مسيحيون عرب

يعود البحث في هذا الموضوع ذات الخلفيات الطائفية والعرقية الى مطلع القرن الماضي عندما بدأت الامبراطورية العثمانية تفقد سيطرتها وتتـدخـل الدول الاوروبية الاستعمارية بإحتضانها لأقليات عاشت سنين طويلة في كنف هذه الامبراطورية . وأيقظ هذا التدخل الشعور الدفين لدى هذه الاقليات وبدأت تفتش عن خلفيات تؤهلها لاقامة كيانات مستقلة .

اتخذ هذا " الوعي " اشكالا متعددة في عالمنا العربي. فمن مطالب بدولة مستقلة على خلفية إثنية او عرقية كالأكراد والبربر ، ومن مطالب بدولة طائفية مفتشاً لها عن جذور عرقية قد تعود الى زمن قديم غابر مثل بعض الموارنة في
لبنان وسوريا والقبط في مصر والافريقيين المستعربين في جنوب السودان . ووجدت هذه الحركات مؤيدين اوروبين راغبين بتفكيك الامبراطورية العثمانية . فكان التأيد الغربي يستعمل هذه الحركات ويشجعها ، وكانت الحركات الاستقلالية بدورها تتمادى في اعتمادها على حلفائها الجدد ، حتى انها وجدت في تحالفها وتماديها ، ان لا خوف عليها من مد اليد الى الحركة الصهيونية التي تشاركها اندفاعها الى تأسيس دولة عنصرية دينية على حساب ارض فلسطين وأهلها .

تعاظم شأن هذه الحركات بعد زوال الامبراطورية العثمانية وشجعها الغرب المنهمك آنذاك باعادة رسم خارطة العالم العربي ، وبخاصة في مشرقه حيث وضعوا له إطاراً جديداً دعوه معاهدة سايكس بيكو قوامها فرنسا وبريطانيا ومن ورائهما الولايات المتحدة المهتمة بنوع خاص باقامة كيان لليهود الهاربين من العداء الاوروبي .

كان
لبنان اضعف الحلقات وأكثرها تعرضاً للتفتيت الطائفي ، فاخترع له بعض الغلاة وبخاصة بعض الموارنة الذين عرفوا في التاريخ القومي والديني بتعلقهم الكبير بإستقلاليتهم حتى ولو كان لهذا الاستقلال خيوطه الرفيعة التي تربطهم بمواطنيهم المسلمين ، واخرى ارفع تربطهم بكنيستهم في روما . فكانوا في كلا الحالتين يضعون رجلاً في " الداخل " واخرى " في الخارج " .

كان للموارنة منَظروهم الذين ربطوا تاريخ الموارنة والمسيحيين المشرقيين بشكل عام بأصول فينيقية متنازليين عن الرباط العربي وحتى السرياني . فأصبح الماروني ، بحسب هؤلاء المنظرين ، فينيقياً ، وقد أخطأوا في هذا الوصل . فالفينيقيون لم يسكنوا الجبال ابداً ، حيث تجمع الموارنة ، بل ظلوا منتشرين في سواحل لبنان و
سوريا وفلسطين . وكذلك عتّم هؤلاء المنظرين على أصل الفينيقيين العربي .

قامت في الثلاثينات من القرن الماضي حركات واحزاب إتخذت من الفينيقية شعاراً لها ، تميزاً لها عن العروبة فتصدت لها حركات واحزاب تدعو لعروبة قومية وليس اثنية . وكان لقيام اسرائيل على اساس عنصري وديني مما شجع هذه الحركات والاحزاب الى التمسك بحزم وقوة بلبنان فينيقي . فلبنان ، رغم تطور نظرتهم مؤخراً بعد تطعيمها بشيء من العروبة، اضحى بالنسبة الي هذه الفئات وطن المسيحيين المشرقيين تماماً كما هي اسرائيل وطن اليهود القادمين بأكثرهم من بلدان اوروبية وبخاصة من البلدان الاوروبية الشرقية حيث كان لهم تاريخياً تجمعاً كبيراً بعد تحول قبائل الخزر الى الديانة اليهودية .

ظل الصراع بين انصار العروبة وانصار الفينيقية يتفاعل طيلة السنوات السبعين من القرن الماضي . ورغم أن الحماس للفينيقية قد فقد الكثير من زخمه مؤخراً ، فان عددا من مسيحيي لبنان وسوريا المنتشرين في الولايات المتحدة عادوا الى رفع شعار الاصول الفينيقية .

يقول مؤرخان لبنانيان عرفا بتفوقهما الثقافي هما الدكتور
نقولا زياده والدكتور كمال صليبي ان العودة الى الأصول الفينيقية خطأ تاريخي . فالدكتور زياده ، في كتابه " المسيحية والعرب "ً ص 18 يقول متحدثاً عن الموجات البشرية التي جاءت من شبه الجزيرة العربية ما يلي : " هذه الموجات هي الأكدية ( او الاكادية ) ولعلها الاقدم (الى ارض الرافدين) ويبدو ان الموجة الامورية ( العمورية ) التي اتجهت نحو بلاد الشام جاءت بعدها . ولعلها كانت معاصرة للموجة البابلية ثم الاشورية . وهاتان الموجتان حملتا شعوبهم الى ارض الرافدين . وعندنا الموجة الكنعانية ( ويدخل في عدادها او تحت جناحها الفينيقيون وكنعانيو فلسطين بالذات ) . وثمة الموجة الآرامية " . ويضيف في الصفحة ذاتها " الشعوب التي جاءت من الجزيرة اطلق عليها اسم الشعوب السامية . ولعل التسمية تقوم على أساس اللغة أكثر من أي شيء آخر . فاللغات التي تكلم بها هؤلاء القوم تسمى اللغات السامية ".

