان وبرز أخو طغرل للقائه فانهزم، واستولى مسعود على همذان، وقتل أقسنقر، قتله الباطنية، ويقال بدسيسة السلطان محمود. ولما انهزم طغرل قصد الرى، وبلغ قم، ثم عاد إلى أصبهان ليمتنع بها، وسار أخوه مسعود للحصار فارتاب طغرل بأهل أصبهان، وسار إلى بلاد فارس فاتبعه مسعود، واستأمن إليه بعض أمراء طغرل فارتاب بالباقين، وانهزم إلى الرى في رمضان من سنة"، واتبعه مسعود فلحقه بالرفي، وقاتله فانهزم طغرل وأسر جماعة من أمرائه، وعاد مسعود إلى همذان ظافرا وعندما قصد طغرل الري من فارس، قتل في طريقه وزيره أبا القاسم النشاباذي، في شوّال من سنته لموجدة وجدها عليه.

مسير المسترشد لحصار الموصل:

لمّا انهزم عماد الدين زنكي أمام المسترشد كما قلنا لحق بالموصل، وشغل سلاطين السلجوقية في همذان بالخلف الواقع بينهم، ولجأ جماعة من أمراء السلجوقية إلى بغداد فراراً من الفتنة فقوي بهم المسترشد، وبعث إلى عماد الدين زنكي بعض شيوخ الصوفّية من حضرته فأغلظ في الموعظة فأهانه زنكي وحبسه، فاعتزم المسترشد على حصار الموصل، وبعث بذلك إلى السلطان مسعود، وسار من بغداد منتصف شعبان سنة سبع وعشرين في ثلاثين ألف مقاتل. ولما قارب الموصل فارقها زنكي ونزل بها نائبه نصير الدين حقر، ولحق بسنجر وأقام يقطع المدد والميرة عن عسكر المسترشد، حتى ضاقت بهم الأمور، وحاصرها المسترشد ثلاثة أشهر فامتنعت عليه، ورحل عائداً إلى بغداد فوصل يوم عرفة من سنته، يقال أن مطراً الخادم جاء من عسكر السلطان مسعود لأنه قاصد العراق فارتحل لذلك.

مصاف طغرل ومسعود وانهزام مسعود:

ولما عاد مسعود إلى همذان بعد انهزام أخيه طغرل، بلغه انتقاض داود ابن أخيه محمود بأذربيجان فسار إليه وحصره ببعض قلاعها فخالفه طغرل إلى بلاد الجبل واجتمعت عليه العساكر ففتح كثيراً من البلاد، وقصد مسعودا وانتهى إلى قزوين فسار مسعود للقائه، وهرب من عسكره جماعة كان طغرل قد داخلهم واستمالهم فولى مسعود منهزماً آخر رمضان سنة ثمان وعشرين، واستأذن المسترشد في دخول بغداد وكان نائبه بأصبهان البقش السلامي، ومعه أخوه سلجوق شاه، فلما بلغهم خبر الهزيمة لحقوا ببغداد، ونزل سلجوق بدار السلطان، وبعث إليه الخليفة بعشرة آلاف دينار. ثم قدم مسعود بعدهم ولقي في طريقه شدة وأصحابه بين راجلين وركاب فبعث إليهم المسترشد بالمقام والخيام والأموال والثياب والآلات، وقرب إليهم المنازل، ونزل مسعود بدار السلطنة ببغداد منتصف شوال سنة ثمان، وأقام طغرل بهمذان.

وفاة طغرل واستيلاء السلطان مسعود:

ولما وصل مسعود إلى بغداد أكرمه المسترشد، ووعده بالمسير معه لقتال أخيه طغرل، وأزاح علل عسكره واستحثه لذلك، وكان جماعة من أمراء السلجوقية قد ضجروا من الفتنة، ولحقوا بالمسترشد فساروا معه، ودس إليهم طغرل بالمواعيد فارتاب المسترشد ببعضهم، وأطلع على كتاب طغرل إليه، وقبض عليه، ونهب ماله فلحق الباقون بالسلطان، وبعث فيهم المسترشد فمنعهم السلطان فحدثت بينهم الوحشة لذلك، وبعث السلطان إلى الخليفة يلزمه المسير معه، وبيناهما على ذلك إذ جاءه الخبر بوفاة طغرل، في المحرّم من سنة تسع وعشرين، فسار السلطان مسعود إلى همذان، وأقبلت إليه العساكر فاستولى عليها، وأطاعه أهل البلاد، واستوزر شرف الدين أنو شروان خالداً، وكان قد سار معه بأهله.

فتنة السلطان مسعود مع المسترشد:

لمّا استولى السلطان مسعود على همذان استوحش منه جماعة من أعيان الأمراء، منهم برتقش وكزل وسنقر والي همذان، وعبد الرحمن بن طغرلبك ففارقوه ودبيس بن صدقة معهم، واستأمنوا إلى الخليفة، ولحقوا بخوزستان وتعاهدوا مع برسق على طاعة المسترشد، وحذر المسترشد من دبيس وبعث شديد الدولة بن الأنباري الأمان للأمراء دون دبيس، ورجع دبيس إلى السلطان مسعود. وسار الأمراء إلى بغداد فأكرمهم المسترشد، واشتدت وحشة السلطان مسعود لذلك، ومنافرته للمسترشد فاعتزم المسترشد على قتاله، وبرز من بغداد في عاشر رجب، وأقام بالشفيع وعصى عليه صاحب البصرة فلم يجبه، وأمراء السلجوقية الذين بقوا معه يحرضونه على المسير فبعث مقدمته إلى حلوان. ثم سار من شعبان واستخلف على العراق إقبالاً خادمه في ثلاثة آلاف فارس، ولحقه برسق بن برسق فبلغ عسكره سبعة آلاف فارس، وكان أصحاب الأعراب يكاتبون المسترشد بالطاعة فاستصلحهم مسعود، ولحقوا به، وبلغ عكسره خمسة عشر ألفاً. وتسفل إليه كثير من عكسر المسترشد حتى بقي في خمسة آلاف، وبعث إليه داود ابن السلطان محمود من أذربيجان بأن يقصد الدينور ليلقاه بها بعسكره فجفل للقاء السلطان مسعود، وسار وفي ميمنته برتقش بارداروكور الدولة سنقر وكزل وبرسق بن برسق، وفي ميسرته جاولي برسقي، وسراب سلار وأغلبك الذي كان قبض عليه من أمراء السلجوقية بموافقتهم السلطان، وكان ذلك عاشر رمضان سنة تسع وعشرين. وانحازت ميسرة المسترشد إليه وانطبقت عساكره عليه، وانهزم أصحاب المسترشد وأخذ هو أسيراً بموكبه، وفيهم الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي، وقاضي القضاة والخطباء والفقهاء والشهود وغيرهم. وأنزل المسترشد في خيمة، وحبس الباقون بقلعة سرحاب، وعاد السلطان إلى همذان، وبعث الأمير بك آي المحمدي إلى بغداد شحنة فوصل سلخ رمضان، ومعه عميد فقبضوا أملاك الخليفة، وأخذوا غلاته، وضج الناس ببغداد وبكوا على خليفتهم، وأعول النساء، ثم عمد العامّة إلى المنبر فكسروه، ومنعوا من الخطبة وتعاقبوا في الأسواق يحثون التراب على رؤسهم، وقاتلوا أصحاب الشحنة فأثخن فيهم بالقتل وهرب الوالي والحاجب وعظمت الفتنة، ثم بلغ السلطان في شوّال أن داود ابن أخيه محمود عصى عليه بالمراغة، فسار لقتاله، والمسترشد معه، وتردّد الرسل بينهما في الصلح.

مقتل المسترشد وخلافة الراشد:

قد ذكرنا مسير المسترشد مع السلطان مسعود إلى مراغة، وهو في خيمة موكل به. وترددت الرسل بينهما وتقرر الصلح، على أن يحمل مالاً للسلطان، ولا يجمع العساكر لحرب ولا فتنة، ولا يخرج من داره فانعقد على ذلك بينهما، وركب المسترشد، وحملت الغاشية بين يديه، وهو على العود إلى بغداد فوصل الخبر بموافاة رسول من السلطان سنجر فتأخر مسيره لذلك، وركب السلطان مسعود للقاء الرسول، وكانت خيمة المسترشد منفردة عن العسكر فدخل عليه عشرون رجلاً أو يزيدون من الباطنّية فقتلوه وجدعوه وصلبوه، وذلك سابع عشر ذي القعدة من سنة تسع وعشرين، لسبع عشرة ونصف من خلافته. وقتل الرجال الذين قتلوه وبويع إبنه أبو جعفر، بعهد أبيه إليه بذلك فجددت له البيعة ببغداد في ملأ من الناس، وكان إقبال خادم المسترشد في بغداد فلمّا وقعت هذه الحادثة عبر إلى الجانب الغربي، وأصعد إلى تكريت، ونزل على مجاهد الدين بهروز. ثم بعد مقتل المسترشد بأيام قتل دبيس بنصدقةعلى باب سرادقة بظاهر مدينة خويّ، أمر السلطان مسعود غلاماً أرمنياً بقتله فوقف على رأسه فضربه، وأسقط رأسه، واجتمع إلى أبيه صدقة بالحِلّة عساكره ومماليكه، واستأمن إليه قطلغ تكين، وأمر السلطان مسعود بك آي شحنة بغداد، فأخذ الحلة من يد صدقة فبعث بعض عساكره إلى المدائن، وخام عن لقائه حتى قدم السلطان إلى بغداد سنة إحدى وثلاثين فقصده وصالحه ولزم بابه.

الفتنة بين الراشد والسلطان مسعود ولحاقه بالموصل وخلعه:

وبعد بيعة الراشد واستقراره في الخلافة وصل برتقش الزكويّ من عند السلطان محمود، يطلب من الراشد ما استقر على أبيه من المال أيام كونه عندهم، وهو أربعمائة ألف دينار فأجابه بأنه لم يخلف شيئا وأن ماله كان معه فنهب. ثم نمي إلى الراشد أن برتقش تهجم على دار الخلافة وفتش المال فجمع الراشد العساكر وأصلح السور، ثم ركب برتقش ومعه الأمراء البلخية وجاؤا لهجم الدار، وقاتلهم عسكر الخليفة والعامة فساروا إلى طريق خراسان، وانحدر بك آي إلى خراسان، وسار برتقش إلى البند هجين، ونهبت العامة دار السلطان والراشد، واشتدت الوحشة بين السلطان والراشد، وانحرف الناس عن طاعة السلطان إلى الخليفة، وسار داود ابن السلطان في عسكر أذربيجان إلى بغداد، ونزل بدار السلطان في صفر من سنة ثلاثين.ووصل عماد الدين زنكي من الموصل، ووصل برتقش باردار صاحب قزوين، والبقش الكبير صاحب أصبهان، وصدقة بن دبيس صاحب الحلّة، وابن برسق وابن الأحمديلي، وجفل الملك داود برتقش باردار شحنة ببغداد، وقبض الراشد على ناصح الدولة أبي عَبْد الله الحسن بن جهير استادار، وعلى جمال الدين اقبال. وكان قدم إليه من تكريت فتنكر له أصحابه وخانوه، وشفع زنكي في إقبال الخادم فأطلقه وصار عنده وخرج الوزير جلال الدين أبو الرضا بن صدقة لتلقي زنكي فأقام عنده. ثم شفع فيه وأعاده إلى وزارته ولحق قاضي القضاة الزينبي بزنكي أيضاً وسار معه إلى الموصل، ووصل سلجوق شاه إلى واسط وقبض بها بك آي ونهب ماله فانحدر زنكي إليه وصالحه ورجع إلى بغداد.ثم سار السلطان داود نحو طريق خراسان ومعه زنكي لقتال السلطان مسعود، وبرز الراشد أوّل رمضان وسار إلى طريق خراسان، ورجع بعد ثلاث وأرسل إلى داود والأمراء بالعود، وقتال مسعود من وراء السور، وراسلهم مسعود بالطاعة والموافقة فأبوا، وتبعهم الخليفة في ذلك. وجاء مسعود فنزل على بغداد وحصرهم فيها، وثار العيارون وكثر الهرج وأقاموا كذلك نيفاً وخمسين، وامتنعوا وأقلع السلطان عنهم. ثم وصله طرنطاني صاحب واسط بالسفن فعاد وعبر إلى الجانب الغربي فاضطرب الراشد وأصحابه، وعاد داود إلى بلاده، وكان زنكي بالجانب الغربي فعبر إليه الراشد وسار معه إلى الموصل، ودخل السلطان مسعود بغداد منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين، وأمّن الناس. واستدعى القضاة والفقهاء والشهود وعرض عليهم يمين الراشد بخطّه: إني متى جندت جنداً وخرجت ولقيت أحداً من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر فأفتوا بخلعه. ووافقهم على ذلك أصحاب المناصب والولايات، واتفقوا على ذمه فتقدم السلطان لخلعه، وقطعت خطبته ببغداد وسائر البلاد في ذي القعدة من سنة ثلاثين لسنة من خلافته.

خلافة المقتفي:

ولما قطعت خطبة الراشد استشار السلطان مسعود أعيان بغداد فيمن يوليه فأشاروا بمحمد بن المستظهر فقدم إليهم بعمل محضر في خلع الراشد، وذكروا ما ارتكبه من أخذ الأموال ومن الأفعال القادحة في الإمامة، وختموا آخر المحضر بأن من هذه صفته لا يصلح أن يكون إماماً. وحضر القاضي أبو طاهر بن الكرخي فشهدوا عنده بذلك وحكم بخلعه، ونفذه القضاة الآخرون وكان قاضي القضاة غائباً عند زنكي بالموصل، وحضر السلطان دار الخلافة ومعه الوزير شرف الدين الزينبي وصاحب المخزن ابن العسقلاني، وأحضر أبو عَبْد الله بن المستظهر فدخل إليه السلطان والوزير واستخلفاه. ثم أدخلوا الأمراء وأرباب المناصب والقضاة والفقهاء فبايعوه ثامن عشر ذي الحجة ولقبوه المقتفي. واستوزر شرف الدين علي بن طراد الزينبي وبعث كتاب الحكم بخلع الراشد إلى الآفاق، وأحضر قاضي القضاة أبا القاسم علي بن الحسين فأعاده إلى منصبه، وكمال الدين حمزة بن طلحة صاحب المخزن كذلك.

