الحجاج بن يوسف

41- 95 هجرية

أبو محمد الحجاج بن يوسف - وهو ثقيفي - ذكره ابن الكلبي في جمهرة النسب، وقال: فولد منبه بن النبيت قسياً، وهو ثقيف فيما يقال والله أعلم، فمن ينسب ثقيفاً إلى إياد فهذا هو نسبهم، ثم اذبحوا له أسود سالخاً فأولغوه دمه، واطلوا به وجهه، فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع، قال: ففعلوا به ذلك؛ فكان لا يصبر عن سفك الدماء لما كان منه في أول أمره؛ وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدم عليها غيره.

 

وذكر ابن عبد ربه في العقد أن الحجاج وأباه كانا يعلمان الصبيان بالطائف، ثم لحق الحجاج بروح بن زنباع الجذامي وزير عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته إلى أن رأى عبد الملك انحلال عسكره وأن الناس لايرحلون برحيله ولاينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى روح بن زنباع، فقال له: إن في شرطتي رجلاً لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحل الناس برحيله وأنزلهم بنزوله يقال له الحجاج ابن يوسف، قال: فإنا قد قلدناه ذلك، فكان لا يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع، فوقف عليهم يوماً وقد أرحل الناس وهم على طعام يأكلون فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟ قالوا له: انزل يا ابن اللخناء فكل معنا، قال لهم: هيهات، ذهب ما هنالك، ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط وطوفهم في العسكر وأمر بفساطيط روح فأحرقت بالنار، فدخل روح على عبد الملك باكياً، وقال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج الذي كان في شرطتي ضرب غلماني وأحرق فساطيطي، قال: علي به، فلما دخل عليه قال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: أنا ما فعلت، قال: ومن فعل؟ قال: أنت فعلت، إنما يدي يدك، وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين أن يخلف لروح عوض الفسطاط فسطاطين، وعوض الغلام غلامين ولا يكسرني فيما قدمني له، فأخلف لروح ما ذهب له، وتقدم الحجاج في منزلته، وكان ذلك أول ما عرف من كفايته.

 

 

وحكى أبو أحمد العسكري في كتاب التصحيف أن الناس غبروا يقرؤون في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه نيفاً واربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق، ففزع الحجاج بن يوسف الثقفي إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فيقال: إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط أفراداً وأزواجاً وخالف بين أماكنها، فغبر الناس بذلك زماناً لا يكتبون إلا منقوطاً، فكان مع استعمال النقط أيضاً يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتبعون النقط الإعجام، فإذا أغفل الاستقصاء عن الكلمة فلم توف حقوقها اعترى التصحيف، فالتمسوا حيلة، فلم يقدروا فيها إلا على الأخذ من أفواه الرجال بالتلقين. حكى القاضي أبو الفرح المعافى في كتاب الجليس والأنيس قال: لما أراد الحجاج بن يوسف الخروج من البصرة إلى مكة شرفها الله تعالى: خطب الناس فقال: يا أهل البصرة، إني أريد الخروج إلى مكة، وقد استخلفت عليكم محمد ابني وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى أن يقيل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، ألا وإني قد أوصيته فيكم أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم؛ إلا وإنكم قائلون بعدي كلمة ليس يمنعكم من إظهارها إلا الخوف: لا أحسن الله له الصحابة، واني معجل لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة. قال أبو العباس المبرد في إسناد ذكره آخره عبد الملك بن عمير الليثي قال: بينما نحن في المسجد الجامع بالكوفة وأهل الكوفة يومئذ ذوو حال حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ أتانا آت فقال: هذا الحجاج ابن يوسف قد قدم أميراً على العراق، فإذا به قد دخل المسجد متعمماً بعمامة غطى بها أكثر وجهه متقلداً سيفاً متنكباً قوساً يؤم المنبر، فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق، قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أحصبه لكم؟ فقالوا: أمهل حتى ننظر، فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال:

أنا ابن جلا وطلاع الثـنـايا

 

متى أضع العمامة تعرفوني

 

ثم قال: والله يا أهل الكوفة والعراق إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى، وإن أمير المؤمنين نثر كنانته فعجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً وأصلبها مكسراً، فرماكم بي لأنكم طال ما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال، والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، فإنكم لكأهل (قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون). والله إني ما أقول إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت، وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه؛ يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم، فلم يقل أحد شيئاً، فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس فقال: يسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئاً؟ هذا أدب ابن نهية، أما والله لاؤدبتكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن، اقرأ عليهم يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق أحد في المسجد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام، ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم .  