ويقول الدكتور كمال صليبي : " من الممكن جداً ان يكون الموارنة مجموعة عربية الاصل . وقد كانوا آخر قبيلة مسيحية عربية هاجرت من الجزيرة العربية الى سورية قبل الاسلام . ومن المؤكد ان لغتهم ، منذ القرن التاسع ، كانت عربية مما يشير الى انهم بالاصل قبيلة عربية . ولا يهم ان تصبح لغتهم الطقسية سريانية ، لأن السريانية كانت لغة الطقوس عند العرب المسيحيين او الاراميين العرب في الجزيرة العربية كما في سورية والعراق.". ويشير صليبي الى ان البطريرك اسطفان دويهي ، وهو مؤرخ ماروني عاش في القرن السابع عشر، يقول بأن الموارنة نقلوا مركزهم من وادي العاصي الى جبل لبنان بسبب الاضطهاد البيزنطي وليس الاسلامي .

وأكد المؤرخ الاغريقي هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد بان الفينيقيين كانوا قبائل عربية عاشت على الشواطىء العربية
للبحر الأحمر .

من المستغرب اليوم أن تأتي هذه الدعوة للعودة الى الجذور الفينيقية من مسيحيين عرب يعيشون في الولايات المتحدة ، في بلد كبير قام على شعوب من أصول عرقية ودينية متعددة تأمركوا جميعاً في وطن واحد إسمه الولايات المتحدة . ولا تتذكر هذه الاثنيات جذورها الا في اعيادها وفلكلورها ومآكلها . فليس من ايرلندي او ايطالي او بولوني الخ.. يريد كيانا مستقلاً له هناك . فالجميع قد انصهر في أمة واحدة جديدة متنوعة الاصول متوحدة الحاضر والمستقبل . واذا كانت الولايات المتحدة ، حكومة وشعباً ، تغض الطرف عن الدعوات الانفصالية من كردية وبربرية ومسيحية وتشجعها احياناً فلأن هذه الدعوات تخدم سياستها المنحازة لاسرائيل في المنطقة لا أكثر ولا أقل.

عاش المسيحيون في الشرق منذ ما قبل الفتح الاسلامي . وهم اليوم يشكلون أقليات لها أهميتها ونفوذها . ففي لبنان حوالى مليون وثلاثمئة الف مسيحي أي ربع سكان البلاد غالبيتهم من الموارنة . وفي سوريا حولى مليوني مسيحي ، أي اكثر بقليل من عشرة بالمئة من الشعب بينهم عدد كبير من الموارنة . ويعيش في مصر حوالى خمسة ملايين قبطي ، أي حوالى 8 بالمئة من السكان . وما يزال مليون مسيحي يعيشون في العراق رغم الهجرات الكبيرة المتكررة . أما المسيحيون الفلسطينيون فعددهم لا يقل عن ستمئة الف مسيحي .

المسيحيون هؤلاء لم يعزلوا انفسهم ابداً عن مواطنيهم ، بل أغنوا مجتمعاتهم بعطائهم المادي والفكري ، وما يزالون على هذا العطاء . والمحاولة المتجددة اليوم لفصلهم عن عروبتهم محاولة يصعب لها ان تحقق شيئاً . فالمسيحي ، وبخاصة المقيم ، سيظل مسيحياً عربياً لا يفرقه عن العرب الاخرين سوى طريقة تعبده لله على ما فيها من أشياء مشتركة كثيرة جداً.

واذا ما تذكرنا ان الموارنة سكنوا ، اول ما سكنوا ، في كورش ومنبج قرب
حلب بسوريا ثم نزحوا الى سهول حمص وحماه في سوريا ايضا ، ومنها جاؤوا الى جبال لبنان ، فما هي علاقتهم الأثنية بالفنيقيين الذين سكنوا فقط على طول الشواطىء من سوريا الى لبنان ففلسطين؟ . ولو سلمنا جدلاً ان هناك بعض الاصل بين الموارنة والفينيقيين أفلم " يتمورن " مسيحيون وغير مسيحيين منذ إنقراض الفنيقيين ، أم ان الفنيقيين وحدهم " تمورنوا " واستمر وجودهم عبر الاجيال الطويلة من خلال موارنة اليوم ؟ . ُثم ألم يمتزج الموارنة على مد الاجيال والعصور بغيرهم من الأقوام التي سكنت معهم او قربهم ؟ . ثم أي قوم او شعب ظل طيلة حياته ووجوده على صفاء دمه ولم يغيِرِ سوى لغته او اسمه .