مقدمة الحكواتي

مقدمة ابن خلدون

لعبد الرحمن محمد بن خلدون

 المولود في تونس عام 1332 م والمتوفي في مصر عام 1404م

هو ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي. مؤسس علم الاجتماع ومؤرخ تونسي مسلم ترك تراثا مازال تأثيره ممتدا حتى اليوم . ولد ابن خلدون في تونس عام 1332م (732هـ) بالدار الكائنة بنهج تربة الباي . أسرة ابن خلدون أسرة علم وأدب، فقد حفظ القرآن الكريم في طفولته ، وكان أبوه هو معلمه الأول. شغل أجداده في الأندلس وتونس مناصب سياسية ودينية مهمة وكانوا أهل جاه ونفوذ، نزح أهله من الأندلس في أوساط القرن السابع الهجري، وتوجهوا إلى تونس حاضرة العلوم آنذاك، وكان قدوم عائلته إلى تونس خلال حكم دولة الحفصيين . ينتهى نسبه بالصحابى وائل بن حجر الحضرمي الذى كان النبى صلى الله عليه وسلم قد دعا له :"اللهم بارك في وائل بن حجر وبارك في ولده وولد ولده إلى يوم القيامة".

درس الأدب على أبيه، ثم لم يلبث أن التحق صغيراً ككاتب للعامة، بأمير تونس أبي إسحق الحفصي. وكانت وظيفته كتابة الشارة السلطانية بين البسملة والنص. لكن هذه الوظيفة لم ترضي طموح ابن خلدون. فقصد مراكش واتصل بسلطانها أبي عنان المريني، فأصبح أمينًا لسره سنة 1356، ولكنه خانه. ولدى اكتشاف المؤامرة طرح مترجمنا في السجن.

أطلق سراحه الوزير حسن بن عمر. بيد أن ابن خلدون انضمّ إلى أعداء الوزير وحاربه تحت راية المنصور بن سليمان. ثم ما لبث أن خان المنصور وألّب عليه القبائل لمصلحة خصمه أبي سالم الذي انتصر، فأولى أبن خلدون أمانة سر الدولة. وتغيّر عليه السلطان فسعى ابن خلدون مع أحد الوزراء السابقين وقلّبه. لكن الوزير استأثر بالوزارة فغضب ابن خلدون وسافر إلى غرناطة حيث عاش مدة في بلاط ملكها ابن الأحمر ووزيره لسان الدين بن الخطيب.

ترك ابن خلدون غرناطة ليعود عام 1365 إلى بجاية وقد تملكها صديقه القديم فولي رئاسة الوزارة. وحين قتل الأمير في حربه ضد ابن عمه، فاوض ابن خلدون الغازي لتسليمه المدينة لقاء احتفاظه بالوزارة فكان له ذلك. ثم لم يلبث أن تغيّر عليه الأمير فاضطر أن يهرب.

ظلّ ابن خلدون مدة يتنقل بين قبائل بني رياح، يستميلها تارة إلى السلطان أبي حمو وأخرى يكلف باستمالتها إلى عبد العزيز المريني.. ولكن تقلباته الدائمة أحنقت الجميع عليه فسافر إلى الأندلس. ولم يلق عند بني الأحمر ما كان ينتظره لأنهم علموا بمشايعته لوزيرهم السابق المغضوب عليه لسان الدين الخطيب.

عاد ابن خلدون إلى إفريقيا فوجد نفسه بقبضة السلطان أبي حمو الذي كان ابن خلدون قد خانه سابقا باستمالته قبائل بني رياح، فكلفه السلطان بإعادة الكرة لاستمالتها مجددا، لكنه اعتذر وانصرف إلى التأليف مدة أربع سنوات. فوضع في قلعة ابن سلامة مقدمة تاريخه وشرع بكتابة التاريخ. ثم تغير عليه صديقه مفتي تونس فأوغر صدر السلطان عليه واضطر ابن خلدون أن يسافر قصد الحج إلى مكة المكرمة 1382. ولما وصل إلى القاهرة، كانت شهرته قد سبقته، فشرع يدرس في الجامع الأزهر ثم عين أستاذا للفقه المالكي ثم قاضيا للمذهب. ولكن تشدّده أثار الناس عليه فعزل.