 

وكان يرى رأي الخوارج، وكان من أصحاب قطري بن الفجاءة المزني التميمي، والفجاءة أمه، وكانت من بني شيبان، وإنما هو رجل من تميم. وكان قطري يومئذ يحارب المهلب، فبلغ قطرياً ما كان من سبرة مع الحجاج، فكتب إليه من جملة قصيدة:

لشتان ما بين ابن جعد وبيننا

 

فلما قرأ كتابه بكى وركب فرسه واخذ سلاحه ولحق بقطري؛ وطلبه الحجاج فلم يقدر عليه ولم يرع الحجاج إلا وكتاب فيه شعر قطري الذي كان كتب به إليه وفي أسفل الكتاب أبيات من جملتها:  

فمن مبلغ الحجاج أن سمـيره

 

قلى كل دين غير دين الخوارج

 

وقال الشعبي: سمعت الحجاج تكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، يقول: أما بعد، فإن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، فلا يغرنك شاهد الدنيا عن غائب الآخرة واقهروا طول الأمل بقصرالأجل.     

 

وكان الحجاج كثيراً ما يسأل القراء، فدخل عليه يوماً رجل فقال له: ما قبل قوله تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل). فقال: (قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار)، قال: فما سأل أحداً بعدها.

 

وقيل: أخذ الحجاج أعرابياً سرق فأمر بضربه فضرب، فكلما ضربه بالسوط قال: اللهم شكراً، فأتاه ابن عم له وقال: والله ما دعا الأمير إلى التمادي في ضربك إلا لكثرة شكرك لأن الله تعالى يقول: (ولئن شكرتم لأزيدنكم). فأمر بإطلاقه.

 

ثم أقبل الحجاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير، إلا أننا لم نر امرأة قط أفصح منها لساناً ولا أحسن محاورة ولا أملح وجهاً ولا أرصن شعراً منها، قال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة، فقالت: نعم أيها الأمير؛ هو الذي يقول:

 

حمامة بطـن الـواديين تـرنـمـي

 

سقاك من الغر الغوادي مطـيرهـا

أبيني لنا لا زال ريشـك نـاعـمـاً

 

ولا زلت في خضراء غض نضيرها

وكنت إذا ما جئت ليلى تبـرقـعـت

 

فقد رابني منها الغداة سـفـورهـا

يقول رجـال: لا يضـيرك بـأيهـا

 

بلى، كل ما شف النفوس يضيرهـا

بلى قد يضير العين أن تكثر البـكـا

 

ويمنع منها نومـهـا وسـرورهـا

وقد زعمت ليلـى بـأنـي فـاجـر

 

لنفسي تقاها أو عليها فـجـورهـا

 

فقال الحجاج: يا ليلى ما رابه من سفورك؟ قالت: أيها الأمير كان يلم بي كثيراً فأرسل إلي: آتيك، ففطن الحي به فترصدوا له، فلما أتاني سفرت، فعلم أن ذلك لشر فلم يزد على التسليم والرجوع، فقال: لله درك هل رأيت منه شيئاً تكرهينه؟ قالت: لا والذي أسأله أن يصلحك، غير أنه قال لي مرة قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشأت أقول:

 

وذي حاجة قلنا له لا تبح بها

 

فليس إليها ما حييت سبـيل

لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه

 

وأنت لأخرى صاحب وخليل

  

وكان الحجاج إذا سمع بنوح في دار هدمها، فلما مات ابنه وأخوه حن إلى النوح، وكان يعجبه أن يسمعه، وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:

 

هل ابنك إلا ابن من الناس فاصبري

 

فلن يرجع الموتى جنين المـآتـم

 

وكان يتمثل بهذا البيت أيضاً وهو:

 

فإن تحتسب تؤجر وإن تبكه تكن

 

كباكية لم يحي ميتاً بكـاؤهـا

 

وبالجملة فأخبار الحجاج كثيرة، وشرحها يطول. وهو الذي بنى مدينة واسط وكان شروعه في بنائها في سنة أربع وثمانين للهجرة وفرغ منها في سنة ست وثمانين، وإنما سماها واسط لأنها بين البصرة والكوفة فكأنها توسطت بين هذين المصرين؛ وذكر ابن الجوزي في كتاب شذور العقود المرتب على السنين أنه فرغ من بنائها في سنة ثمان وسبعين، وكان قد ابتدأ من سنة خمس وسبعين، والله أعلم.

ولما حضرته الوفاة أحضر منجماً فقال له: هل ترى في علمك ملكاً يموت؟ قال: نعم، ولست هو، فقال: وكيف ذلك؟ قال المنجم: لأن الذي يموت اسمه كليب، فقال الحجاج: أنا هو والله، بذلك كانت سمتني أمي، فأوصى عند ذلك.

وكان الحجاج ينشد في مرض موته هذين البيتين، وهما لعبيد بن سفيان العكلي:  

يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا

 

أيمانهم أنني من ساكني الـنـار

أيحلفون على عمـياء ويحـهـم

 

ما ظنهم بقديم العفـو غـفـار

 

وكتب إلى الوليد بن عبد الملك كتاباً يخبره فيه بمرضه، وكتب في آخره:  

إذا ما لقيت الله عنـي راضـياً

 

فإن سرور النفس فيما هنالـك

فحسبي حياة الله من كل مـيت

 

وحسبي بقاء الله من كل هالك

لقد ذاق هذا الموت من كان قبلنا

 

ونحن نذوق الموت من بعد ذلك

 

وكان مرضه بالأكلة وقعت في بطنه، ودعا بالطبيب لينظر إليها، فأخذ لحما وعلقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعة ثم أخرجه وقد لصق به دود كثير. وسلط الله تعالى عليه الزمهرير، فكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة ناراً وتدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحس بها؛ وشكا ما يجده إلى الحسن البصري ر فقال له: قد كنت نهيتك ألا تتعرض إلى الصالحين فلججت، فقال له: يا حسن، لا أسألك أن تسال الله أن يفرج عني، ولكني أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي، فبكى الحسن بكاء شديداً. وأقام الحجاج على هذه الحالة بهذه العلة خمسة عشر يوماً، وتوفي في شهر رمضان، وقيل في شوال سنة خمس وتسعين للهجرة وعمره ثلاث، وقيل أربع وخمسون سنة، وهو الأصح. 

 

وقال الطبري في تاريخه الكبير: توفي الحجاج يوم الجمعة لتسع بقين من شهر رمضان سنة خمس وتسعين، وقال غير الطبري: لما جاء موت الحجاج إلى حسن البصري سجد لله تعالى شكراً، وقال: اللهم إنك قد أمته فأمت عنا سنته. 

 

وكانت وفاته بمدينة واسط ودفن بها، وعفي قبره وأجري عليه الماء، رحمه الله تعالى وسامحه.

 

وكان قد رأى في منامه أن عينيه قلعتا، وكانت تحته هند بنت المهلب بن أبي صفرة الأزدي وهند بنت أسماء بن خارجة، فطلق الهندين اعتقاداً منه أن رؤياه تتأول بهما، فلم يلبث أن جاءه نعي أخيه محمد من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد، فقال: والله هذا تأويل رؤياي، محمد ومحمد في يوم واحد، إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: من يقول شعراً يسليني به؟ فقال الفرزدق:  

إن الرزية لا رزية مثلها

 

فقدان مثل محمد ومحمد

ملكان قد خلت المنابر منهما

 

أخذ الحمام عليهما بالمرصد

 المرجع: وفيات الأعيان