فتنة السلطان مسعود مع داود واجتماع داود للراشد للحرب ومقتل الراشد:

ولما بويع للمقتفي والسلطان مسعود ببغداد، بعث عساكره يطلب الملك داود فلقيه عند مراغة فانهزم داود وملك قراسنقر أذربيجان. ثم قصد داود خوزستان، واجتمع عليه من عساكر التركمان وغيرهم نحو عشرة آلاف مقاتل، وحاصر تستر وكان السلطان سلجوق شاه بواسط بعث إلى أخيه مسعود يستنجده فأنجده بالعساكر، وسار إلى تستر فقاتله داود وهزمه. وكان السلطان مسعود مقيماً في بغداد مخافة أن يقصد الراشد العراق من الموصل، وكان قد بعث لزنكي فخطب للمقتفي في رجب سنة إحدى وثلاثين، وسار الراشد من الموصل فلما بلغ خبر مسيره إلى السلطان مسعود أذن للعسكر في العود إلى بلادهم، وانصرف صدقة بن دبيس صاحب الحلة بعد أن زوجه إبنته. ثم قدم على السلطان مسعود جماعة الأمراء الذين كانوا مع الملك داود مثل البقش السلامي وبرسق بن برسق صاحب تستر وسنقر خمارتكين شحنة همذان فرضي عنهم، وولى البقش شحنة ببغداد فظلم الناس وعسفهم. ولما فارق الراشد زنكي من الموصل وسار إلى أذربيجان وانتهى إلى مراغة، وكان بوزابة وعبد الرحمن طغرلبك صاحب خلخال والملك، وداود ابن السلطان محمود خائفين من السلطان مسعود فاجتمعوا إلى منكبرس  صاحب فارس، وتعاهدوا على بيعة داود، وأن يردّوا الراشد إلى الخلافة فأجابهم الراشد إلى ذلك، وبلغ الخبر إلى السلطان فسار من بغداد في شعبان سنة إثنتين وثلاثين، وبلغهم قبل وصوله وصول الراشد إليهم فقاتلهم بخوزستان فانهزموا وأشر منكبرس صاحب فارس فقتله السلطان مسعود صبراً، وافترقت عساكره للنهب وفي طلب المنهزمين، ورآه بوزابة وعبد الرحمن طغرلبك في فل من الجنود فحملوا عليه، وقتل بوزابة جماعة من الأمراء منهم صدقة بن دبيس وابن قراسنقر الأتابك صاحب أذربيجان وعنتر بن أبي العسكر وغيرهم، كان قبض عليهم لأول الهزيمة وأمسكهم عنده. فلما بلغه قتل منكبرس قتلهم جميعاً، وانصرف العسكران منهزمين، وقصد مسعود أذربيجان وداود همذان. وجاء إليه الراشد بعد الوقعة وأشار بوزابة، وكان كبير القوم، بمسيرهم، فسار بهم إلى فارس فملكها وأضافها إلى خوزستان. وسار سلجوق شاه ابن السلطان مسعود ليملكها فدافعه عنها البقش الشحنة ومطر الخادم أمير الحاج، وثار العيارون أيام تلك الحرب، وعظم الهرج ببغداد، ورحل الناس عنها إلى البلاد. فلما انصرف سلجوق شاه واستقر البقش الشحنة فتك فيهم بالقتل والصلب. ولما قتل صدقة بن دبيس ولى السلطان على الحلة محمداً أخاه وجعل معه مهلهلاً أخا عنتر بن أبي العسكر يدبره. ولما وصل الراشد والملك داود إلى خوزستان مع الأمراء على ما ذكرنا وملكوا فارس، ساروا إلى العراق، ومعهم خوارزم شاه. فلما قاربوا الجزيرة خرج السلطان مسعود لمدافعتهم فافترقوا، ومضى الملك داود إلى فارس وخوارزم شاه إلى بلاده، وبقي الراشد وحده فسار إلى أصبهان فوثب عليه في طريقه نفر من الخراسانية الذين كانوا في خدمته فقتلوه في القيلولة خامس عشر رمضان سنة إثنتين وثلاثين، ودفن بشهرستان ظاهر أصبهان. وعظم أمر هذه الفتنة، واختلفت الأحوال والمواسم، وانقطعت كسوة الكعبة في هذه السنة من دار الخلافة من قبل السلاطين، حتى قام بكسوتها تاجر فارسي من المترددين إلى الهند، أنفق فبها ثمانية عشر ألف دينار مصرية، وكثر الهرج من العيارين حتى ركب زعماؤهم الخيول وجمعوا الجموع، وتستر الوالي ببغداد بلباس ابن أخيه سراويل الفتوة عن زعيمهم ليدخل في جملتهم، وحتى هم زعيمهم بنقش إسمه في سكة بانبار فحاول الشحنة والوزير على قتله فقتل، ونسب أمر العيارين إلى البقش الشحنة لمّا أحدث من الظلم والعسف فقبض عليه  السلطان مسعود وحبسه بتكريت عند مجاهد الدين بهروز، ثم أمر بقتله فقتل. ثم قدم السلطان مسعود في ربيع سنة ثلاث وثلاثين في الشتاء، وكان يشتي بالعراق ويصيف بالجبال. فلما قدم أزال المكوس وكتب بذلك في الألواح فنصبت في الأسواق وعلى أبواب الجامع ورفع عن العامة نزول الجند عليهم فكثر الدعاء له والثناء عليه.

وزارة الخليفة:

وفي سنة أربع وثلاثين. وقع بين المقتفي ووزيره علي بن طراد الزينبي وحشة بما كان يعترض على المقتفي في أمره فخاف واستجار بالسلطان مسعود فأجاره، وشفع إلى المقتفي في إعادته فامتنع وأسقط إسمه من الكتب، واستناب المقتفي ابن عمه قاضي القضاة والزينبي، ثم عزله واستناب شديد الدولة الأنباري. ثم وصل السلطان إلى بغداد سنة ست وثلاثين فوجد الوزير شرف الدين الزينبي في داره فبعث وزيره إلى المقتفي شفيعاً في إطلاق سبيله إلى بيته فأذن له انتهى.

الشحنة ببغداد:

وفي سنة ست وثلاثين عزل مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد، وولى كزل أميراً آخر من مماليك السلطان محمود، فكان على البصرة فأضيف إليه شحنكية بغداد، ولما وصل السلطان مسعود إلى بغداد ورأى تبسط العيارين وفسادهم أعاد بهروز شحنة، ولم ينتفع الناس بذلك لأن العيارين كانوا يتمسكون بالجاه من أهل الدولة فلا يقدر بهروز على منعهم، وكان ابن الوزير وابن قاروت صهر السلطان يقاسمانهم فيما يأخذون من النهب. واتفق سنة ثمان وثمانين أن السلطان أرسل نائب الشحنكية ووبخه على فساد العيارين فأخبره بشأن صهره وابن وزيره فأقسم ليصلبنه أن لم يصلبهما فأخذ خاتمه على ذلك، وقبض على صهره ابن قاروت فصلبه، وهرب ابن الوزير، وقبض على أكثر العيارين وافترقوا وكفى الناس شرهم.

انتقاض الأعياض واستبداد الأمراء علي الأمير مسعود وقتله إياهم:

وفي سنة أربعين سار بوزابة صاحب فارس وخوزستان وعساكره إلى قاشان ومعه الملك محمد ابن السلطان محمود، واتصل بهم الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد، ولقي بوزابة الأمير عباس صاحب الري وتآمرا في الانتقاض على السلطان مسعود، وملكا كثيراً من بلاده فسار السلطان مسعود عن بغداد، ونزل بها الأمير مهلهل والخادم مطر وجماعة من غلمان بهروز. وسار معه الأمير عَبْد الرحمن طغرلبك، وكان حاجبه ومتحكماً في دولته، وكان هواه مع ذينك الملكين فسار السلطان وعبد الرحمن حتى تقارب العسكران فلقي سليمان شاه أخاه مسعوداً فحنق عليه، وجرى عَبْد الرحمن في الصلح بين الفريقين، وأضيفت وظيفة أذربيجان وأرمينية إلى ما بيده. وسار أبو الفتح بن هزارشب وزير السلطان مسعود ومعه وزيبر بوزابة فاستبدوا على السلطان وحجروه عن التصرف فيما يريده، وكان بك أرسلان بن بلنكري المعروف بخاص بك خالصة للسلطان بما كان من تربيته فداخلوه واستولوا به على هوى السلطان بكل معنى. وكان صاحب خلخال وبعض أذربيجان فلما عظم تحكمه أسر السلطان إلى خاص بك بقتل عَبْد الرحمن فدس ذلك إلى جماعة من الأمراء وقتلوه في موكبه، ضربه بعضهم بمقرعة حديد فسقط إلى الأرض ميتاً، وبلغ إلى السلطان مسعود ببغداد ومعه عباس صاحب الري في عسكر أكثر من عسكره فامتعض لذلك فتلطف له السلطان، واستدعاه إلى داره فلما انفرد عن غلمانه أمر به فقتل. وكان عباس من غلمان السلطان محمود وولي الري، وجاهد الباطنية وحسنت آثاره فيهم. وكان مقتله في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين. ثم حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت، وبلغ مقتل عباس إلى بوزاية فجمع عساكره من فارس وخوزستان، وسار إلى أصبهان فحاصرها، ثم سار إلى السلطان مسعود والتقيا بمرج قراتكين فقتل بوزابة قيل بسهم أصابه، وقيل أخذ أسيراً وقتل صبراً وانهزمت عساكره إلى همذان وخراسان.

انتقاض الأمراء ثانية على السلطان:

ولما قتل السلطان من قتل من أمرائه استخلص الأمير خاص بك وأنفذ كلمته في الدولة، ورفع منزلته فحسده كثير من الأمراء وخافوا غائلته وساروا نحو العراق وهم ايلدكر المسعودي صاحب كنجة وارانية وقيصر والبقش كون صاحب أعمال الجبل وقتل الحاجب وطرنطاي المحمودي شحنة واسط وابن طغابرك. ولما بلغوا حلوان خاف الناس بأعمال العراق وعني المقتفي بإصلاح السور، وبعث إليهم بالنهي عن القدوم فلم ينتهوا ووصلوا في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين، والملك محمد ابن السلطان محمود معهم، ونزلوا بالجانب الشرقي، وفارق مسعود جلال الشحنة ببغداد إلى تكريت، ووصل إليهم علي بن دبيس صاحب الحلة، ونزل بالجانب الغربي. وجند المقتفي أجناداً وقتلوهم مع العامة فكانوا يستطردون للعامة والجند حتى يبعدوا، ثم يكرون عليهم فيثخنوا فيهم. ثم كثر عيثهم ونهبهم. ثم اجتمعوا مقابل التاج وقبلوا الأرض واعتذروا وترددت الرسل، ورحلوا إلى النهروان. وعاد مسعود جلال الشحنة من تكريت إلى بغداد، وافترق هؤلاء الأمراء وفارقوا العراق، والسلطان مع ذلك مقيم ببلد الجبل. وأرسل عمه سنجر إلى الري سنة أربع وأربعين فبادر إليه مسعود وترضاه فأعتبه وقبل عذره. ثم جاءت سنة أربع وأربعين جماعة أخرى من الأمراء وهم البقش كون والطرنطاي وابن دبيس وملك شاه ابن السلطان محمود فراسلوا المقتفي في الخطبة لملك شاه فلم يجبهم، وجمع العساكر وحصن بغداد وكاتب السلطان مسعوداً بالوصول إلى بغداد فشغله عمه سنجر إلى الري. ولما علم البقش مراسلة المقتفي إلى مسعود نهب النهروان، وقبض على علي بن دبيس وهرب الطرنطاي إلى النعمانية ووصل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف شوّال، ورحل البقش كون من النهروان وأطلق ابن دبيس.

وزارة المقتفي:

وفي سنة أربع وأربعين استوزر المقتفي يحيى بن هبيرة، وكان صاحب ديوان الزمام، وظهرت منه كفاية في حصار بغداد فاستوزره المقتفي.

وفاة السلطان مسعود وملك ملك شاه ابن أخيه محمود:

ثم توفي السلطان مسعود أول رجب سنة سبع وأربعين وخمسمائة، لإحدى وعشرين سنة من بيعته، وعشرين من عوده بعد منازعة إخوته. وكان خاص بك بن سلمكرى متغلباً على دولته فبايع لملك شاه ابن أخيه السلطان محمود، وخطب له بالسلطنة في همذان، وكان هذا السلطان مسعود آخر ملوك السلجوقية عن بغداد. وبعث السلطان ملك شاه الأمير شكاركرد في عساكر إلى الحلّة فدخلها، وسار إليه مسعود جلال الشحنة، وأظهر له الاتفاق. ثم قبض عليه وغرقه واستبد بالحلّة. وأظهر المقتفي إليه العساكر مع الوزير عون الدولة والدين بن هبيرة فعبر الشحنة إليهم الفرات، وقاتلهم فانهزموا. وثار أهل الحلة بدعوة المقتفي ومنعوا الشحنة من الدخول فعاد إلى تكريت. ودخل ابن هبيرة الحلة، وبعث العساكر إلى الكوفة وواسط فملكوها، وجاءت عساكر السلطان إلى واسط فغلبوا عليها عسكر المقتفي فتجهز بنفسه، وانتزعها من ايديهم، وسار منها إلى الحلة. ثم عاد إلى بغداد في عشر ذي القعدة. ثم إن خاص بك المتغلب على السلطان ملك شاه استوحش وتنكر وأراد الاستبداد فبعث عن الملك محمد ابن السلطان محمد بخوزستان سنة ثمان وأربعين فبايعة أول صفر، وأهدى إليه وهو مضمر الفتك، فسبقه السلطان محمد لذلك، وقتله ثاني يوم البيعة إيد غدي التركماني المعروف بشملة من أصحاب خاص بك، ونهاه عن دخوله إلى السلطان محمد، فلم يقبل. فلما قتل خاص بك نهب شملة عسكره، ولحق بخوزستان. وكان خاص بك صبيا من التركمان اتصل بالسلطان مسعود واستخلصه وقدمه على سائر الأمراء.

حروب المقتفي مع أهل الخلاف وحصار البلاد:

ثم بعث المقتفي عساكره لحصار تكريت مع ابن الوزير عون الدين والأمير ترشك من خواصه وغيرهما، ووقع بينه وبين ابن الوزير منافرة خشي لها ترشك على نفسه فصالح الشحنة صاحب تكريت، وقبض على ابن الوزير والأمراء، وحبسهم صاحب تكريت وغرق كثير منهم. وسار ترشك والشحنة إلى طريق خراسان فعاثوا فيها، وخرج المقتفي في اتباعهم فهربا بين يديه، ووصل تكريت وحاصرها أياماً. ثم رجع إلى بغداد، وبعث سنة تسع وأربعين بتكريت في ابن الوزير وغيره من المأسورين فقبض على الرسول فبعث إليهم عسكراً فامتنعوا عليه. فسار المقتفي بنفسه في صفر من سنته، وملك تكريت، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها، ورجع في ربيع. ثم بعث الوزير عون الدين في العساكر لحصارها، واستكثر من الآلات، وضيق عليها. ثم بلغه الخبر بأن شحنة مسعود وترشك وصلا في العساكر ومعهم الأمير البقش كون وأنهما استحثا الملك محمداً لقصد العراق فلم يتهيأ له فبعث هذا العسكر معهم، وانضاف إليهم خلق كثير من التركمان فسار المقتفي للقائهم. وبعث الشحنة مسعود عن أرسلان ابن السلطان طغرل بن محمد، وكان محبوساً بتكريت فأحضره عنه ليقاتل به المقتفي، والتقوا عند عقر بابل فتنازلوا ثمانية عشر يوماً، ثم تناجزوا آخر رجب فانهزمت ميمنة المقتفي إلى بغداد، ونهبت خزائنه، وثبت هو واشتد القتال وانهزمت عساكر العجم، وظفر المقتفي بهم، وغنم أموال التركمان وسبى نساءهم وأولادهم. ولحق البقش كون ببلد المحلو وقلعة المهاكين وأرسلان بن طغرل، ورجع المقتفي إلى بغداد أول شعبان. وقصد مسعود الشحنة وترشك بلد واسط للعيث فيها فبعث المقتفي الوزير ابن هبيرة في العساكر فهزمهم. ثم عاد فلقيه المقتفي سلطان العراق وأرسلان بن طغرل، وبعث إليه السلطان محمد في إحضاره عنده. ومات البقش في رمضان من سنته وبقي أرسلان مع ابن البقش، وحسن الخازنداد فحملاه إلى الجبل ثم سارا به إلى الركن زوج أمه، وهو أبو البهلوان وأرسلان وطغرل الذي قتله خوارزم شاه، وكان آخر السلجوقية ثلاثتهم أخوة لأم. ثم سار المقتفي سنة خمسين إلى دقوقا فحاصرها أياماً، ثم رجع عنها لأنه بلغه أن عسكر الموصل تجهز لمدافعته عنها فرحل.