حجّ ابن خلدون الأماكن المقدسة ثم عاد إلى تولي القضاء ولكنه عزل. في عام 1400، رافق الحملة المصرية لمحاربة تيمورلنك في الشام. لكنه اتصل بالغازي الذي أعجب بعلمه ودهائه في مفاوضته بشأن الصلح. وبعد أن أقام ضيفا عليه 35 يومًا، عاد إلى مصر وتولى القضاء المالكي عام 1401.

اعتزل ابن خلدون الحياة بعد تجارب مليئة بالصراعات والحزن على وفاة أبويه وكثير من شيوخه إثر وباء الطاعون الذي انتشر في جميع أنحاء العالم سنة 749هجرية (1348 م)وتفرغ لأربعة سنوات في البحث والتنقيب في العلوم الإنسانية معتزلا الناس في سنينه الأخيرة، ليكتب سفره الخالد أو ما عرف بمقدمة أبن خلدون ومؤسسا لعلم الاجتماع بناء على الاستنتاج والتحليل في قصص التاريخ وحياة الإنسان. واستطاع بتلك التجربة القاسية أن يمتلك صرامة موضوعة في البحث والتفكير.

امتاز ابن خلدون بسعة اطلاعه على ما كتبه القدامى على أحوال البشر وقدرته على استعراض الآراء ونقدها، ودقة الملاحظة مع حرية في التفكير وإنصاف أصحاب الآراء المخالفة لرأيه. وقد كان لخبرته في الحياة السياسية والإدارية وفي القضاء، إلى جانب أسفاره الكثيرة من موطنه الأصيل تونس و بقية بلاد شمال أفريقيا الأمازيغية إلى بلدان أخرى مثل مصر والحجاز والشام، أثر بالغ في موضوعية وعلمية كتاباته عن التاريخ وملاحظاته.

يعتبر ابن خلدون العصبية هى الركيزة الأساسية لأى نشاط سياسي أو أجتماعي ، وأن الدولة لكى تقوم تحتاج إلى رابطة تجمع الأفراد تحت لوائها وتدفعهم للتضحية من أجلها ، والعصبية تقوم بهذا الدور ،استنادا على أن الإنسان كائن اجتماعى الطبع ويحتاج إلى كيان ينتمى إليه يوفر الحاجات التى لا يستطيع توفيرها منفرداً ، إذن الفرد والقبيلة باعتبارها أكثر أشكال الروابط شيوعاً وقتئذ كلاهما بحاجة للآخر لتستقيم أمورهما معاً . ويرى ابن خلدون في المقدمة أن الفلسفة من العلوم التي استحدثت مع انتشار العمران، وأنها كثيرة في المدن ويعرِّفها قائلاً: ¸بأن قومًا من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، تُدرك أدواته وأحواله، بأسبابها وعللها، بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قِبَل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوَّموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونًا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق. ويحذّر ابن خلدون الناظرين في هذا العلم من دراسته قبل الاطلاع على العلوم الشرعية من التفسير والفقه، فيقول: ¸وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يُكبَّنَّ أحدٌ عليها وهو خِلْو من علوم الملة فقلَّ أن يَسلَمَ لذلك من معاطبها·

ولعل ابن خلدون وابن رشد اتفقا على أن البحث في هذا العلم يستوجب الإلمام بعلوم الشرع حتى لا يضل العقل ويتوه في مجاهل الفكر المجرد لأن الشرع يرد العقل إلى البسيط لا إلى المعقد وإلى التجريب لا إلى التجريد. ومن هنا كانت نصيحة هؤلاء العلماء إلى دارسي الفلسفة أن يعرفوا الشرع والنقل قبل أن يُمعنوا في التجريد العقلي.

بسبب فكر ابن خلدون الدبلوماسي الحكيم ، أُرسل أكثر من مرة لحل نزاعات دولية ، فقد عينه السلطان محمد بن الأحمر سفيراً إلى أمير قشتالة لعقد الصلح . وبعد ذلك بأعوام ، استعان أهل دمشق به لطلب الأمان من الحاكم المغولي تيمور لنك ، والتقوا بالفعل .

كثير من الكتاب الغربيين وصفوا تقديم ابن خلدون للتاريخ بأنه أول تقديم لا ديني للتأريخ ، وهو له تقدير كبير عندهم.