استيلاء شملة على خوزستان:

قد ذكرنا من قبل شأن شملة وأنه من التركمان، وإسمه ايدغدي، وأنه كان من أصحاب خاص بك التركماني، وهرب يوم قتل السلطان محمد صاحبه خاص بك بعد أن حذره منه فلم يقبل، ونجا من الواقعة فجمع جموعاً وسار يريد خوزستان، وصاحبها يومئذ ملك شاه ابن السلطان محمود بن محمد. وبعث المقتفي عساكره لذلك فلقيهم شملة في رجب وهزمهم وأسر وجوههم. ثم أطلقهم وبعث إلى الخليفة يعتذر فقبل عذره، وسار إلى خوزستان فملكها من يد ملك شاه ابن السلطان محمود.

إشارة إلي بعض أخبار السلطان سنجر بخوزستان ومبل أ دولة بني خوارزم شاه:

كان السلطان سنجر من ولد السلطان ملك شاه لصلبه، ولما استولى بركيارق بن ملك شاه على خوزستان سنة تسعين وأربعمائة من يد عمه أرسلان أرغون، كما نذكر في أخبارهم عند تفردها مستوفى، ولى عليها أخاه سنجر، وولى على خوارزم محمد بن أنوش تكين من قبل الأمير داود حبشي بن أليوساق. ثم لمّا ظهر السلطان محمد ونازع بركيارق وتعاقبا في الملك، وكان سنجر شقيقاً لمحمد فولاه على خراسان، ولم يزل عليها. ولما اختلف أولاد محمد من بغده كان عقيد أمرهم وصاحب شوراهم إذ خلف له ببغداد مقدما إسمه على اسم سلطان العراق منهم سنة <*>، ثم خرجت أمم الخطا من الترك من مفازة الصين وملكوا ما وراء النهر من يد الجابية ملوك تركستان سنة ست وثلاثين كما نذكر في أخبارهم.

وسار سنجر لمدافعتهم فهزموه فوهن لذلك فاستبدّ عليه خوارزم شاه بعض الشيء. وكان الخلفاء لمّا ملكوا بلاد تركستان أزعجوا الغز عنها إلى خراسان وهم بقية السلجوقية هناك. وأجاز السلجوقية لأول دولتهم إلى خراسان فملكوها، وبقي هؤلاء الغز بنواحي تركستان فأجازوا أمام الخطا إلى خراسان، وأقاموا السلطان بها حتى عتوا ونموا. ثم كثر عيثهم وفسادهم وسار إليهم السلطان سنجر سنة ثمان وأربعين فهزموه واستولوا عليه وأسروه، وملكوا بلاد خراسان وافترق أمراؤه على النواحي. ثم ملكوه وهو أسير في أيديهم ذريعة لنهب البلاد واستولوا به على كثير منها، وهرب من أيديهم سنة إحدى وخمسين ولم يقدر على مدافعتهم. ثم توفي سنة إثنتين وخمسين وافترقت بلاد خراسان على أمرائه كما يذكر في أخبارهم. ثم تغلب بنو خوارزم شاه عليها كلها وعلى أصبهان والري من ورائها، وعلى أعمال غزنة من يد بني سبكتكين، وشاركهم فيها النور بعض الشيعة وقام بنو خوارزم شاه مقام السلجوقية إلى أن انقرضت دولتهم على يد جنكزخان ملك التتر من أمم الترك في أوائل المائة السابعة كما يذكر ذلك كله في أخبار كل منهم عندما نفردها بالذكر إن شاء الله تعالى.

الخطبة ببغداد لسليمان شاه ابن السلطان محمد وحروبه مع السلطان محمد بن محمود:

كان سليمان بن محمد عند عمّه سنجر بخراسان منذ أعوام، وقد جعله وليّ عهده، وخطب له بخراسان. فلما غلب الغّز على سنجر وأسروه تقدم سليمان شاه على العساكر، ثم غلبتهم الغّز فلحق بخوارزم شاه فصاهره أولاً بابنة أخيه، ثم تنكر فسار إلى أصبهان فمنعه شحنتها من الدخول فسار إلى قاشان فبعث إليه السلطان محمد شاه بن محمود فقصد اللحف، ونزل على السيد محسن، وبعث إلى المقتفي ليستأذنه في القدوم، وبعث زوجته وولده رهناً على الطاعة والمناصحة فأذن له، وقدم في خفّ من العساكر ثلثمائة أو نحوها، وأخرج الوزير عون الدين بن هبيرة ولده لتلقيه، ومعه قاضي القضاة والنقباء، ودخل وعلى رأسه الشمسية، وخلع عليه. ولما كان المحرم من سنة إحدى وخمسين حضر عند المقتفي بمحضر قاضي القضاة وأعيان العباسيين واستحلفه على الطاعة، وأن لا يتعرض للعراق. ثم خطب له ببغداد وبلقب أبيه السلطان محمد، وبعث عسكراً نحو ثلاثة آلاف، واستقدم داود صاحب الحلّة فجعل له أمر الحجابة، وسار نحو الجبل في ربيع. وسار المقتفي إلى حلوان، وسار إلى ملك شاه بن محمود أخي سليمان صاحب خوزستان فاستحلفه لسليمان شاه وجعله ولي عهده، وأمدهما بالمال والأسلحة، وساروا إلى همذان وأصبهان، وجاءهم المذكر صاحب بلاد أران فكثر جمعهم وبلغ خبرهم السلطان محمد بن محمود فبعث إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل، ونائبه زين الدين ليستنجدهما فأجاباه، وسار للقاء سليمان شاه، وأصحابه فالتقوا في جمادى، وانهزم سليمان شاه، وافترقت عساكره. وسار المذكر إلى بلاده، وسار سليمان شاه إلى بغداد، وسلك على شهرزور فاعترضه زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين بالموصل، وكان مقطع شهرزور الأمير بران من جهة زين الدين فاعترضاه وأخذاه أسيرأ، وحمل زين الدين إلى الموصل فحبسه بقلعتها وبعث إلى السلطان محمد بالخبر.

حصار السلطان محمد بغداد

كان السلطان محمد قد بعث إلى المقتفي في الخطبة له ببغداد فامتنع من إجابته، ثم بايع لعمّه سليمان، وخطب له وكان ما قدمناه من أمره معه. ثم سار السلطان محمد من همذان في العساكر نحو العراق فقدم في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، وجاءته عساكر الموصل مدداً من قبل قطب الدين ونائبه زين الدين، واضطربت الناس ببغداد، وأرسل المقتفي عن فضلوبواش صاحب واسط فجاء في عسكره، وملك مهلهل الحلّة فاهتّم ابن هبيرة بأمر الحصار، وجمع السفن تحت الناحي، وقطع الجسر، وأجفل الناس من الجانب الغربي، ونقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة. وفرّق المقتفي السلاح في الجند والعامّة، ومكثوا أياماً يقتتلون ومد لسلطان جسراً على دجلة فعبر على الجانب الشرقي حتى كان القتال في الجانبين. ونفذت الأقوات في العسكر، واشتدّ القتال والحصار على أهل بغداد لانقطاع الميرة والظهر من عسكر الموصل، لأنّ نور الدين محمود بن زنكي وهو أخو قطب الدين الأكبر بعث إلى زين الدين يلومه على قتال الخليفة. ثم بلغ السلطان محمداً أن أخاه ملك شاه والمذكر صاحب بلاد أرّان، وأرسلان ابن الملك طغرل بن محمد ساروا إلى همذان وملكوها فارتحل عن بغداد في آخر ربيع سنة إثنتين وخمسين. وسار إلى همذان، وعاد زين الدين كوجك إلى الموصل. ولما قصد السلطان محمد همذان صار ملك شاه والمذكر ومن معهما إلى الري فقاتلهم شحنتها آبنايخ وهزموه، وأمده السلطان محمد بالأمير سقمان بن قيمار فسار لذلك ولقيهما منصرفين عن الرى قاصدين بغداد فقاتلهما، وانهزم أمامهما فسار السلطان في أثرهما إلى خوزستان، فلما انتهى إلى حلوان جاءه الخبر بأن المذكر بالدّينور، وبعث إليه آبنايخ بأنه استولى على همذان وأعاد خطبته فيها فافترقت جموع ملك شاه والمذكر، وفارقهم شملة صاحب خوزستان فعادوا هاربين إلى بلادهم، وعاد السلطان محمد إلى همذان.

حروب المقتفي مع أهل النواحي:

كان سنقر الهمذاني صاحب اللحف، وكان في هذه الفتنة قد نهب سواد بغداد وطريق خراسان فسار المقتفي لحربه في جمادى سنة ثلاث وخمسين، وضمن له الأمير خلطوا براس إصلاحه فسار إليه خاله، على أن يشرك المقتفي معه في بلد اللحف الأمير أزغش المسترشدي فأقطعها لهما جميعاً ورجع. ثم عاد سنقر على أزغش وأخرجه، وانفرد ببلده، وخطب للسلطان محمد فسار إليه خلطوا براس من بغداد في العساكر وهزمه، وملك اللحف، وسار سنقر إلى قلعة الماهكي للأمير قايماز العميدي، ونزلها في أربعمائة ألف فارس. ثم سار إليه سنقر سنة أربع وخمسين فهزمه، ورجع إلى بغداد فخرج المقتفي إلى النعمانية، وبعث العساكر مع ترشك فهرب سنقر في الجبال، ونهب ترشك مخلفه، وحاصر قلعة الماهكي. ثم عاد إلى البندنجين وبعث بالخبر إلى بغداد، ولحق سنقر بملك شاه فأمده بخمسمائة فارس، وبعث ترشك إلى المقتفي في المدد فأمدّه وبعث إليه سنقر في الإصلاح فحبس رسوله، وسار إليه فهزمه، واستباح عسكره ونجا سنقر جريحاً إلى بلاد العجم فأقام بها. ثم جاء بها سنة أربع وخمسين إلى بغداد، وألقى نفسه تحت التاج فرضي عنه المقتفي، وأذن له في دخول دار الخلافة. ثم زحف إلى قايماز السلطان في ناحية بادرايا سنة ثلاث وخمسين فهزمه وقتله، وبعث المقتفي عساكره لقتال شملة فلحق بملك شاه.

وفاة السلطان محمد بن محمود وملك عمه سلطان شاه ثم أرسلان بن طغرل:

ثم أن السلطان محمد بن محمود بن ملك شاه لمّا رجع عن حصار بغداد أصابه مرض السل وطال به، وتوفي بهمذان في ذي الحجة سنة أربع وخمسين لسبع سنين ونصف من ملكه، وكان له ولد فيئس من طاعة الناس له، ودفعه لأقسنقر الأحمديلي، وأوصاه عليه فرحل به إلى مراغة. ولما مات السلطان محمد اختلف الأمر فيمن يولونه، ومال الأكثر إلى سليمان شاه عمه وطائفة إلى ملك شاه أخيه، وطائفة إلى أرسلان ابن السلطان طغرل الذي مع إلدكز ببلاد أرّان. وبادر ملكشاه أخوه فسار من خوزستان ومعه شملة التركماني ودكلا صاحب فارس، ورحل إلى أصبهان فأطاعه ابن الخجندي وأنفق عليه الأموال. وبعث إلى عساكر همذان في الطاعة فلم يجيبوه، وأرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في سليمان شاه المحبوس عنده ليولوه عليهم، وذلك أول سنة خمس وخمسين فأطلقه على أن يكون أتابكاً له وجمال الدين وزيره وزيراً، وجهزه بجهاز السلطنة، وبعث معه نائبه زين الدين علي كوجك في عسكر الموصل. فلما قاربوا بلاد الجبل وأقبلت العساكر من كل جهة على السلطان سليمان فارتاب كوجك لذلك، وعاد إلى الموصل فلم ينتظم أمر سليمان، ودخل همذان وبايعوا له وخطب له ببغداد. وكثرت جموع ملك شاه بأصبهان وبعث إلى بغداد في الخطبة، وأن يقطع خطبة عمه ويراجع القواعد بالعراق إلى ما كانت فوضع عليه الوزير عون الدين بن هبيرة جارية بعث بها إليه فسمته، فمات سنة خمس وخمسين، فأخرج أهل أصبهان أصحابه، وخطبوا لسليمان شاه. وعاد شملة إلى خراسان فملك كل ما كان ملك شاه تغلب عليه منها. واستقر سليمان شاه بتلك البلاد، وشغل باللهو والسكر ومنادمة الصفاعين، وفوض الأمور إلى شرف الدين دواداره من مشايخ السلجوقية، كان ذا دين وعقل وحسن تربية فشكا  الأمراء إليه فدخل عليه وعذله وهو سكران فأمر الصفاعين بالرد عليه، وخرج مغضباً. وصحا سليمان فاستدرك أمره بالاعتذار فأظهر القبول، واجتنب الحضور عنده. وبعث سليمان إلى ابنايخ صاحب الري يستقدمه فاعتذر بالمرض إلى أن يفيق. ونمي الخبر إلى كربازة الخادم فعمل دعوة عظيمة حضرها السلطان والأمراء وقبض عليه وعلى وزيره أبي القاسم محمود بن عَبْد العزيز الحامدي، وعلى أصحابه في شوّال من سنة ست وخمسين فقتل وزيره وخواصه وحبسه أياماً. وخرج ابنايخ صاحب الري، ونهب البلاد وحاصر همذان وبعث كردباز إلى إلدكز يستدعيه ليبايع لربيبه أرسلان شاه بن طغرل فسار في عشرين ألف فارس، ودخل همذان، وخطب لربيبه أرسلان شاه بن طغرل بالسلطنة وجعل إلدكز أتابكا له، وأخاه من أمّه البهلول ابن إلدكز حاجباً. وبعث إلى المقتفي في الخطبة، وأن تعاد الأمور إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود فطرد رسوله وعاد إليه على أقبح حالة. وبعث إلى ابنايخ صاحب الرى فحالفه على الاتفاق، وصاهره في إبنته على البهلول، وجاءت إليه بهمذان وكان إلدكز من مماليك السلطان مسعود، وأقطعه أران وبعض أذربيجان، ولم يحضر شيئاً من الفتنة، وتزوج أم أرسلان شاه وزوجه طغرل فولدت له محمد البهلوان، وعثمان كزل أرسلان. ثم بعث إلدكز إلى أقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة في الطاعة لأرسلان شاه ربيبه فأمتنع وهددهم بالبيعة للطفل الذي عنده محمود بن ملك شاه. وقد كان الوزير ابن هبيرة أطمعه في الخطبة لذلك تطفل فيما بينهم فجهز إلدكز العساكر مع ابنه البهلوان وسار إلى مراغة، واستمد أقسنقر ساهرمز صاحب خلاط فأمده بالعساكر، والتقى أقسنقر والبهلوان فانهزم البهلوان وعاد إلى همذان. وعاد أقسنقر إلى مراغة ظافراً. وكان ملك شاه بن محمود لمّا مات بأصبهان مسموماً كما ذكرنا لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس، ومع إبنه محمود فقبض عليه صاحب فارس زنكي بن دكلا السلعري بقلعة إصطخر. ولما مات بعث إلدكز إلى بغداد في الخطبة لربيبه أرسلان، وشرع الوزير عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة في التصريف بينهم بعث ابن دكلا وأطمعه في الخطبة لمحمود بن ملك شاه الذي عنده أن ظفربإلدكز فأطلقه ابن دكلا، وبايع له، وضرب الطبل على بابه خمس نوب، وبعث إلى ابنايخ صاحب الري فوافقه، وسار إليه في عشرة آلاف. وبعث إليه أقسنقر الأحمديليّ، وجمع إلدكز العساكر، وسار إلى أصبهان يريد بلاد فارس. وبعث إلى صاحبها زنكي بن دكلا في الطاعة لربيبه أرسلان فأبى، وقال أن المقتفي أقطعني بلاده وأنا سائر إليه. واستمد المقتفي وابن هبيرة فواعدوه وكاتبوا الأمراء الذين مع إلدكز بالتوبيخ على طاعته والانحراف عنه إلى زنكي بن دكلا صاحب فارس، وابنايخ صاحب الري وبدأ إلدكز بقصد ابنايخ. ثم بلغه أن زنكي بن دكلا نهب سميرم ونواحيها فبعث عسكرأ نحوا من عشرة آلاف فارس لحفظها فلقيهم زنكي فهزمهم، فبعث إلدكز إلى عساكر أذربيجان فجاء بها ابنه كزل أرسلان. وبعث زنكي بن دكلا العساكر إلى ابنايخ ولم يحضر بنفسه خوفاً على بلاد شملة من صاحب خوزستان. ثم التقى إلدكز وابنايخ في شعبان سنة ست وخمسين فانهزم ابنايخ واستبيح عسكره، وحاصره إلدكز ثم صالحه ورجع إلى همذان.

وفاة المقتفي وخلافة المستنجد، وهو أوّل الخلفاء المستبدين على أمرهم من بني العباس، عند تراجع الدولة وضيق نطاقها ما بين الموصل وواسط والبصرة وحلوان:

ثم توفي المقتفي لأمر الله أبو عَبْد الله محمد بن المستظهر في ربيع الأول سنة خمس وخمسين لأربع وعشرين سنة وأربعة أشهر من خلافته، وهو أول من استبدّ بالعراق منفرداً عن سلطان يكون معه من أول أيام الديلم فحكم على عسكره وأصحابه فيما بقي لمملكتهم من البلدان بعد استبداد الملوك في الأعمال والنواحي. ولما اشتد مرضه تطاول كل من أم ولده إلى ولاية ابنها. وكانت أم المستنجد تخاف عليه، وأم أخيه علي تروم ولاية ابنها، واعتزمت على قتل المستنجد، واستدعته لزيارة أبيه وقد جمعت جواريها وآتت كل واحدة منهن سكينا لقتله، وأمسكت هي وابنها سيفين وبلغ الخبر إلى يوسف المستنجد فأحضر أستاذ دار أبيه، وجماعة من الفرّاشين، وأفرغ السلاح ودخل معهم الدار وثار به الجواري فضرب إحداهن وأمكنها فهربوا وقبض على أخيه علي وأمه فحبسها وقسم الجواري بين القتل والتغريق، حتى إذا توفي المقتفي جلس للبيعة فبايعه أقاربه أولهم عمه أبو طالب، ثم الوزير عون الدين بن هبيرة وقاضي القضاة وأرباب الدولة والعلماء وخطب له. وأقر ابن هبيرة على الوزارة وأصحاب الولايات على ولايتهم؛ وأزاك المكوس والضرائب، وقرب رئيس الرؤساء وكان أستاذ دار فرفع منزلته عَبْد الواحد المقتفي، وبعث عن الأمير ترشك سنة ست وخمسين من بلد اللحف، وكان مقتطعاً بها فاستدعاه لقتال جمع من التركمان أفسدوا في نواحي البندنجين فامتنع من المجيء وقال: يأتيني العسكر وأنا أقاتل بهم، فبعث المستنجد العساكر مع جماعة من الأمراء فقتلوه، وبعثوا برأسه إلى بغداد. ثم استولى بعد ذلك على قلعة الماهكي من يد مولى سنقر الهمذاني، ولاه عليها سنقر وضعف عن مقاومة التركمان والأكراد حولها فاستنزله المستنجد عنها بخمسة عشر ألف دينار، وأقام ببغداد. وكانت هذه القلعة أيام المقتدر بأيدي التركمان والأكراد. 

فتنة خفاجة:

اجتمعت خفاجة سنة ست وخمسين إلى الحلّة والكوفة، وطالبوا برسومهم من الطعام والتمر، وكان مقطع الكوفة أرغش، وشحنة الحلّة قيصر، وهما من مماليك المستنجد فمنعوهما فعاثوا في تلك البلاد والنواحي فخرجوا إليهم في أثرهم، واتبعوهم إلى الرحبة فطلبوا الصلح فلم يجبهم أرغش ولا قيصر فقاتلوهم فانهزمت العساكر، وقتل قيصر، وخرج أرغش، ودخل الرحبة فاستأمن له شحنتها وبعثوه إلى بغداد. ومات أكثر الناس عطشا في البرية وتجهز عون الدين بن هبيرة في العساكر لطلب خفاجة فدخلوا البرية ورجع، وانتهت خفاجة إلى البصرة وبعثوا بالعدو وسألوا الصلح فأجيبوا.

 إجلاء بني أسد من العراق:

كان في نفس المستنجد بالله من بني أسد أهل الحلّة شيء لفسادهم ومساعدتهم السلطان محمد في الحصار، فأمر يزدن بن قماج بإجلائهم من البلاد، وكانوا منبسطين في البطائح فجمع العساكر وأرسل إلى ابن معروف فقدم السفن، وهو بأرض البصرة فجاءه في جموع، وحاصرهم وطاولهم فبعث المستنجد يعاتبه ويتهمه بالتشيع فجّهز هو وابن معروف في قتالهم، وسد مسالكهم في الماء فاستسلموا، وقتل منهم أربعة آلاف، ونودي عليهم بالملا من الحلّة فتفرقوا في البلاد، ولم يبق بالعراق منهم أحد وسلمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف.

الفتنة بواسط وما جرت إليه:

كان مقتطع البصرة منكبرس من موالي المستنجد، وقتله سنة تسع وخمسين، وولىّ مكانه كمستكين، وكان ابن سنكاه ابن أخي شملة صاحب خوزستان فانتهز الفرصة في البصرة، ونهب قراها، وأمر كمستكين بقتاله فعجز عن إقامة العسكر، وأصعد ابن سنكاه إلى واسط ونهب سوادها. وكان مقتطعها خلطوا براس، فجمع الجموع وخرج لقتاله واستمال ابن سنكاه الأمراء الذين معه فخذلوه، وانهزم وقتله ابن سنكاه سنة إحدى وستين ثم قصد البصرة سنة إثنتين وستين، ونهب جهتها الشرقية، وخرج إليه كمستكين وواقعه، وسار ابن سنكاه إلى واسط، وخافه الناس ولم يصل إليها.

مسير شملة إلي العراق:

سار شملة صاحب خوزستان إلى العراق سنة إثنتين وستين، وانتهى إلى قلعة الماهكي، وطلب من المستنجد إقطاع البلاد، واشتط في الطلب فبعث المستنجد العساكر لمنعه، وكتب إليه يحذّره عاقبة الخلاف فاعتذر بأن إلدكز وربيبه السلطان أرسلان شاه أقطعا الملك الذي عنده، وهو ابن ملك شاه، بلاد البصرة وواسط والحلّة، وعرض للتوقيع بذلك، وقال أنا أقنع بالثلث منه فأمر المستنجد حينئذ بلعنه، وأنه من الخوارج، وتعبت العساكر إلى أرغمش المسترشدي بالنعمانية وإلى شرف الدين أبي جعفر البلدي ناظر واسط ليجتمعا على قتال شملة، وكان شملة أرسل مليح ابن أخيه في عسكر لقتال بعض الأكراد فركب إليه أرغمش، وأسره وبعض أصحابه، وبعث إلى بغداد وطلب شملة الصلح فلم يجب إليه. ثم مات أرغمش من سقطة سقطها عن فرسه، وبقي العسكر مقيماً ورجع شملة إلى بلاده لأربعة أشهر من سفره. 

وفاه الوزير يحيي:

ثم توفي الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن المظفر بن هبيرة سنة ستين وخمسمائة في جمادى الأولى، وقبض المستنجد على أولاده وأهله، وأقامت الوزارة بالنيابة. ثم استوزر المستنجد سنة ثلاث وستين شرف الدين أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن البلديّ ناظر واسط، وكان عضد الدين أبو الفرج بن دبيس قد تحكم في الدولة فأمره المستنجد بكفّ يده وأيدي أصحابه، وطالب الوزير أخاه تاج الدين بحساب عمله بنهر الملك من أيام المقتفي، وكذلك فعل بغيره فخافه العمال وأهل الدولة وحصل بذلك أموالا جمة.

وفاة المستنجد وخلافة المستضيء

كان الخليفة المستنجد قد غلب على دولته استاذ دارعضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء، وكان أكبر الأمراء ببغداد، وكان يرادفه قطب الدين قايماز المظفري. ولما ولى المستنجد أبا جعفر البلدي على وزارته غضّ من استاذ دار وعارضه في أحكامه فاستحكمت بينهما العداوة، وتنكر المستنجد لأستاذ دار وصاحبه قطب الدين فكانا يتّهمان بأنّ ذلك بسعاية الوزير. ومرض المستنجد سنة ست وستين وخمسمائة واشتدّ مرضه فتحيّلا في إهلاكه، يقال إنّهما واضعا عليه الطبيب، وعلم أنّ هلاكه في الحمام فأشار عليه بدخوله فدخله، وأغلقوا عليه بابه فمات. وقيل كتب المستنجد إلى الوزير ابن البلدي بالقبض على استاذدار وقايماز وقتلهما، وأطلعهما الوزير على كتابه فاستدعيا يزدن وأخاه يتماش وفاوضهما، وعرضا عليهم كتابه، واتفقوا على قتله فحملوه إلى الحمام وأغلقوا عليه الباب وهو يصيح إلى أن مات تاسع ربيع من سنة ست وستين لإحدى عشرة سنة من خلافته. ولما أرجف بموته قبل أن يقبض ركب الأمراء والأجناد متسلحين، وغشيتهم العامة واخفت بهم، وبعث إليه استاذدار بأنه إنما كان غشياً عرضاً، وقد أفاق أمير المؤمنين وخف ما به فخشي الوزير من دخول الجند إلى دار الخلافة فعاد إلى داره وافترق الناس. فعند ذلك أغلق استاذدار وقايماز أبواب الدار وأحضر ابن المستنجد أبا محمد الحسن. وبايعاه بالخلافة، ولقباه المستضيء بأمر الله، وشرطا عليه أن يكون عضد الدين وزيراً وابنه كمال الدين استاذادر وقطب قايماز أمير العسكر فأجابهم إلى ذلك، وبايعه أهل بيته البيعة الخاصة. ثم توفي المستنجد وبايعه الناس من الغد في التاج البيعة العامة، وأظهرالعدل وبذل الأموال، وسقط في يد الوزير وندم على ما فرط، واستدعي للبيعة فلما دخل قتلوه. وقبض المستضيء على القاضي ابن مزاحم وكان ظلوماً جائراً واستصفاه ورد الظلامات منه على أربابها، وولى أبا بكر بن نصر بن العطار صاحب المخزن ولقبه ظهير الدين.

انقراض الدولة العلوية بمصر وعود الدعوة العباسية إليها

ولأول خلافة المستضيء كان انقراض الدولة العلوية بمصر، والخطبة بها للمستضيء من بني العباس في شهر المحرم فاتح سنة سبع وستين وخمسمائة قبل عاشوراء، وكان آخر الخلفاء العبيديين بها العاضد لدين الله من أعقاب الحافظ لدين الله عَبْد المجيد، وخافوا المستضيء معه ثامن خلفائهم، وكان مغلباً لوزارته. واستولى شاور منهم وثقلت وطأته عليهم فاستقدم ابن شوار من أهل الدولة من الاسكندرية، وفر شاور إلى الشام مستنجداً بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من أقسنقر، وكان من مماليك السلجوقية وأمرائهم المقيمين للدعوة العباسية. وكان صلاح الدين يوسف بن نجم أيوب بن <*>، الكردي هو وأبوه نجم الدين أيوب وعمه أسد الدين شيركوه في جماعة من الأكراد في خدمة نور الدين محمود بالشام. فلما جاء شاور مستنجداً بعث معه هؤلاء الأمراء الأيوبية وكبيرهم أسد فأعاده إلى وزارته، وقتل الضرغام، ولم يوف له شاور بما ضمن له عند مسيره من الشام في نجدته. وكان الفرنج قد ملكوا سواحل مصر والشام وزاحموا ما يليها من الأعمال، وضيقوا على مصر والقاهرة إلى أن ملكوا بلبيس وأيله عند العقبة. واستولوا على الدولة العلوية في الضرائب والطلبات، وأصبحوا مأوى لمن ينحني عن الدولة. وداخلهم شاور في مثل ذلك فارتاب به العاضد، وبعث عز الدين مستصرخاً به على الفرنج في ظاهر أمره، وشمرحون في ارتعاء من إباة شاور والتمكن منه فوصل لذلك وولاه العاضد وزارته وقلده ما وراء بابه فقتل الوزير شاور، وحسم داءه، وكان مهلكه قريباً من وزارته، يقال لسنة ويقال لخمسين يوما فاستوزر العاضد مكانه صلاح الدين ابن أخيه نجم الدين فقام بالأمر، وأخذ في إصلاح الأحوال وهو يعد نفسه وعمه من قبله نائبا عن نور الدين محمود بن زنكي الذي بعثه وعمه للقيام بذلك.

ولما ثبت قدمه بمصر وأزال المخالفين ضعف أمر العاضد، وتحكم صلاح الدين في أموره، وأقام خادمه قراقوش للولاية عليه في قصره والتحكم عليه فبعث إليه نور الدين محمود الملك العادل بالشام أن يقطع الخطبة للعاضد، ويخطب للمستضيء ففعل ذلك على توقع النكير من أهل مصر. فلما وقع ذلك ظهر منه الاغتباط وانمحت آثار الدولة العلوئة، وتمكنت الدولة العباسية فكان ذلك مبدأ الدولة لبني أيوب بمصر. ثم ملكوا من بعدها أعمال نور الدين بالشام واستضافوا اليمن وطرابلس الغرب واتسع ملكهم كما يذكر في أخبارهم. ولما خطب للمستضيء بمصر كتب له نور الدين محمود من دمشق مبشرا بذلك فضربت البشائر ببغداد، وبعث بالخلع إلى نور الدين وصلاح الدين مع عماد الدين صندل من خواص المقتفوية، وهو أستاذدار المستضيء فجاء إلى نور الدين بدمشق، وبعث الخلع إلى صلاح الدين وللخطباء بمصر وبإِسلام السواد. واستقرت الدعوة العباسية بمصر إلى هذا العهد والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

ثم بعث نور الدين محمود إلى المستضيء رسوله القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عَبْد الله الشهرزوري قاضي بلاده يطلب التقليد لمّا بيده من الأعمال، وهي مصر والشام والجزيرة والموصل، وبما هو في طاعته كديار بكر وخلاط وبلاد الروم التي لقليج ارسلان، وأن يقطع صريعين ودرب هارون من بلاد سواد العراق كما كانتا لأبيه فأكرم الرسول، وزاد في الإحسان إليه وكتب له بذلك.

خبر يزدن من امراء المستضيء:

كان يزدن قد ولاه المستضيء الحلة فكانت في أعماله، وكانت حمايتها لخفاجة وبني حزن منهم فجعلها يزدن لبني كعب منهم، وأمرهم الغضبان فغضب بنو حزن، وأغاروا عليهم على السواد، وخرج يزدن في العسكر لقتالهم، ومعه الغضبان وعشيرة بنو كعب فبينما هم ليلة يسيرون رمي الغضبان بسهم فمات، فعادت العساكر إلى بغداد، وأعيدت حفاظة السواد إلى بني حزن. ثم مات يزدن سنة ثمان وستين، وكانت واسط من اقطاعه فاقتطعت لاخيه ايتامش ولقب علاء الدين.

مقتل سنكاه بن أحمد أخي شملة:

قد ذكرنا في دولة المستنجد فتنة سنكاه هذا، وعمه شملة صاحب خوزستان. ثم جاء ابن سنكاه إلى قلعة الماهكي فبنى بإزائها قلعة ليتمكن بها من تلك الأعمال، فبعث المستضيء العسكر من بغداد لمنعه فقاتلهم واشتد قتاله. ثم انهزم وقتل، وعلق رأسه ببغداد وهدمت القلعة.