وربما تكون ترجمة حياة ابن خلدون من أكثر ترجمات شخصيات التاريخ الإسلامي توثيقا بسبب المؤلف الذي وضعه ابن خلدون ليؤرخ لحياته و تجاربه و دعاه التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا و غربا ، تحدث ابن خلدون في هذا الكتاب عن الكثير من تفاصيل حياته المهنية في مجال السياسة والتأليف والرحلات، ولكنه لم يضمنها كثيرا تفاصيل حياته الشخصية والعائلية.

كان ابن خلدون دبلوماسياً حكيماً أيضاً . وقد أُرسل في أكثر من وظيفة دبلوماسية لحل النزاعات بين زعماء الدول : مثلاً ، عينه السلطان محمد بن الاحمر سفيراً له إلى أمير قشتالة للتوصل لعقد صلح بينهما و كان صديقاً مقرباً لوزيره لسان الدين ابن الخطيب .كان وزيراً لدى أبي عبد الله الحفصي سلطان بجاية ، وكان مقرباً من السلطان أبي عنان المرينىقبل أن يسعى بينهما الوشاة . وبعد ذلك بأعوام استعان به أهل دمشق لطلب الأمان من الحاكم المغولي القاسي تيمورلنك ، وتم اللقاء بينهما . وصف ابن خلدون اللقاء في مذكراته. إذ يصف ما رآه من طباع الطاغية ، ووحشيته في التعامل مع المدن التي يفتحها ، ويقدم تقييماً متميزاً لكل ما شاهد في رسالة خطها لملك المغرب الخصال الإسلامية لشخصية ابن خلدون ، أسلوبه الحكيم في التعامل مع تيمور لنك مثلاً، وذكائه وكرمه ، وغيرها من الصفات التي أدت في نهاية المطاف لنجاته من هذه المحنة، تجعل من التعريف عملاً متميزاً عن غيره من نصوص أدب المذكرات العربية والعالمية. فنحن نرى هنا الملامح الإسلامية لعالم كبير واجه المحن بصبر وشجاعة وذكاء ولباقة. ويعتبر ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع. ساهم في الدعوة للسلطان أبى حمو الزيانى سلطان تلمسان بين القبائل بعد سقوط بجاية في يد سلطان قسنطينة أبى العباس الحفصى وأرسل أخاه يحيى بن خلدون ليكون وزيراً لدى أبى حمو.

وتوفي في مصر عام 1406 م، و دفن في مقابر الصوفية عند باب النصر شمال القاهرة. وقبره غير معروف.