وفاة قايماز وهربه:

قد ذكرنا شأن قطب الدين قايماز وأنه الذي بايع للمستضيء وجعله أمير العسكر، وجعله عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء وزيراً. ثم استفحل أمر قايماز وغلب . على الدولة، وحمل المستضيء على عزل عضد الدين أبي الفرج من الوزارة، فلم يمكنه مخالفته، وعزله سنة سبع وستين فأقام معزولاً. وأراد الخليفة سنة تسع وتسعين أن يعيده إلى الوزارة فمنعه قطب الدين من ذلك، وركب فأغلق المستضيء أبواب داره مما يلي بغداد، وبعث إلى قايماز ولاطفه بالرجوع فيما هم من وزارة عضد الدين فقال لا بد من إخراجه من بغداد فاستجار برباط شيخ الشيوخ صدر الدين عَبْد الرحيم بن إسماعيل فأجاره، واستطال قايماز على الدولة وأصهر على علاء الدين يتامش في أخته فزوجها منه وحملوا الدولة جميعاً. ثم سخط قايماز ظهير الدين بن العطار صاحب المخزن وكان خاصاً بالخليفة، وطلبه فهرب فأحرق داره وجمع الأمراء فاستحلفهم على المظاهرة وأن يقصدوا دار المستضيء ليخرجوا منها ابن العطار، فقصد المستضيء على سطح داره وخدامه يستغيثون، ونادى في العامة بطلب قايماز، ونهب داره فهرب من ظهر بيته، ونهبت داره وأخذ منها ما لا يحصى من الأموال. واقتتل العامة على <*>، ولحق قايماز بالحلة وتبعه الأمراء، وبعث إليه المستضيء شيخ الشيوخ عَبْد الرحيم ليسير عن الحلة إلى الموصل تخوفاً من عوده إلى بغداد فيعود استيلاؤه لمحبة العامة فيه، وطاعتهم له، فسار إلى الموصل وأصابه ومن معه في الطريق عطش فهلك الكثير منهم، وذلك في ذي الحجة من سنة سبعين. وأقام صهره علاء الدين يتامش بالموصل. ثم استأذن الخليفة في القدوم إلى بغداد فقدم، وأقام بها عاطلاً بغير اقطاع، وهو الذي حمل قايماز على ما كان منه، وولى الخليفة استاذ داره سنجر المقتفوي، ثم عزله سنة إحدى وسبعين وولى مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي بن الصاحب.

فتنة صاحب خوزستان:

قد ذكرنا أن ملك شاه بن محمود بن السلطان محمد استقر بخوزستان، وذكرنا فتنة شملة مع الخلفاء. ثم مات شملة سنة سبعين وملك ابنه مكانه. ثم مات ملك شاه بن محمود وبقي ابنه بخوزستان فجاء سنة إثنتين وسبعين إلى العراق، وخرج إلى البندنجين، وعاث في الناس. وخرج الوزير عضد الدين أبو الفرج في العساكر، ووصل عسكر الحلة وواسط مع طاش تكين أمير الحاج وغز علي، وساروا للقاء العدو وكان معه جموع من التركمان فأجفلوا ونهبتهم عساكر بغداد. ثم ردهم الملك ابن ملك شاه وأوقعوا بالعسكر أياماً، ثم مضى الملك إلى مكانه وعادت العساكر إلى بغداد.

مقتل الوزير:

قد ذكرنا أخبار الوزير عضد الدين أبي الفرج محمد بن عَبْد الله بن هبة الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة، كان أبوه استاذ دار المقتفي. ولما مات ولي ابنه مكانه. ولما مات المقتفي أقره المستنجد ورفع قدره، ثم استوزره المستضيء وكان بينه وبين قايماز ما قدمناه، وأعاد المستضيء للوزارة فلما كانت سنة ثلاث وسبعين استأذن المستضيء في الحج فأذن له، وعبر دجلة فسافر في موكب عظيم من أرباب المناصب، واعترضه متظلم ينادي بظلامته، ثم طعنه فسقط، وجاء ابن المعوذ صاحب الباب ليكشف خبره فطعن الآخر، وحملا إلى بيتهما فماتا. وولي الوزير ظهير الدين أبو منصور بن نصر، وشرف بابن العطار فاستولى على الدولة وتحكم فيها. 

وفاة المستضيء وخلافة الناصر

ثم توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد في ذي القعدة سنة خمس وسبعين لتسع سنين ونصف من خلافته، وقام ظهير الدين العطار في البيعة  لابنه أبي العباس أحمد ولقبه الناصر لدين الله فقام بخلافته، وقبض على ظهير الدين بن العطار وحبسه واستصفاه. ثم أخرجه من عشر ذي القعدة من محبسه ميتاً. وفطن به العامة. فتناوله العامة وبعثوا به، وتحكم في الدولة استاذ دار مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب، وكان تولى أخذ البيعة للناصر مع ابن العطار، وبعث الرسل إلى الآفاق لأخذ البيعة. وسار صدر الدين شيخ الشيوخ إلى البهلوان صاحب همذان وأصبهان والري فامتنع من البيعة فأغلظ له صدر الدين في القول. وحرض أصحابه على نقض طاعته أن لم يبايع فاضطر إلى البيعة والخطبة. ثم قبض سنة ثلاث وثمانين على استاذ دار أبي الفضل ابن الصاحب وقتله من أجل تحكمه، وأخذ له أموالاً عظيمة. وكان الساعي فيه عند الناصر عبيد الله بن يونس من أصحابه وصنائعه فلم يزل يسعى فيه عند الناصر حتى أمر بقتله، واستوزر ابن يونس هذا ولقبه جلال الدين وكنيته أبو المظفر، ومشى أرباب الدولة في خدمته حتى قاضي القضاة.

هدم دار السلطنة ببغداد وانقراض ملوك السلجوقية:

قد ذكرنا فيما تقدم ملك أرسلان شاه بن طغرل ربيب إلدكز، واستيلاء إلدكز عليه وحروبه مع ابنايخ صاحب الري. ثم قتله سنة أربع وستين واستولى على الري. ثم توفي إلدكز الأتابك بهمذان سنة ثمان وستين، وقام مكانه ابنه محمد البهلوان، وبقي أخوه السلطان أرسلان بن طغرل في كفالته. ثم مات سنة ثلاث وستين ونصب البهلوان مكانه ابنه طغرل. ثم توفي البهلوان سنة اثنتين وثمانين، وفي مملكته همذان والري وأصبهان وأذربيجان وأرانية وغيرها، وفي كفالته السلطان طغرل بن أرسلان. ولما مات البهلوان قام مكانه أخوه كزل أرسلان ويسمى عثمان فاستبد طغرل وخرت عن الكفالة، ولحق به جماعة من الأمراء والجند، واستولى على بعض البلاد ووقعت بينه وبين كزل حروب. ثم قوي أمر طغرل وكثر جمعه، وبعث كزل إلى الناصر يحذره من طغرل ويستنجده، ويبذل الطاعة على ما يختاره المستضيء رسوله فأمر بعمارة دار السلطنة ليسكنها. وكانت ولايتهم ببغداد والعراق قد انقطعت منذ أيام المقتفي فأكرم رسول كزل وعده بالنجدة، وانصرف رسول طغرل بغير حرب. وأمر الناصر بهدم دار السلطنة ببغداد فمحى أثرها. ثم بعث الناصر وزيره جلال الدين أبا المظفر عبيد الله بن يونس في العساكر لإنجاد كزل ومدافعة طغرل عن البلاد فسار لذلك في صفر لسنة أربع وثمانين، واعترضهم طغرل على همذان قبل اجتماعهم بكزل، واقتتلوا ثامن ربيع، وانهزمت عساكر بغداد، وأسروا الوزير. ثم استولى كزل على طغرل وحبسه ببعض القلاع، ودانت له البلاد وخطب لنفسه بالسلطنة، وضرب النوب الخمس. ثم قتل على فراشه سنة سبع وثمانين ولم يعلم قاتله".

وورد في "تاريخ ابن خلدون" أيضاً المجلد الخامس:

" الخبر عن الدولة السلجوقية من الترك المستولين على ممالك الإسلام ودوله بالمشرق كلها إلى حدود مصر مستبدّين على الخليفة ببغداد من خلافة القائم إلى هذا الزمان وما كان لهم من الملك والسلطان في أقطار العالم وكيف فعلوا بالعلماء وحجروهم وما تفرّع عن دولتهم من الدول: قد تقدّم لنا ذكر أنساب الأمم، والكلام في أنساب الترك، وأنهم من ولد كومر بن يافث أحد السبعة المذكورين من بني يافث في التوراة وهم : ماواق وماذاي وماغوغ وقطوبال وماشخ وطيراش. وعدّ ابن إسحق منهم ستة ولم يذكر ماذاي . وفي التوراة أيضاً أنّ ولد كومر ثلاثة : توغرما واشكان وريعات. ووقع في الإسرائيليات أنّ الإفرنج من ريعات ، والصقالبة من اشكان، والخزر من توغرما. والصحيح عند نسّابة الإسرائيليين أن الخزر هم التركمان. وشعوب الترك كلهم من ولد كومر، ولم يذكر من أيّ ولده الثلاثة، والظاهر أنهم من توغرما. وزعم بعض النسابة أنهم من طيراش بن يافث . ونسبهم ابن سعيد إلى ترك بن غامور ين سويل ، والظاهر أنه غلط . وأن غامور تصحيف كما مرّ . وأما سويل فلم يذكر أحد أنه من بني يافث وقد مر ذكر ذلك كله .

(والترك أجناس) كثيرة وشعوب ، فمنهم الروس والإعلان ، ويقال إبلان ، والخفشاخ، وهم القُفجق والهياطلة والخلج والغزُّ الذين منم السلجوقية، والخطا وكانوا بأرض طمعاغ والقور وتزكس واركس والططر ويقال الطغرغر وأنكر، وهم مجاورون  للروم . وأعلم أنا هؤلاء الترك أعظم أمم العالم، وليس في أجناس البشر أكثر منهم ومن العرب في جنوب المعمور، وهؤلاء في شماله قد ملكوا عامة الأقاليم الثلاثة من الخامس والسادس والسابع، في نصف طوله مما يلي المشرق . فأول مواطنهم من الشرق على البحر بلاد الصين وما فوقها جنوباً إلى الهُنك ، وما تحتها شمالاً إلى سد يأجوج ومأجوج. وقد قيل انهم من شعوب الترك، وآخر مواطنهم من جهة الغرب بلاد الصقالبة المجاورين للافرنج مما يلي رومة إلى خليج القسطنطينية. وأول مواطنهم من جهة الجنوب بلاد القور المجاورة للنهر ، ثم خراسان واذربيجان وخليج القسطنطينية، وآخرها من الشمال بلاد فرغانة والشاش وما وراءها من البلاد الشمالية المجهولة لبعدها .

وما بين هذه الحدود من بلاد غزنة ونهر جيحون، وما بخفافيه من البلاد، وخوارزم ومفاوز الصين. وبلاد القفجق والروس حفافي خليج القسطنطينية من جهة الشمال الغربي، قد اعتمر لهذه البسائط. منهم أمم لا يحصيهم إلا خالقهم ، رحالة متنقلون فيها مستنجعين مساقط الغيث في نواحيه، يسكنون الخيام المتخذة من اللبود لشدة البرد في بلادهم فقروا عليها.

ومر بديار بكر وخرج إليه صاحبها نصر بن مروان ، وحمل مائة ألف دينار لنفقته، فلما سمع أنه قبضها من الرعايا ردها عليه ثم مر بناهرو وأمنها وأطاف على السور، وجعل يمسحه بيده ويمر بها على خدوده تبركاً بثغر المسلمين . ثم مر بالرُّها وحاصرها فامتنعت عليه .  ثم سار إلى حلب فبعث إليه صاحبها محمود ريعول القائد الذي عنده يخبر بطاعته وخطبته، ويستعفيه من الخروج إليه منكراً منه الأذى ، وبحي على خير العمل فقال : لا بد من خروجه. واشتدّ الحصار فخرج محمود ليلاً مع أمه بنت وثاي الهني متطارحاً على السلطان فأكرم مقدمها ، وخلع عليه وأعاده إلى بلده .

غزاة السلطان ألب أرسلان إلى خلاط وأسر ملك الروم :

كان ملك اليوم بالقسطنطينية لهذا العهد اسمه أرمانوس، وكان كثيراً ما يخيف ثغور المسلمين. وتوجه في سنة اثنتين وستين في عساكر كثيرة إلى الشام، ونزل على مدينة منبج واستباحها. وجمع له محمود بن صالح بن مردإس الكلابي وابن حسان الطائي قومهما، ومن إليهم من العرب فهزمتهم  الروم. ثم رجع أرمانوس إلى القسطنطينية، واحتشد الروم والإفرنج والروس والكرخ ومن يليهم من العرب والطوائف، وخرج إلى بلاد كرد من أعمال خلاط. وكان السلطان ألب أرسلان بمدينة حوف من اذربيجان، منقلباً من حلب فبعث بأهله وأثقاله إلى همذان مع وزيره نظام الملك، وسار هو في خمسة عشر ألف مقاتل، وتوجه نحوهم متهيأ. ولقيت مقدمته الروس فهزموهم، وجاؤوا بملكهم أسيراً إلى السلطان فجدعه ، وبعث أسلابهم إلى نظام الملك. ثم توجه إلى سمرقند ففارقها التكير، وأرسل في الصلح، ويعتذر عن تومق فصالحه ملك شاه ، وأقطع  بلخ وطخارستان لأخيه شهاب الدين مكين، إلى خراسان ثم إلى الريّ .

فتنة قاروت بك صاحب كرمان ومقتله :

كان بكرمان قاروت بك أخو السلطان ألب أرسلان أميراً عليها، فلما بلغه وفاة أخيه سار إلى الريّ لطلب الملك فسبقه إليها السلطان ملك شاه، ونظام الملك، ومعهما مسلم بن قريش ومنصور بن دبيس، وأمراء الأكراد. والتقوا على نهرمان، فانهزم قاروت بك وجيء به إلى أمام سعد الدولة كوهراس فقتله خنقاً. وأمر كرمان بسير بنيه ، وبعث إليهم بالخلع، وأقطع العرب والأكراد مجازاةً لما أبلوا في الحرب . وقد كان السلطان ألب رسلان شافعاً فيه على الخليفة فلقيهم خبر وفاة ألب أرسلان في طريقهم، فروا إلى ملك شاه ، وسبق إليه مسلم بطاعته. وأما بهاء الدولة منصور بن دبيس فإن أباه أرسله بالمال إلى ملك شاه، فلقيه سائراً للحرب فشهدها معه.

ثم توفي أياز أخو السلطان ملك شاه ببلخ سنة خمس وستين فكفله ابنه ملك شاه إلى سنة سبع وستين. وتوفي القائم منتصف شعبان منها لخمس وأربعين سنة من خلافته، ولم يكن له يومئذ ولد، وانما كان له حافد، وهو المقتدي عبد الله بن محمد. وكان أبوه محمد بن القائم ولي عهده، وكان يلقب ذخيرة الدين، ويكنى أبا العباس. وتوفي سنة   وعهد القائم لحافده ،  فلما توفي اجتمع أهل الدولة، وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك ، والوزير فخر الدولة بن جهير، وابنه عميد الدولة، والشيخ أبو اسحق الشيرازي ونقيب النقباء طراد، وقاضي القضاة الدامغاني فبايعوه بالخلافة لعهد جده إليه بذلك . وأقر فخر الدولة بن جهير على الوزارة ، وبعث ابنه عميد الدولة إلى السلطان ملك شاه لأخذ بيعته، والله الموفق للصواب.

استيلاء السلجوقية على دمشق وحصارها مصر ثم  استيلاء تتش ابن السلطان ألب أرسلان على دمشق :

قد تقدم لنا ملك انسز الرملة وبيت المقدس وحصاره دمشق سنة احدى وستين، ثم عاد عنها وجعل يتعاهد نواحيها بالعيث والافساد كل سنة. ثم سار اليها في رمضان سنة سبع وستين وحاصرها، ثم عاد عنها، وهرب منها أميرها من قبل المستنصر العلوي صاحب مصر المعلى بن حيدرة، لأنه كثر عسفه بالجند والرعية وظلمه، فثاروا به فهرب إلى بانياس، ثم إلى صور، ثم إلى مصر فحبس ومات بها محبوساً. واجتمعت المصامدة بدمشق، وولي عليهم أنصار بن يحيى المصمودي، ويلقب نصير الدولة. وغلت الأقوات عندهم، واضطربوا فعاد إليها انسز في شعبان سنة ثمان وستين فاستأمنوا إليه، وعوض انتصاراً منها بقلعة بانياس ومدينة يافا من الساحل، ودخلها في ذي القعدة، وخطب بها للمقتدي، ومنع من النداء بحيّ على خير العمل، وتغلب على كثير من مدن الشام . ثم سار سنة تسع وستين إلى مصر وحاصرها وضيق عليها. واستنجد المستنصر بالبوادي من نواحيها فوعدوه بالنصر. وخرج بدر الجمالي في العساكر التي كانت بالقاهرة وجاء أهل البلاد لميعادهم فإنهزم أنسز وعساكره، ونجا إلى بيت المقدس فوجدهم قد بمخلفه فتحصنوا منه بالمعاقل فافتتحها عليهم عنوة واستباحها ، حتى قتلهم في المسجد. وقد تقدم ضبط هذا الاسم وأنه عند أهل الشأم انسيس، والصحيح انسز، وهو اسم تركي. ثم ان السلطان ملك شاه اقطع أخاه تتش بن ألب أرسلان بلاد الشأم ، وما يفتحه من تلك النواحي سنة سبعين وأربعمائة ، فقصد حلب أولاً وحاصرها، ومعه جموع من التركمان. وكان بدر الجمالي المستولي على مصر قد بعث العساكر لحصار دمشق، وبها أنسز، فبعث إلى تتش وهو على حلب يستنجده فسار إليه، وأخرت عساكر مصر عنه منهزمين. ولما وصل إلى دمشق قعد انسز على لقائه، وانتظر قدومه فلقيه عند السور، وعاتبه على ذلك فتساهل في العذر فقتله لوقته، وملك البلد، واستولى على الشام أجمع كما سيأتي، وكان يلقب تاج الدولة. ثم سار في سنة اثنتين وسبعين إلى حلب فحاصرها أياماً، وأفرج عنها، وملك مراغة والبيرة، وعاد إلى دمشق. وخالفه مسلم بن قريش إلى حلب فملكها كما تقدم في أخباره وضمنها للسلطان ملك شاه فولاه إياها. وسار مسلم بن قريش فحاصرها آخر سنةأربع وسبعين . ثم أفرج عنها فخرج تتش وقصد طرسوس من الساحل فافتتحها ورجع. ثم حاصرها مسلم ثانية سنة تسع وسبعين. وبلغه أن تاج الدولة تتش سار إلى بلاد الروم غازياً فخالفه إلى دمشق، وحاصرها معه العرب والأكراد. وبعث إليه العلوي صاحب مصر بعده بالمدد. وبلغ الخبر إلى تتش فكر راجعاً، وسبقه إلى دمشق فحاصرها أياماً. ثم خرج اليه تتش في جموعه فهزمه واضطرب أمره، ووصله الخبر بانتقاض أهل حران فرحل من مرج الصفر راجعاً إلى بلاده. ثم سار أمير الجيوش من مصر في العساكر إلى دمشق سنة ثمان وسبعين، وحاصرها فامتنعت عليه، ورجع . فلحقوا بأخيه تُكش في   ، فقوي به وأظهر العصيان، واستولى على مرو الروذ ومرو الساهجان وغيرهما، وسار إلى نيسابور طامعاً في ملك خراسان. وبلغ الخبر إلى السلطان فسبقه إلى نيسابور، فرجع تتش وتحصن بترمذ. وحاصره السلطان حتى سأل الصلح وأطلق من كان في أسره من عسكر السلطان، ونزل عن ترمذ وخرج إليه فأكرمه. ثم عاود العصيان سنة سبع وسبعين، وملك مرو  الروذ، ووصل قريباً من سرخس وحاصر قلعة هناك لمسعود ابن الأمير فاخر. وتحيل أبو الفتوح الطوسي صاحب نظام، وهو بنيسابور على ملطفة وضعوها على شبه خط نظام الملك، يخاطب فيها صاحب القلعة بأنه واصل في ركاب السلطان ملك شاه، وأنه مصالح للقلعة. وتعرض حاملها لأهل المعسكر حتى أخذوا كتابه بعد الضرب والعرض على القتل . وحدثهم بمثل ما في الصحيفة وأن السلطان وعساكره في الريّ فأجفلوا لوقتهم إلى قلعة ربح. وخرج أهل الحصن فأخذوا ما في العسكر وجاء السلطان بعد ثلاثة أشهر فحاصره في قلعته حتى افتتحها، وحده ودفعه إلى ابنه أحمد فتسلمه وحبسه ، فخرجا من يمينه معه.

سفارة الشيخ أبي اسحق الشيرازي عن الخليفة:

كان الخليفة المقتدي وكان عميد العراق أبو الفتح بن أبي الليث يسيء معاملة الخليفة، فبعث المقتدي الشيخ أبا اسحق الشيرازي إلى السلطان ملك شاه، ووزيره نظام الملك بأصبهان شاكياً من العميد . فسار الشيخ لذلك ، ومعه الإمام أبو بكر الشافي وغيره من الأعيان . ورأى الناس عجباً في البلاد التي يمر بها من إقبال الخلق عليه، وازدحامهم على محفته يتمسحون بها، ويلثمون أذيالها، وينشرون موجودهم عليها من الدراهم والدنانير لأهلها، والمصنوعات لأهل الصنائع، والبضائع للتجار، والشيخ في ذلك يبكي وينتحب . ولما حضر عند السلطان أظهر المحرمة، وأجابه إلى جميع ما طلبه. ورفعت يد العميد عن كل ما يتعلق بالخليفة. وحضر الشيخ مجلس نظام الملك فجرت بينه وبين إمام الحرمين مناظرة خبرها معروف.

اتصال بني جهير بالسلطان ملك شاه ومسير فخر الدولة لفتح ديار بكر:

كان فخر الدولة أبو نصر بن جهير وزير المقتدي قد عزل سنة احدى وسبعين على يد نظام الملك، ولحق به ابنه عميد الدولة واسترضاه فرضي نظام الملك، وشفع إلى الخليفة فاعتمد عميد الدولة دون أبيه كما تقدم في أخبار الخلفاء . ثم أرسل المقتدي سنة أربع وسبعين فخر الدولة إلى ملك شاه يخطب له ابنته، فسار إلى أصبهان وعقد له نكاحها على خمسين ألف دينار معجلة، وعاد إلى بغداد . ثم عزل المقتدي ابنه عميد الدولة عن الوزارة سنة ست وسبعين ، وكانوا قد علقوا بخطة من نظام الملك فبعث عن نفسه وعن ملك شاه يطلب حضور بني جهير عندهم ، فساروا بأهليهم فعظمت حظوظهم عند السلطان . وعقد لفخر الدولة على ديار بكر، وبعث معه العساكر لفتحها من يد بني مروان، وأذن له اتخاذ الآلة وأن يخطب لنفسه ، ويكتب اسمه على السكة فسار في العساكر السلطانية.

استيلاء ابن جهير على الموصل:

ولما سار فخر الدولة ابن جهير لفتح ديار بكر، استنجد ابن مروان مسلم بن قريش ، وشرط له أمراً وتحالفا على ذلك، واجتمعا لحرب ابن جهير. وبعث السلطان الأمير أرتق بن أكسك في العساكر مدداً لابن جهير، فجنح ابن جُهير إلى الصلح، وبادر أرتق إلى القتال فهزم العرب والأكراد، وغنم معسكرهم. ونجا مسلم بن قريش إلى آمد ، وأحاطت به العسكر، فلما اشتد مخنقه راسل الأمير أرتق في الخروج على مال بذله له فقبله ، وكانت له حراسة الطريق فخرج إلى الرقة. وسار ابن جهير إلى ميافارقين، وفارقه منصور بن مزيد وابنه صدقة فعاد منها إلى خلاط. ولما بلغ السلطان انحصار مسلم في آمد بعث عميد الدولة في جيش كثيف إلى الموصل، ومعه آقسنقر قسيم الدولة الذي أقطعه بعد ذلك حلب. وساروا إلى الموصل فلقيهم أرتق، ورجع معهم . ولما نزلوا علىالموصل بعث عميد الدولة إلى أهلها بالترغيب والترهيب فأذعنوا واستولى عليها، وجاء السلطان في عساكره إلى بلاد مسلم بن قريش، وقد خلص من الحصار، وهو مقيم قبالة الرحبة فبعث إليه مؤيد الكتاب، ولاطف السلطان واسترضاه، ووفد إليه بالقوارح ، وردّه السلطان إلى أعماله وعاد لحرب أخيه تتش الذي ذكرناه آنفاً.

فتح سليمان بن قطلمش أنْطاكِية والخبر عن مقتله ومقتل مسلم ابن قريش واستيلاء تتش على حلب:

كان سليمان بن قطلمش بن إسرائيل بن سلجوق قد ملك قرسة ، واقصرا وأعمالها، من بلاد الروم إلى الشام . وكانت أنْطاكِية بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلثمائة. وكان ملكها لعهده الفردروس فأساء السيرة إلى جنده ورعاياه، وتنكر لابنه وحبسه فداخل الشحنة في تمكين سليمان من البلد، فاستدعوه سنة سبع وسبعين فركب إليها البحر، وخرج إلى البر في أقرب السواحل إليها في ثلثمائة ألف فارس ورجل كثير. وسار في جبال وأوعار فلما انتهى إلى السور، وأمكنه الشحنة من تسلم السور دخل البلد، وقاتل أهلها فهزمهم، وقتل كثيراً منهم . ثم عفا عنهم وملك القلعة، وغنم من أموالهم ما لا يحصى. وأحسن إلى أهلها وأمر لهم بعمارة ما خرب، وأرسل إلى السلطان ملك شاه بالفتح. ثم بعث إليه مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمل إليه الفردروس ملك انْطاكِية من المال، ويخوفه معصية السلطان فأجابه بتقرير الطاعة للسلطان، وبأن الجزية لا يعطيها مسلم، فسار مسلم ونهب نواحي انْطاكِية ، فنهب سليمان نواحي حلب.

ثم جمع سليمان العرب والتركمان، وسار لنواحي انْطاكِية ومعه جماهير التركمان.

وجمع سليمان كذلك، والتقيا آخر صفر سنة ثمان وسبعين، وانحاز جق إلى سليمان فانهزمت العرب، وقتل مسلم وسار سليمان بن قطلمش إلى حلب وحاصرها فامتنعت عليه، وأرسل إليه ابن الحثيثي العباسي كبير حلب بالأموال، وطالبه أن يمهل حتى يكاتب السلطان ملك شاه ودس الى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعيه لملكها فجاء لذلك، ومعه أرسوس أكسك، وكان خائفاً على نفسه من السلطان ملك شاه لفعلته في أمر فاستجار بتتش، وأقطعه المورس، وسار معه لهذه الحرب. وبادر سليمان بن قطلمش إلى اعتراضهم وهم على تعبية. وأبلى أرتق في هذه الحروب، وانهزم سليمان، وطعن نفسه بخنجر فمات، وغنم تتش معسكره، وبعث إلى ابن الحثيثي العباسي فيما استدعاه إليه فاستمهله الى مشورة السلطان ملك شاه، وأغلظ في القول فغضب تتش ، وداخله بعض أهل البلد فتسورها وملكها . واستجار ابن الحثيثي بالأمير أرتق فأجاره وسمع له.

استيلاء  ابن جهير على  ديار بكر:

ثم بعث ابن جهير سنة ثمان وسبعين ابنه زعيم الرؤساء أبا القاسم إلى حصار آمد ، معه جناح الدولة اسلار فحاصرها واقتلع شجرها، وضيق عليها حتى جهدهم الجوع. وغدر بعض العامة في ناحية من سورها، ونادى بشعار السلطان ، واجتمع إليه العامة لما كانوا يلقون من عسف العمال النصارى فبادر زعيم الرؤساء إلى البلد، وملكها، وذلك في المحرم. وكان أبوه فخر الدولة محاصراً لميافارقين، ووصل إليه سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد بمدد العساكر فاشتد الحصار، وسقطت من السور ثلمة في سادس جمادى فنادوا بشعار السلطان، ومنعوا ابن جهير من البلد. واستولى على أموال بني مروان، وبعثها مع ابنه زعيم الرؤساء إلى السلطان، فسار مع كوهراس إلى بغداد. ثم فارقه إلى السلطان بأصبهان. ولما انقضى أمر ميافارقين بعث فخر الدولة جيشاً إلى جزيرة ابن عمر فحاصرها، وقام بعض أهلها بدعوة السلطان، وفتحوا مما يليهم باباً قريباً دخل منه العسكر فملكوا البلد. وانقرضت دولة بني مروان من ديار بكر، والبقاء لله. ثم أخذ السلطان ديار بكر من فخر الدولة بن جهير، وسار إلى الموصل فأقام بها إلى أن توفي سنة ثلاث وثمانين.

استيلاء السلطان ملك شاه علم حلب وولاية اقسنقر عليها:

لما ملك تاج الدولة تتش مدينة حلب، وكان بها سالم بن ملك بن مروان ابن عم مسلم بن قريش، وامتنع بالقلعة وحاصره تتش سبعة عشر يوماً، حتى وصل الخبر بمقدم أخيه السلطان ملك شاه، وقد كان ابن الحثيثي كتب إليه يستدعيه لما خاف من تتش فسار من اصبهان منتصف تسع وسبعين، وفي مقدمته برسق وبدران وغيرهما من الأمراء. ومر بالموصل في رجب. ثم سار إلى هراة وبها ابن الشاطىء فملكها وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش، وأقطعه معها مدينة الرحبة وأعمالها وحران وسروج والرقة وخابور، وزوجه أخته زليخا خاتون . ثم سار إلى الرها وافتتحها من الروم، وكانوا اشتروها من ابن عطية كما مر . وسار إلى قلعة جعفر فملكها وقتل من كان بها من بني قشير، وكان صاحبها جعفر أعمى ، وكان يخيف السابلة هو وولده فأزال ضررهم ثم. ملك منبج ، وعبر الفرات إلى حلب فأجفل تتش عن المدينة ودخل  ومعه الأمير أرتق. ورجع إلى دمشق فلما وصل السلطان إلى حلب ملكها ، ثم إلى القلعة فملكها من سالم بن ملك على أن يعطيه قلعة جعفر، فلم تزل بيد عقبه إلى أن ملكها منهم نور الدين الشهيد.ثم بعث إليه نصر بن علي بن منقذ الكناني بالطاعة فأقره على شيزر، وتسلم منه اللاذقية وبعرطاف وجامية ورجع . ثم رجع السلطان بعد أن ولي على حلب قسيم الدولة أقسنقر. ورغب اليه أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فأخرجه عنهم إلى ديار بكر وتوفي بها . ثم رجع السلطان إلى بغداد فدخلها في ذي الحجة من سنته ، ونزل بدار المملكة، وأهدى للخليفة هدايا كثيرة . واجتمع بالخليفة ليلاً. ثم دخل إليه في مجلسه نهاراً وأفيضت عليه الخلع . وسلم أمراء السلجوقية على الخليفة، ونظام الملك قائم يقربهم واحداً واحداً، ويعرف بهم. ثم صرح المقتدي للسلطان ملك شاه بالتفويض، وأوصاه بالعدل فقبل يده ووضعها على عيتيه، وخلع الخليفة على نظام الملك، وجاء إلى مدرسته التي فيها الحديث وأملى.