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول العبد الفقير إلى الله تعالى الغني بلطفه عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي وفقه الله الحمد لله الذي له العزة والجبروت وبيده الملك والملكوت وله الأسماء الحسنى والنعوت العالم فلا يغرب عنه ما تظهره النجوى أو يخفيه السكوت القادر فلا يعجزه شيء في السموات والأرض ولا يفوت أنشأنا من الأرض نسما واستعمرنا فيها أجيالا وأمما ويسر لنا منها أرزاقا وقسما تكنفنا الأرحام والبيوت ويكفلنا الرزق والقوت وتبلينا الأيام والوقوت وتعتورنا الآجال التي خط علينا كتابها الموقوت وله البقاء والثبوت وهو الحي الذي لا يموت والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي العربي المكتوب في التوراة والإنجيل المنعوت الذي تمحض لفصاله الكون قبل أن تتعاقب الآحاد والسبوت ويتباين زحل واليهموت وعلى آله وأصحابه الذين لهم في صحبته وأتباعه الأثر البعيد والصيت والشمل الجميع في مظاهرته ولعدوهم الشمل الشتيت صلى الله عليه وعليهم ما اتصل بالإسلام جده المبخوت وانقطع بالكفر حبله المبتوت وسلم كثيرا أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال وتسموا إلى معرفته السوقة والأغفال وتتنافس فيه الملوك والأقيال وتتساوى في فهمه العلماء الجهال إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار
4
عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال واتسع للدول فيها النطاق والمجال وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها وأدوها إلينا كما سمعوها ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل والتقليد عريق في الآدميين وسليل والتطفل على الفنون عريض طويل ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل والحق لا يقاوم سلطانه والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه والناقل إنما هو يملي وينقل والبصيرة تنقد الصحيح إذا تعقل والعلم يجلوا لها صفحات القلوب ويصقل هذا وقد دون الناس في الأخبار وأكثروا وجمعوا تواريخ الأمم والدول في العالم وسطروا والذين ذهبوا بفضل الشهرة والإمامة المعتبرة واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل ولا حركات العوامل مثل ابن إسحق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي وغيرهم من المشاهير المتميزين عن الجماهير وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الإثبات ومشهور بين الحفظة الثقات إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم واقتفاء سننهم في التصنيف واتباع آثارهم والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون أو اعتبارهم فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار وتحمل عليها الروايات
5
والآثار ثم إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج والمسالك لعموم الدولتين صدر الإسلام في الآفاق والممالك وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملة من الدول والأمم والأمر العمم كالمسعودي ومن نحا منحاه وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التقييد ووقف في العموم والإحاطة عن الشأو البعيد فقيد شوارد عصره واستوعب أخبار أفقه وقطره واقتصر على تاريخ دولته ومصره كما فعل أبو حيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها وابن الرفيق مؤرخ أفريقية والدولة التي كانت بالقيروان ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال ويحتذي منه بالمثال ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال فيجلبون الأخبار عن الدول وحكايات الوقائع في العصور الأول صورا قد تجردت عن موادها وصفاحا انتضيت من أغمادها ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها إنما هي حوادث لم تعلم أصولها وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها يكررون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها اتباعا لمن عني من المتقدمين بشأنها ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها بما أعوز عليهم من ترجمانها فتستعجم صحفهم عن بيانها ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقا محافظين على نقلها وهما أو صدقا لا يتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها ولا علة الوقوف عند غايتها فيبقى الناظر متطلعا بعد إلى افتقاد أحوال مبادىء الدول ومراتبها مفتشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها باحثا عن المقنع في تباينها أو تناسبها حسبما نذكر ذلك كله في مقدمة الكتاب ثم جاء آخرون بإفراط الاختصار وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار مقطوعة عن الأنساب والأخبار موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل وليس يعتبر لهؤلاء مقال ولا يعد لهم ثبوت ولا انتقال لما أذهبوا من الفوائد وأخلوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين والعوائد ولما طالعت كتب القوم وسبرت غور الأمس واليوم نبهت عين القريحة من
6