استيلاء السلطان ملك شاه على ما وراء النهر:

كان صاحب سمرقند لهذا العهد من الخانية أحمد خان بن خضر خان أخي شمس الملك الذي كان أميراً عليها ، وعمته خاتون زوجة ملك شاه. وكان رديء السيرة فبعثوا إلى السلطان يسألونه الرجوع إلى إيالته . وجاء بذلك مفتي سمرقند أبو طاهر الشافعي قدم حاجاً وأسر ذلك إلى السلطان فسار من أصبهان سنة اثنتين وثمانين، ومعه رسول الروم بالخراج المقدر عليهم فاستعجم وأحضر للفتح. ولما انتهى إلى خراسان جمع العساكر وعبر النهر بجيوش لا تحصى، وأخذ ما في طريقه من البلاد. ثم انتهى إلى بخارى فملكها وما جاورها. ثم سار إلى سمرقند فحاصرها، وأخذ بهجتها ثم رماها بالمنجنيق، وثلم سورها ودخل مني الثلمة، وملك البلد. واختفى أحمد خان، ثم جيء به أسيراً فأطلقه، وبعث به الى اصبهان وولى على سمرقند أبا طاهر عميد خوارزم ، وسار الى كاشغر فبلغ الى نور وكمن وبعث الى كاشغر بالخطبة، وضرب السكة فأطاع وحضر عند السلطان فأكرمه وخلع عليه، وأعاده الى بلده. ورجع السلطان الى خراسان. وكان بسمرقند عساكر يعرفون بالحكلية فأرادوا الوثوب بالعميد نائب السلطان، فلاطفهم ولحق ببلده خوارزم.

عصيان سمرقند وفتحها ثانيا:

كان مقدم الحكلية بسمرقند اسمه عين الدولة ، وخاف السلطان لهذه الحادثة فكاتب يعقوب تكين أخا ملك كاشغر وكانت مملكته تعرف بارياسي فاستحضره وملكه. ثم شكر له يعقوب، وحمل أعداءه من الرعية على طلب الثأر منه، وقتله بفتاوي الفقهاء ، واستبد بسمرقند وسار السلطان ملك شاه إليها سنة اثنتين وثمانين. لما انتهى الى بخارى هرب يعقوب إلى فرغانة ولحق بولايته. وجاء بعسكره مستأمنين إلى السلطان فلقوه بالطواويس من قرى بخارى، ووصل السلطان إلى سمرقند وولي عليها الأمير انز وأرسل العساكر في طلب يعقوب وأرسل إلى ملك كاشغر بالجّد في طلبه. وشعب على يعقوب عساكره ونهبوا خزائنه، ودخل على أخيه كاشغر مستجيراً به. وبعث السلطان في طلبه منه  فتردد بين المخافة والأنفة. ثم غلب عليه الخوف فقبض على أخيه يعقوب وبعثه مع ابنه وأصحابه إلى السلطان، وأمرهم أن يسملوه في طريقه فإن قنع السلطان بذلك وإلا أسلموه إليه، فلما قربوا على السلطان وعزموا على سمله بلغهم الخبر بأن طغرل بن نيال أسرى من ثمانين فرسخاً بعساكر لا تحصى، فكبس ملك كاشغر وأسره فأطلقوا يعقوب . ثم خشي السلطان شأن طغرل بن نيال وكثرة عساكره فرجع على البلد، ودس تاج الملك في استصلاح يعقوب فشفع له، ورده إلى كاشغر، ورد الطغرل ورجع هو إلى خراسان. ثم قدم إلى بغداد سنة أربع وثمانين العزمة الثانية، ووجد عليه أخوه تاج الدولة تتش صاحب الشام، وقسيم الدولة أقسنقر صاحب حلب، وبوران صاحب الرها وعمال الأطراف وأقام صنيع الميلاد ببغداد، وتأنق بما لم يعهد مثله، وأمر وزيره نظام الملك وأمراءه ببناء الدور ببغداد لنزلهم، ورجع إلى أصبهان. 

استيلاء تتش على حمص وغيرها من سواحل الشام:

لما قدم السلطان سنة أربع وثمانين، وفد عليه أمراء الشام كما قدمنا، فلما انصرفوا من عنده أمر أخاه تاج الدولة تتش أن يذهب دولة العلويين من ساحل الشام ويفتح بلادهم. وأمر أقسنقر وبوران أن يسيراً لانجاده. فلما رجعوا إلى دمشق سار إلى حمص وبها صاحبها ابن ملاعب، وقد عظم ضرره وضرر ولده على الناس فحاصرها وملكها. ثم سار إلى قلعة عرفة فملكها عنوة، ثم إلى قلعة أفامية فاستأمن إليه خادم كان بها، فأرسل إلى أمراء تتش في إصلاح حاله فسدوا عليه المذاهب، فأرسل إلى وزير اقسنقر يسعى له عند صاحبه، وعمل له على ثلاثين ألف دينار، ومثلها عروضاً فجنح إلى مصالحته، واختلف مع تتش على ذلك، وأغلظ كل منهما لصاحبه في القول فرحل أُقسنقر مغاضباً، واضطر الباقون إلى الرحيل وانتقض أمرهم.

ملك اليمن:

كان فيمن حضر عند السلطان ببغداد كما قدمناه عثمان حق أمير التركمان صاحب قرمسيس وغيرها، فأمره السلطان أن يسير في جموع التركمان للحجاز واليمن فيظهر أمرهم هناك. وفوض إلى سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد فولى عليهم أميراً اسمه ترشك. وسار إلى الحجاز فاستولى عليه، وأساء السيرة فيه، حتى جاء أمير الحجاز محمد بن هاشم مستغيثاً منهم. ثم ساروا سنة خمس وثمانين إلى اليمن، وعاثوا في  نواحيه، وملكوا عدن، وأساؤا السيرة في أهلها، وأهلكوا ترشك سابع دخولها، وأعاده أصحابه إلى بغداد فدفنوه بها.

مقتل الوزير نظام الملك :

ثم ارتحل السلطان ملك شاه إلى بغداد سنة خمس وثمانين فانتهى إلى أصبهان في رمضان، وخرج نظام الملك من بيته بعد الإفطار عائداً إلى خيمته فاعترضه بعض الباطنية في صورة متظلم فلما استدناه لسماع شكواه، طعنه بخنجر فأشواه . وعثر الباطني في أطناب الخيام، ودخل نظام الملك الخيمة فمات لثلاثين سنة من وزارته. واهتاج عسكره فركب إليه السلطان وسكن الناس ويقال إن السلطان ملك شاه وضع الباطني على قتله لما وقع منه ومن بنيه من الدالة والتحكم في الدولة. وقد كان السلطان دس على ابنه جمال الدين من قتله سنة خمس وسبعين. كان بعض حواشي السلطان سعى به فسطا به جمال الدين وقتله فأحقد السلطان بذلك، وأخذ عميد خراسان فقتله خنقاً فدس لخادم من خدم جمال الدين بذلك ، وأنهم إذا تولوا قتله بأنفسهم كان أحفظ لنعمتهم فسقاه الخادم سماً ومات.وجاء السلطان إلى نظام الملك وأغراه به. وما زال بطانة السلطان يغضون منه، ويحاولون السعاية فيه إلى أن ولي حافده عثمان بن جمال الملك على مرو، وبعث السلطان إليها كردن من أكابر المماليك والأمراء شحنة. ووقعت بينه وبين عثمان منازعة في بعض الأيام فأهانه وحبسه، ثم أطلقه. وجاء إلى السلطان شاكياً فاستشاط غضباً، وبعث فخر الملك ألب أرسلان الى نظام الملك وأغراه به وما زال يقول: إن كنت تابعاً فقف عند حدك، وإن كنت شريكي في سلطاني فافعل ما بدا لك. وقرر عليه فعل حافده وسائر بنيه في ولايتهم، وأرسل معه نكبرذ من خواصه ثقة على ما يؤديه من القول، ويجيبه الآخر فانبسط لسان نظام الملك يعدد الوسائل منه، والمدافعة عن السلطان، وجمع الكلمة، وفتح الأمصار في كلام طويل حملته عليه الدالة. وقال في آخره إن شاء فله مؤيد مروآتي، ومتى أطعت هذه زالت تلك فليأخذ حذره.ثم زاد في انبساطه وقال: قولوا عني ما أردتم فإن توبيخكم نتأ في عضدي. ومضى نكبرذ فصدق السلطان الخبر، وجاء الآخرون، وحاولوا الكتمان فلم يسعهم لما وشى نكبرذ بجلية القول فصدقوه كما صدقه. ومات نظام الملك بعدها بقليل، ومات السلطان بعده بنحو شهر. وكان أصل نظام الملك من طوس من أبناء الدهاقين اسمه أبو علي الحسن بن علي بن إسحق ذهبت نعمة آبائه، وماتوا فنشأ يتيماً. ثم تعلم وحذق في العلوم والصنائع، وعلق بالخدم السلطانية في بلاد خراسان وغزنة وبلخ. ثم لازم خدمة أبي علي بن شاذان وزير ألب أرسلان. ومات ابن شاذان فأوصى به السلطان ألب أرسلان. وعرفه كفايته فاستخدمه فقام بالأمور أحسن قيام فاستوزره.ثم هلك السلطان ألب أرسلان وهو في وزارته. ثم استوزره ملك شاه بعد أبيه،وكان عالماً جواداً صفوحاً مكرماً للعلماء وأهل الدين ملازما لهم في مجلسه. شيد المدارس، وأجرى فيها الجرايات الكثيرة. وكان يملي الحديث، وكان ملازماً للصلوات محافظاً على أوقاتها. وأسقط في أيامه كثيراً من المكوس والضرائب، وأزال لعن الاشعرية من المنابر بعد أن فعله الكندوي من قبله وحمل عليه السلطان طغرلبك، وأجراهم مجرى الرافضة وفارق إمام الحرمين، وابو القاسم القشيري البلاد من أجل ذلك، فلما ولي ألب أرسلان حمله نظام الملك على إزالة ذلك، ورجع العلماء إلى أوطانهم. ومناقبه كثيرة، وحسبك من عكوف العلماء على مجلسه، وتدوينهم الدواوين باسمه. فعل ذلك أمام الحرمين وأشباهه. وأما مدارسه فقد بنى النظامية ببغداد، وناهيك بها، ورتب الشيخ أبا إسحق الشيرازي للتدريس بها. وتوفي سنة ست وسبعين فرتب ابنه مؤيد الملك مكانه أبا سعيد المتولي فلم يرضه نظام الملك ؛ وولى فيها الإمام أبا نصر الصباغ صاحب الشامل ومات أبو نصر في شعبان من تلك السنة فولي أبو سعيد من سنة ثمان وسبعين، ومات فدرس بعده الشريف العلوي أبو القاسم الدبوسي ، وتوفي سنة اثنتين وثمانين وولي تدريسه بعدها أبو عبد الله الطبري ، والقاضي عبد الوهاب الشيرازي بالنوبة يوماً بيوم. ثم ولي تدريسها الإمام أبو حامد الغزالي سنة أربع وثمانين، واتصل حكمها على ذلك. وفي أيامه عكف الناس على العلم واعتنوا به، لما كان من حسن أثره في ذلك والله أعلم.

وفاة السلطان ملك شاه وولاية ابنه محمود:

ثم لما سار السلطان بعد مقتل نظام الملك إلى بغداد، ودخلها آخر رمضان، وكان معه في الدولة أبو الفضل الهروستماني وزير زوجته الخاتون الجلالية من الملوك الخانية فيما وراء النهر، وكان أشد الناس سعاية في نظام الملك، وعزم السلطان أن يستوزره لأول دخوله بغداد فعاقت المنية عن ذلك، وطرقه المرض ثالث الفطر، وهلك منتصف شوال سنة خمس وثمانين. وكانت زوجته تركمان خاتون الجلالية عنده في بغداد، وابنها محمود غائباً في أصبهان فكتمت موته، وسارت بشلوه إلى أصبهان، وتاج الملك في خدمتها. وقدمت بين يديها قوام الدين كربوقا الذي ولي الموصل من بعد، وأرسلته بخاتم السلطان إلى مستحفظ القلعة فملكها، وجاءت على أثره، وقد أفاضت الأموال في الأمراء والعساكر ودعتهم إلى بيعة ولدها محمود، وهو ابن أربع سنين فأجابوا إلى ذلك وبايعوه. وأرسلت إلى المقتدر في الخطبة له فأجابها على أن يكون الأمير أنز قائماً بتدبير الملك، ومجد الملك مشيراً وله النظر في الأعمال والجباية فنكرت ذلك أمه خاتون، وكان السفير أبا حامد الغزالي فقال لها إن الشرع لا يجيز ولاية ابنك فقبلت الشرط، وخطب له آخر شوال سنة خمس وثلاثين، وأرسلت تركمان خاتون إلى أصبهان في القبض على بركيارق فحبس بأصبهان. وكان السلطان ملك شاه من أعظم ملوك السلجوقية ؛ ملك من الصين إلى الشام، ومن أقصى الشام إلى اليمن، وحمل إليه ملوك الروم الجزية ومناقبه عظيمة مشهورة .

منازعة بركيارق لأخيه محمود وانتظام سلطانه:

كان بركيارق أكبر أولاد السلطان ملك شاه، وكانت أمه زبيدة بنت ياقوتي بن داود، وياقوتي عم ملك شاه. ولما حبس بركيارق وخافت عليه أمه زبيدة دست لمماليك نظام الملك فتعصبوا له، وكانت خاتون غائبة ببغداد مع ابنها محمود لفقد سلطانه فوثب المماليك النظامية على سلاح لنظام الملك بأصبهان. وأخرجوا بركيارق من محبسه، وخطبوا له، وبلغ الخبر إلى خاتون فسارت من بغداد. وطلب العسكر تاج الملك في عطائهم فهرب إلى قلعة بوجين لينزل منها الأموال، وامتنع فيها، ونهب العسكر خزائنه، وساروا إلى أصبهان وقد سار بركيارق والنظامية إلى الريّ فأطاعه أرغش النظامي في عساكره، وفتحوا قلعة طغر عنوة، وبعثت خاتون العساكر لقتال بركيارق فنزع إليه سبكرد وكمستكن الجاندار وغيرهما من أمراء عساكره، ولقيهم بركيارق فهزمهم وسار في أثرهم إلى أصبهان فحاصرهم بها. وكان عز الملك بأصبهان، وكان والياً على خوارزم فحضر عند السلطان قبل مقتل أبيه، وبقي هناك بعد وفاة السلطان فخرج إلى بركيارق، ومعه جماعة من اخوانه فاستوزره بركيارق، وفوض إليه الأمور كما كان أبوه.

مقتل تاج الملك:

وهو أبو الغنائم المرزبان بن خسرو فيروز، كان وزيرا لخاتون وابنها. ولما هرب إلى قلعة بوجين خوفاً من العسكر كما قدمنا، وملكت خاتون أصبهان عاد إليها واعتذر بأن صاحب القلعة حبسه فقبلت عذره وبعثته مع العساكر لقتال بركيارق. فلما انهزموا حمل أسيراً عنده، وكان يعرف كفاءته فأراد أن يستوزره، وكان النظامية ينافرونه ويتهمونه بقتل نظام الملك، وبذل فيهم أموالاً فلم يغنه، ووشوا به فقتلوه في المحرم سنة ست وثمانين. وكان كثير الفضائل جم المناقب ، وإنما غطى على محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك. وهو الذي بنى تربة الشيخ أبي اسحق الشيرازي والمدرسة بازائها، ورتب بها أبا بكر الشاشي مدرّساً.