سنة الغفلة والنوم وسمت التصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السؤم فأنشات في التاريخ كتابا رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا وفصلته في الأخباروالاعتبار بابا باباوأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللا وأسبابا وبنيته على أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في هذه الأعصار وملأوا أكناف الضواحي منه والأمصار وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار ومن سلف لهم من الملوك والأنصار وهما العرب والبربر إذ هما الجيلان اللذان عرف بالمغرب مأواهما وطال فيه على الأحقاب مثواهما حتى لا يكاد يتصور فيه ما عداهما ولا يعرف أهله من أجيال الآدميين سواهما فهذبت مناحيه تهذيبا وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريبا وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكا غريبا واخترعته من بين المناحي مذهبا عجيبا وطريقة مبتدعة وأسلوبا وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمنعك بعلل الكوائن وأسبابها ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها حتى تنزع من التقليد يدك وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك ورتبته على مقدمة وثلثة كتب المقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرخين الكتاب الأول في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب الكتاب الثاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد وفيه من الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة الكتاب الثالث في أخبار البربر ومواليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأحيالهم وما كان بديار المغرب خاصة من الملك والدول ثم كانت الرحلة إلى المشرق لاجتناء أنواره وقضاء الفرض والسنة في مطافه ومزاره والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره فزدت ما نقص من أخبار ملوك العجم بتلك الديار ودول الترك فيما ملكوه من الأقطار وأتبعت بها ما كتبته في تلك الأسطار وأدرجتها في ذكر المعاصرين لتلك الأجيال من أمم النواحي وملوك الأمصار والضواحي سالكا سبيل
7
الاختصار والتلخيص مفتديا بالمرام السهل من العويص داخلا من باب الأسباب على العموم إلى الإخبار على الخصوص فاستوعب أخبار الخليقة استيعابا وذلل من الحكم النافرة صعابا وأعطى لحوادث الدول عللا وأسبابا فأصبح للحكمة صوانا وللتاريخ جرابا ولما كان مشتملا على أخبار العرب والبربر من أهل المدر والوبر والإلماع بمن عاصرهم من الدول الكبر وأفصح بالذكرى والعبر في مبتدأ الأحوال ومما بعدها من الخبر سميته كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ولم أترك شيئا في أولية الأجيال والدول وتعاصر الأمم الأول وأسباب التصرف والحول في القرون الخالية والملل وما يعرض في العمران من دولة وملة ومدينة وحلة وعزة وذلة وكثرة وقلة وعلم وصناعة وكسب وإضاعة وأحوال متقلبة مشاعة وبدو وحضر وواقع ومنتظر إلا واستوعبت جمله وأوضحت براهينه وعلله فجاء هذا الكتاب فذا بما ضمنته من العلوم الغريبة والحكم المحجوبة القريبة وأنامن بعدها موقف بالقصور بين أهل العصور معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا القضاء راغب من أهل اليد البيضاء والمعارف المتسعة الفضاء في النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة والاعتراف من اللوم منجاة والحسنى من الإخوان مرتجاه والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل وبعد أن استوفيت علاجه وأنرت مشكاته للمستبصرين وأذكيت سراجه وأوضحت بين العلوم طريقه ومنهاجه وأوسعت في فضاء المعارف نطاقه وأدرت سياجه أتحفت بهذه النسخة منه خزانة مولانا السلطان الإمام المجاهد الفاتح
8
الماهد المتحلي منذ خلع التمائم ولوث العمائم بحلى القانت الزاهد المتوشح بزكاء المناقب والمحامد وكرم الشمائل والشواهد بأجمل من القلائد في نحور الولائد المتناول بالعزم القوي الساعد والجد المواتي المساعد والمجد الطارف والتالد ذوائب ملكهم الراسي القواعد الكريم المعالي والمصاعد جامع أشتات العلوم والفوائد وناظم شمل المعارف والشوارد ومظهر الآيات الربانية في فضل المدارك الإنسانية بفكره الثاقب الناقد ورأيه الصحيح المعاقد النير المذاهب والعقائد نور الله الواضح المراشد ونعمته العذبة الموارد ولطفه الكامن بالمراصد للشدائد ورحمته الكريمة المقالد التي وسعت صلاح الزمان الفاسد واستقامة المائد من الأحوال والعوائد وذهبت بالخطوب الأوابد وخلعت على الزمان رونق الشباب العائد وحجته التي لا يبطلها إنكار الجاحد ولا شبهات المعاند أمير المؤمنين أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا السلطان المعظم الشهير الشهيد أبي سالم إبراهيم ابن مولانا السلطان المقدس أمير المؤمنين أبي الحسن ابن السادة الأعلام من ملوك بني مرين الذين جددوا الدين ونهجوا السبيل للمهتدين ومحوا آثار البغاة المفسدين أفاء الله على الأمة ظلاله وبلغه في نصر دعوة الإسلام آماله وبعثته إلى خزانئهم الموقفة لطلبة العلم بجامع القرويين من مدينة فاس حاضرة ملكهم وكرسي سلطانهم حيث مقر الهدى ورياض المعارف خضلة الندى وفضاء الأسرار
9
الربانية فسيح المدى والإمامة الفارسية الكريمة العزيزة إن شاء الله بنظرها الشريف وفضلها الغني عن التعريف تبسط له من العناية مهادا وتفسح له في جانب القبول آمادا فتوضح بها أدلة على رسوخه وأشهادا ففي سوقها تنفق بضائع الكتاب وعلى حضرتها تعكف ركائب العلوم والآداب ومن مدد بصائرها المنيرة نتائج القرائح والألباب والله يوزعنا شكر نعمتها ويوفر لنا حظوظ المواهب من رحمتها ويعيننا على حقوق خدمتها ويجعلنا من السابقين في ميدانها المحلين في حومتها ويضفي على أهل إيالتها وما أوي من الإسلام إلى حرم عمالتها لبوس حمايتها وحرمتها وهو سبحانه المسئول أن يجعل أعمالنا خالصة في وجهتها بريئة من شوائب الغفلة وشبهتها وهو حسبنا ونعم الوكيل.