مهلك محمود:

ثم هلك السلطان محمود وهو محاصر بأصبهان لسنة من ولايته، واستقل بركيارق بالملك.

منازعة تتش بن ألب أرسلان وأخباره الى  حين انهزامه:

كان تاج الدولة تتش أخو السلطان ملك شاه صاحب الشام، وسار إلى لقاء أخيه ملك شاه ببغداد قبيل موته فلقيه خبر موته بهيت فاستولى عليها، وعاد إلى دمشق فجمع العساكر وبذل الأموال، وأخذ في طلب الملك فبدأ بحلب، ورأى صاحبها قسيم الدولة أقسنقر اختلاف ولد ملك شاه وحقرهم فأطاع تاج الدولة تتش، وتبعه في طاعته. وبعث الى باعي يسار صاحب انْطاكِية، وإلى مران صاحب الرها وحران يشير عليهما بمثل ذلك فأجابا وخطبوا لتاج الدولة تتش في بلادهم وساروا معه إلى الرحب فملكها، ثم إلى نصيبين فملكها واستباحها وسلمها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش. وساروا إلى الموصل وقدم عليه الكافي بن فخر الدولة ابن جهير من جزيرة ابن عمر فاستوزره، وكانت الموصل قد ملكها علي بن شرف الدولة مسلم بن قريش، وأمه صفية عمة ملك شاه، وأطلقت تركمان خاتون عمه إبراهيم فجاء، وملك الموصل من يده كما تقدم في أخبار بني المقلد ، فبعث إليه تتش في الخطبة وأن يهيئ له الطريق إلى بغداد فامتنع، وزحف لحربه فانهزم العرب، وسيق إبراهيم أسيراً إلى تتش في جماعة من أمراء العرب فقتلوا صبراً، ونهبت أموالهم، واستولى تتش على الموصل وغيرها. واستناب عليها علي بن مسلم وهو ابن صفية عمة أبيه. وبعث إلى بغداد في الخطبة، ووافقه كوهراس الشحنة، وحرر الجواب بانتظار الرسل من العسكر فسار تتش إلى ديار بكر فملكها. ثم سار الى اذربيجان، وزحف بركيارق يعتذر من سعيه مع تتش فعزله بركيارق بسعاية كمستكن الجاندار بقسيم الدولة، وأقام عوضه شحنة ببغداد الأمير مكرد، وأعطاه أقطاعه، وسار إلى بغداد. ثم رده من دقوقالكلام بلغه عنه وقتله وولى على شحنة بغداد فتكين حب.

مقتل اسمعيل بن ياقوتي:

كان اسمعيل بن ياقوتي بن داود بن عم ملك شاه وخال بركيارق أميراً على أذربيجان فبعثت تركمان خاتون إليه فأطمعته في الملك وأنها تتزوج به فجمع جموعاً من التركمان وغيرهم، وسار لحرب بركيارق فلقيه عند كرخ ونزع عنه مكرد إلى بركيارق فانهزم اسمعيل إلى أصبهان فخطبت له خاتون، وضربت اسمه على الدنانير بعد ابنها محمود. وأرادت العقد معه فمنعها الأمير أنز مدبر الدولة، وصاحب العسكر وخوفهم وفارقهم. ثم أرسل أخته زبيدة أم بركيارق فأصلحت حاله مع ابنها، وقدم عليه فأكرمه. واجتمع به رجال الدولة كمستكن الجاندار وأقسنقر وبوران، وكشفوا سره في طلب الملك. ثم قتلوه وأعلموا بركيارق فأهدر دمه.

مهلك  توران شاه بن قاروت بك:

كان توران شاه بن قاروت بك صاحب فارس، وأرسلت خاتون الجلالية الأمير أنز لفتح فارس سنة سبع وثمانين فهزمه أولاً. ثم أساء السيرة مع الجند فلحقوا بتوران شاه، وزحف إلى أنز فهزمه واسترد  البلد من يده، وأصاب توران شاه في المعركة بسهم هلك منه بعد شهرين.

وفاة المقتدي وخلافة المستظهر وخطبته لبركيارق:

ثم توفي المقتدي منتصف محرم سنة سبع وثمانين، وكان بركيارق قد قدم بغداد

بعد هزيمة عمه تتش فخطب له وحملت إليه الخلع فلبسها، وعرض التقليد على المقتدي فقرأه وتدبره وعلم فيه، وتوفي فجأة وبويع لابنه المستظهر بالخلافة فأرسل الخلع والتقليد إلى بركيارق، وأخذت عليه البيعة للمستظهر.

استيلاء تتش على البلاد بعد مقتل أقسنقر ثم  هزيمة بركيارق :

لما عاد تتش منهزماً من أذربيجان جمع العساكر واحتشد الأمم وسار من دمشق إلى حلب سنة سبع وثمانين، واجتمع قسيم الدولة أقسنقر وبوران، وجاء كربوقا مدداً من عند بركيارق، وساروا لحرب تتش ولقوه على ستة فراسخ من حلب فهزمهم، وأخذ أقسنقر أسيراً فقتله، ولحق كربوقا وبوران بحلب، واتبعهما تتش فحاصرهما، وملك حلب وأخذهما أسيرين وبعث إلى حران والرها في الطاعة فامتنعوا فبعث إليهم برأس بوران، وملك البلدين، وبعث بكربوقا إلى حمص فحبسه بها. وسار إلى الجزيرة فملكها، ثم إلى ديار بكر وخلاط فملكها، ثم إلى أذربيجان. ثم سار إلى همذان، ووجد بها فخر الدولة بن نظام الملك، جاء من خراسان إلى بركيارق فلقيه الأمير قماج من معسكر محمود بأصبهان فنهب ماله، ونجا إلى همذان فصادف بها تتش فأراد قتله، وشفع فيه باغي بسار، وأشار بوزارته لميل الناس إلى بيته، واستوزره. وكان بركيارق قد سار إلى أقسيس فخالفه تتش إلى أذربيجان وهمذان فسار بركيارق من نصيبين، وعبر دجلة من فوق الموصل إلى إربل. فلما تقارب العسكران أشرف الأمير يعقوب بن أنق من عسكر تتش فكبس بركيارق، وهزمه ونهب سواده، ولم يبق معه إلا برسق وكمستكن الجاندار والبارق من أكابر الأمراء فلجأوا إلى أصبهان، وكانت خاتون أم محمود قد ماتت فمنعه محمود وأصحابه من الدخول. ثم خرج إليه محمود وأدخله إلى أصبهان واحتاطوا عليه، وأرادوا أن يسلموه فرفض محمود فأبقوه.

مقتل تتش واستقلال بركيارق بالسلطان:

ثم مات محمود منسلخ شوال سنة سبع وثمانين، واستولى بركيارق على أصبهان.

وجاء مؤيد الملك بن نظام الملك فاستوزره عوض أخيه عز الملك، وكان قد توفي بنصيبين فكاتب مؤيد الملك الأمراء، واستمالهم فرجعوا إلى بركيارق، وكشف جمعه. وبعث تاج الملك تتش بعد هزيمة بركيارق يوسف بن أفق التركماني شحنة إلى بغداد في جمع من التركمان فمنع من دخول بغداد. وزحف إليه صدقة بن مزيد صاحب الحلة فقاتله في يعقوب، وانهزم صدقة إلى الحله، ودخل يوسف بن أنق بغداد وأقام بها.وكان تتش لما هزم بركيارق سار إلى همذان، وقد تحصن بها بعض الأمراء فاستأمن إليه، واستولى على همذان وسار في نواحي أصبهان، وإلى مرو. وراسل الأمراء بأصبهان يستميلهم فأجابوه بالمقاربة والوعد، وبركيارق مريض. فلما أفاق من مرضه خرج إلى جرباذقان، واجتمع إليه من العسكر ثلاثون ألفاً، ولقيه تتش فهزمه بركيارق، وقتله بعض أصحاب أقسنقر بثأر صاحبه. وكان فخر الملك بن نظام الملك أسيراً عنده فانطلق عند هزيمته، واستقامت أمور بركيارق وبلغ الخبر إلى يوسف.

استيلاء كربوقا على الموصل:

قد كنا قدمنا أن تاج الدولة تتش أسر قوام الدولة أبا سعيد كربوقا، وحبسه بعد ما قتل أقسنقر بوزان فأقام محبوساً بحلب إلى أن قتل تتش، واستولى رضوان ابنه على حلب فأمره السلطان بركيارق بإطلاقه لأنه كان من جهة الأمير انز فأطلقه رضوان، وأطلق أخاه التوسطاش فاجتمعت عليهما العساكر. وكان بالموصل علي بن شرف الدولة مسلم منذ ولاه عليها تتش بعد وقعة المضيع. وكان بنصيبين أخوه محمد بن مسلم، ومعه مروان بن وهب وأبو الهيجاء الكردي، وهو يريد الزحف إلى الموصل فكاتب كربوقا واستدعاه للنصرة، ولقيه على مرحلتين من نصيبين فقبض عليه كربوقا، وسار إلى نصيبين وحاصرها أربعين يوماً وملكها. ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه فتحول عنها إلى بلد وقتل بها صمد بن شرف الدولة تغريقاً، وعاد إلى حصار الموصل ونزل منها على فرسخ، واستنجد علي بن مسلم بالأمير مكرس صاحب جزيرة ابن عمر فجاء لانجاده، واعترضه التوسطاش فهزمه. ثم سار إلى طاعة كربوقا، وأعانه على حصار الموصل. ولما اشتد بصاحبه علي بن مسلم الحصار بعد تسعة أشهر هرب عنها، ولحق بصدقة بن مزيد. ودخل كربوقا إلى الموصل وعاث التوسطاش في أهل البلد ومصادرتهم، واستطال على كربوقا فأمر بقتله ثالثة دخوله سنة تسع وثمانين. وسار كربوقا إلى الرحبة فملكها، وعاد فأحسن السيرة في أهل الموصل، ورضوا عنه. واستقامت أموره.

استيلاء أرسلان أرغون أخي السلطان ملك شاه على خراسان ومقتله:

كان أرسلان أرغون مقيماً عند أخيه السلطان ملك شاه ببغداد، فلما مات وبويع ابنه محمود سار إلى خراسان في سبعة من مواليه، واجتمعت عليه جماعة، وقصد نيسابورفامتنعت عليه فعاد إلى مرو، وكأن بها شحنة الأمير قودر من موالي السلطان ملك شاه، وكان أحد الساعين في قتل نظام الملك فمال إلى طاعة أرغون، وملكه البلد. وسار إلى بلخ، وكان بها فخر الدين بن نظام الملك ففر عنها، ووصل إلى همذان ووزر لتاج الدولة تتش كما مر. وملك أرسلان أرغون بلخ وترمذ ونيسابور وسائر خراسان، وأرسل إلى السلطان بركيارق وزيره مؤيد الملك في تمرير خراسان عليه بالضمان كما كانت لجده داود ما عدا نيسابور فاعرض عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود وعمه تتش. ثم عزل بركيارق مؤيد الملك عن الوزارة بأخيه فخر الملك.واستولى فخر الملك ألب أرسلان على أمور فقطع أرسلان مراسلة بركيارق،فبعث حينئذٍ عمه بورسوس في العساكر لقتاله فانهزم أرسلان إلى بلخ، واقام بورسوس بهراة، وسار أرسلان إلى مرو وفتحها عنوة وخربها واستباحها. وسار إليه بورسوس من هراة سنة ثمان وثمانين، وكان معه مسعود بن تاخر الذي كان أبو مقدم عساكر داود، ومعه ملك شاه من أعاظم الأمراء فبعث إليه أرسلان واستماله فمال إليه، ووثب لمسعود بن تاخر وابنه فقتلهما في خيمته فضعف أمر بورسوس وانفض الناس عنه، وجيء به أسيراً إلى أخيه أرسلان أرغون فحبسه بترمذ. ثم قتله في محبسه بعد سنة. وقتل أكابر خراسان، وخرب أسوارها: مثل سودان ومرو الشاهجان وقلعة سرخس ونهاوند ونيسابور، وصادر وزيره عماد الملك بن نظام الملك على ثلثمائة ألف دينار. ثم قتله واستبد بخراسان، وكان مرهف الحد كثير العقوبة لمواليه، وأنكر على بعضهم يوماً بعض فعلاته وهو في خلوة، وضربه فطعنه الغلام بخنجر معه فقتله، وذلك في المحرم من سنة تسعين.

ولاية سنجر على خراسان:

ولما قتل أرسلان أرغون ملك أصحابه من بعده صبياً صغيراً من ولده، وكان السلطان بركيارق قد جهز العساكر لخراسان للقتال ومعه الآتابك قماج، ووزيره علي بن الحسن الطغرائي. وانتهى إليه مقتل أرسلان بالدامغان فاقاموا حتى لحقهم السلطان بركيارق، وساروا إلى نيسابور فملكها في جمادى سنة تسعين وأربعمائة، وملك سائر خراسان، وسار إلى بلخ. وكان أصحاب أرسلان قد هربوا بابنه الذي نصبوه للملك إلى جبل طخارستان، وبعثوا يستأمنون له ولهم فأمنهم السلطان، وجاؤا بالصبي في آلاف من العساكر فأكرمه السلطان، وأقطعه ما كان لأبيه أيام ملك شاه، وانفض عنه المعسكر الذين كانوا معه، وافترقوا على أمراء السلطان، وأفردوه فضمته أم السلطان إليها، وأقامت من يتولى رتبته، وسار السلطان إلى ترمذ فملكها، وخطب له بسمرقند، ودانت له البلاد، وأقام على بلخ سبعة أشهر. ثم رجع وترك أخاه سنجر نائباً بخراسان.

ظهور المخالفين بخراسان:

لما كان السلطان بخراسان خالف عليه محمود بن سليمان من قرابته، ويعرف بأمير أميران. وسار إلى بلخ واستمد صاحب غزنة من بني سبكتكين فأمّده بالعساكر والخيول، على أن يخطب له فيما يفتح من خراسان فقويت شوكته، فسار إليه الملك سنجر، وكبسه فانهزم وجيء به اسيراً فسمله. ولما انصرف السلطان عن خراسان سار نائب خوارزم واسمه اكنجي في اتباعه، وسبق إلى مرو فتشاغل بلذاته ، وكان بها الأمير تورد قد تشاغل عن السلطان، واعتذر بالمرض فداخل بارقطاش من الأمراء في قتل أكنجي صاحب خوارزم فكبسه في طائفة من أصحابه، وقتلوه وساروا إلى خوارزم فملكوها مظهرين أن السلطان ولاهما عليها. وبلغ الخبر إلى السلطان، وكان قد بلغه في طريقه خروج الأمير أنز بفارس عن طاعته فمضى إلى العراق، وأعاد داود الحبشي ابن التونطاق في العساكر لقتالهما فسار إلى العراق من هراة، وأقام في انتظار العسكر فعاجلاه فهرب أمامهما. وهرب جيحون، وتقدم بارقطاش قبل تودن وقاتله فهزمه داود وأسره، وبلغ الخبر إلى تودن فثار به عسكره ونهبوا اثقاله، ولحق بسنجار فقبض عليه صاحبها. ثم أطلقه فلحق بالملك سنجر ببلخ فقتله سنجر، وأفرغ هو طاعته في نظمه، وجمع العساكر على طاعته. ثم مات قريباً وبقي بارقطاش أسيراً عند داود إلى أن قتل".

طغرل بك#البصرة#الموصل